14-ديسمبر-2024
محمد طارق رمضان

القاضي السوري محمد طارق رمضان

يعد إصلاح النظام القضائي وإعادة صياغة الدستور من أبرز التحديات التي تواجهها الحكومة الانتقالية لإعادة بناء الدولة السورية، بعد عقود من تسخيرها لخدمة نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، ومن قبله الرئيس السابق حافظ الأسد. فقد تأثر النظام القضائي بشكل كبير بالفساد، وهيمنة قرار الفرد والحزب الواحد، الأمر الذي أفقد السلطة القضائية حيادها.

ومن نافل القول التذكير بأن السوريين يواجهون تحديات على مختلف الأصعدة، والتي يأتي في مقدمتها السلطة القضائية التي تتطلب تأسيس دولة قانون تقوم على العدالة والمساواة، وهذه الدولة لا يمكن أن ترى النور إلا من خلال إصلاحات قضائية ودستورية شاملة. إذ إن القضاء المستقل هو البوابة الأساسية لتحقيق العدالة، فلا يمكن لأي شخص أن يشعر بالأمان أو أن يثق في المؤسسات ما لم يكن هناك نظام قضائي قادر على محاسبة الجميع بغض النظر عن مناصبهم.

كما أنه ينبغي على الدستور الجديد أن يضع أسسًا واضحة لفصل السلطات، ويؤسس لدولة تعكس نضال السوريين الساعين إلى بناء دولة تحترم حقوق الإنسان وتضمن المواطنة المتساوية لكل فرد. 

ينبغي على الدستور الجديد أن يضع أسسًا واضحة لفصل السلطات، ويؤسس لدولة تعكس نضال السوريين الساعين إلى بناء دولة تحترم حقوق الإنسان وتضمن المواطنة المتساوية لكل فرد

وفي محاولة لتقديم تصوّر عن مجموعة من الأسئلة المرتبطة بإصلاح السلطة القضائية يستضيف موقع "ألترا صوت" في هذه السلسلة الحوارية مجموعة من خبراء القضاء والقانون السوري لتفسير الإصلاحات التي يمكن إدخالها على المؤسسة القضائية في سوريا.

نستضيف في الحلقة الأولى من هذه السلسلة القاضي، محمد طارق رمضان، رئيس النيابة العامة في دمشق، الذي يستفيد من خبرته القضائية الممتدة بعد شغله عدة مناصب في المجال القانوني. وهو حاصل على شهادة بكالوريوس في الحقوق، إضافة إلى خبرته الواسعة في مجالات غسيل الأموال والقانون الدولي الإنساني، والتي من خلالها يمكننا الاطلاع أكثر على النظام القضائي السوري، وكيفية إعادة هيكلة النظام القضائي ليكون قادرًا على محاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم، وضمان حقوق الأفراد بشكل متساوٍ، وصولًا إلى شكل الدستور الذي يطمح له السوريون.

  • كيف يمكن تحقيق المواطنة المتساوية في مجتمع يواجه تحديات العنف الطائفي والعرقي؟ وكيف سيتم إعادة بناء الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة القضائية؟ 

مجتمعنا في الأصل لا يعيش الطائفية ولا يمارسها، بمعنى أنه لم نعش حربًا طائفية في سوريا، كما حدث في العراق مثلًا. أرى أن الطائفية بدأت تظهر عندما تولت الأقلية الحكم. هذا لا يعني أن هناك أقلية وأكثرية، أو أن الأقلية لا يجب أن تتولى الحكم. لكن الممارسات التي مارستها الأقلية عند توليها للحكم خلقت نوعًا من أنواع الحساسية الطائفية، لا سيما بعد بدء الثورة السورية والقمع الذي تم كيله للثوار.

المواطنة يحققها دستور عادل يعطي لكل شخص حقه، والذي يرسم سياسة الدولة بشكل عام، ويحدد الحقوق والواجبات. أما بالنسبة لطريقة الحكم ووجود عنف طائفي، لقد لاحظ العالم أن سوريا لم تعانِ من حكم طائفي، بل كانت السلطة تكيل الظلم للجميع، وكانت توزع الظلم بعدالة. ليس لدينا مشكلة في العنف الطائفي، وأكبر دليل أنه لم يكن هناك عنف طائفي حقيقي في سوريا في هذه المرحلة الانتقالية، وخلال تحرير المدن السورية من قبل القيادة العامة. وحتى الآن والشعب والثورة أبدوا وعيًا كبيرًا رغم محاولة الطاغية بشار الأسد) مرارًا التحشيد الطائفي.

 بخصوص مؤسسة القضاء، لقد عانت من التهميش ونقص الإمكانات مثلها مثل باقي القطاعات في سوريا. لقد عانت من الإملاءات، ومن محاولة السيطرة عليها وجعلها في خدمة الحكومة والنظام. المؤسسة القضائية مثل جميع المؤسسات بحاجة إلى إعادة هيكلة ورسم سياسات وحوكمة. القضاء له خصوصية معينة، لا يمكن القيام بنهضة في أي دولة بالعالم بدون قضاء عادل. لا يمكن أن تعود الحياة طبيعية كما تريد الحكومة الانتقالية دون أن يعمل القضاء، والسبب أنك لن تستطيع إجراء أي معاملة تجارية أو مدنية إلا إذ كنت مرتكزًا إلى قضاء عادل يضمن حصول كل شخص على حقه، ولن يمارس أي شخص أو شركة أو تاجر أعماله بدون ضمان حقوقه من أي عملية احتيال أو سرقة، لأن عجلة الاقتصاد لن تدور إلا بذلك. 

وهذا ما انتبهت إليه الحكومة الانتقالية، وأصدرت التعميم بإعادة العمل في المحاكم اعتبارًا من يوم الأحد المقبل. لكن الأمور لا تزال ضبابية بعض الشيء، وهو أمر متوقع في هذه المرحلة الانتقالية، خاصة فيما يتعلق بتعديل القوانين، ومدى صحة القوانين الحالية، وأي منها يجب أن يكون الأولوية في التطبيق. لكن برأيي ورأي خبراء القانون الدستوري إنه عند نشوب الثورة يسقط الدستور، وتبقى الأنظمة والقوانين ريثما يتم تعديلها تباعًا، وهذا الكلام الذي لم نتأكد من إمكانية تطبيقه حتى الآن. 

  • كيف يمكن تحقيق فصل الدين عن الدولة عمليًا في مجتمع متعدد الأديان والطوائف مثل سوريا؟ وما الخطوات التي تقترحها لضمان عدم المساس بحرية الدين والمعتقد؟ 

عندما يريد الشعب السوري فصل الدين عن الدولة فإنه سيقرر ذلك بالدستور. الدستور هو الذي سيحدد شكل الدولة. هل هي دولة دينية أم دولة مدنية؟ لكن يجب أن يكون للدستور عقد اجتماعي تحدده هيئة عامة من النخب ومن كامل أطياف الشعب السوري. إذا كانت غالبية الشعب السوري تريد دولة دينية، فإنهم سيرسمون دستورًا دينيًّا. أما إذا أراد الشعب السوري الذهاب إلى دولة مدنية، فالمفروض أن تؤسس الهيئة العامة لدولة مدنية بدستور مدني. 

القاضي محمد طارق رمضان 
القاضي محمد طارق رمضان 

لكن أن يحكم المتدينون الإسلاميون لا يعني أننا أمام دولة دينية. تركيا دولة علمانية، لكن يحكمها حزب إسلامي، لذا المشكلة ليست في دينية الدولة، بقدر ما هو مساعدتنا على رسم دستور مناسب للسوريين. أيضًا حرية الدين والمعتقد يجب أن يصونها الدستور، ويجب أن يمارس كل شخص في سوريا عقائده الدينية الخاصة. سوريا دولة ذات طبيعة خاصة تحتوي 17 طائفة، إلا أنها ليست الوحيدة في العالم التي تحتوي هذه الأعراق والأديان. الولايات المتحدة مليئة بالأعراق والأديان، لكن ما يحمي الشخص في هذه الدول هو الدستور الذي يبيّن الحقوق والواجبات ويرسم السلطات ويحدد شكل الدولة، ويهمنا ألا يكون هناك تمييز في الدستور على أساس الدين أو العرق أو الاتجاه السياسي وأن يبقي سوريا موحدة ويحمي حرية المعتقد.

  • كيف سيتم التعامل مع الانتهاكات السابقة لحقوق الإنسان؟ وهل هناك رؤية لإنشاء محاكم خاصة أو لجان عدالة انتقالية؟ ما موقفكم من إنشاء محاكم مختصة للجرائم التي ارتُكبت خلال فترة الحرب؟ 

هناك جدلية كبيرة بشأن الانتهاكات السابقة منذ بدأت الثورة وحتى الآن، فهناك من يدعو إلى التسامح، وهناك من يدعو إلى المحاسبة. أرى أنّ هناك دائمًا عدالة انتقالية يجب أن ترافق بناء الدولة الجديدة ، أي أن من ارتكب جرمًا يجب أن يحاسب وفق الأنظمة والقوانين.

المؤسسات القضائية جاهزة لمحاكمة أي شخص ارتكب جرمًا. التعذيب أو الإجرام أو القتل معاقب عليه في القانون السوري، ويجب أن يلقى كل شخص ثبت عليه ارتكاب جريمة عقابه. العفو يكون عن الأشخاص الذين ضُللوا بالرأي. الذين ناصروا النظام السابق وهذا ما انتهجته الحكومة الانتقالية حتى الآن. أما العفو عن مرتكبي الجرائم فإنه، من وجهة نظري كقانوني يؤمن بالعدالة الانتقالية، أن يتلقى كل فرد نتاج أعماله. 

لقد تواصلت مع أصدقائي في اللاذقية من الأخوة العلويين، وجميعهم قالوا لن نضّيع أربعة ملايين علوي مقابل 200 أو 2000 شخص ارتكبوا جرائم ضد الشعب السوري. الأخوة العلويون يطالبون بالعدالة الانتقالية مثلما يطالب بها الشعب السوري. الشعب السوري رغم أنه تواق للحرية، وقد عانى حرمان من الحِراك السياسي فالحياة السياسية والحزبية في سوريا كانت معدومة. لكن هذا الشعب يمتلك وعيًا جيدًا وحسًا وطنيًا عاليًا. جميعنا يريد محاسبة الذي تلوثت يده بالدم السوري. أما المحاسبة الشخصية أو الذاتية أو الانتقامية يرفضها الجميع. لقد تم إجراء محاكمات في ألمانيا بعد سقوط النظام النازي لكبار الضباط بطريقة عادلة، حصلوا فيها على حقوقهم في التقاضي، ومنهم من نفذت فيهم الأحكام، لذا أرى أن العدالة الانتقالية مطلوبة. 

  • ما رؤيتكم لإعادة هيكلة النظام القضائي في سوريا؟ 

حتى نعرف كيف يجب أن يكون استقلال القضاء، هناك تجارب محيطة في الدول المتقدمة، لذا يجب أن ننهج نهجهم مع مراعاة الخصوصية السورية. نحن لدينا مشاكل في السيطرة على القضاء وإضعافه وإفقار القضاة قصدًا عندما كنا في ظل النظام البائد. السيطرة على القضاء كانت بتحكم وزير للعدل الذي يقوم بالسيطرة على السلطة القضائية، والقاضي الذي لا ينفذ التعليمات يتم نقله أو تهميشه. الدستور السوري بحاجة إلى تعديل لجهة ما يتعلق بهيكلة واستقلال القضاء، وعدم تبعية السلطة القضائية لوزير العدل، بل يجب أن تكون تابعة لمجلس قضاء أعلى.

طبعًا هكذا أرى الموضوع، وهو بحاجة إلى دراسة مستفيضة ورأي أكثر من خبير قانوني لإعطاء رؤية للقضاء السوري في المرحلة القادمة. لكن البداية تكون بالدستور الذي يرسم شكل السلطة القضائية، ومن ثم صدور قانون سلطة قضائية متطور هو الذي يحكم طريقة العمل القضائية، ويضمن استقلالية القضاء.  

  • كيف سيتم ضمان استقلالية القضاء بعيدًا عن تأثير السياسة والأجهزة الأمنية؟

أرى أن القضاء في سوريا ليس متخلفًا. لدينا قضاة متميزين، ولدينا مجموعة من القضاة المدربين جيدًا. نحن بحاجة إلى تطوير منصات القضاء، وتطوير القوانين، وضمانة استقلال القاضي. لدينا أنظمة لمحاسبة القضاة، ولدينا هيئة للتفتيش القضائي تتابع أعمال القضاء وهفوات بعض القضاة، لكننا بحاجة إلى الكثير من العمل والخبرات، وبحاجة إلى الكثير من اللقاءات مع المجتمع الخارجي. نحن منذ 11 عامًا معزولون عن العالم، وكأننا جزيرة في المحيط الهادئ. لا يوجد أي تلاقح ثقافي أو علمي بين القضاة في سوريا والقضاة خارجها.

ليس هناك قاضٍ ينهي علمه أو تدريبه. هناك علوم قضائية وجنائية  حديثة، ونحن بحاجة لجميع هذه العلوم. نحن بحاجة إلى تضافر جهود ودعم من المجتمعين العربي والعالمي لإعادة بناء سوريا الجديدة. بالنسبة للسلطة الموجودة الآن قامت بتعليق الدستور ومجلس الشعب خلال المرحلة الانتقالية والممتدةً حتى الأول من آذار/مارس المقبل، وهذا شيء منطقي. جميع المؤسسات كانت شكلية في سوريا، وللأسف أقول لك حتى السلطة القضائية كانت في بعض الأحيان شكلية في بعض الأمور، بمعنى كانت تستطيع محاسبة الناس، لكن لا تستطيع محاسبة السلطة. 

المؤسسات القضائية جاهزة لمحاكمة أي شخص ارتكب جرمًا. التعذيب أو الإجرام أو القتل معاقب عليه في القانون السوري، ويجب أن يلقى كل شخص ثبت عليه ارتكاب جريمة عقابه

هناك جهد كبير يجب أن يُبذل حول ثورة تشريعية في سوريا لتعديل بعض القوانين الجائرة، مثل قوانين التعامل بغير الليرة السورية، بالإضافة إلى القوانين المالية والاقتصادية. لقد كانت فترة عصيبة في السنوات العشر الأخيرة في المجال التشريعي والقضائي.

  • كيف يمكن الموازنة بين العدالة والمصالحة الوطنية لضمان استقرار البلاد؟

للصراحة الجميع اليوم يراقب حركة المعارضة السورية والحكومة الانتقالية. هناك دائمًا تخوف عالمي من الحركات الإسلامية الجميع يترقب، والظاهر حتى الآن أن هذه الحكومة تمارس نوع من التنظيم وإعادة الخدمات الأساسية. وقد ورثت تركة ثقيلة من انعدام الخدمات والفلتان الأمني، والنوايا تبدو جيدة لبناء سوريا من جديد والشعب ملتف حول الحكومة. 

الآن نحن أمام مرحلة انتقالية يجب أن يرسمها الشعب السوري. الجميع اتفق على أن يكون داعمًا لهذه الثورة في الأشهر الثلاثة الأولى. هذه السلطة التي أسقطت النظام وأراحت الشعب السوري من معاناته، وبعد ثلاثة أشهر ستبدأ مرحلة العمل السياسي. مشاكل كثيرة تواجه المجتمع السوري في مجال العمل السياسي. فقد ألغى الحكم السابق الأحزاب والحياة السياسية في سوريا، ليس هناك حياة سياسية في سوريا. ليس هناك نقابات حقيقية في سوريا. جميعها عبارة عن مجموعة أحزاب ضعيفة ليس لها أي أنصار ولا أي وزن ولا أي شعبية، بالإضافة إلى عدم ترسّخ القيم الديمقراطية لدى المجتمع السوري بفعل النظام السابق. 

يتطلب العمل السياسي مفكرين وباحثين وحقوقيين سوريين يتضافر جهدهم مع قيادة الثورة لتحقيق دستور يليق بسوريا. هذا الدستور هو أهم منتج يجب العمل عليه، هذا الدستور الذي سينشأ هو الذي سينظم شكل الحكم في سوريا لـ20 أو 30 عامًا مقبلًا. كل العالم يجب أن يساعدنا على هذا الدستور، ولو أنه ينبغي أن يكون  عمل سوري خالص، لكن نحن بحاجة للخبرات والاطلاع، لا ينقص سوريا الخبرة أو الإرادة على بناء دستور جديد. لا أرى أن القيادة العامة أو الحكومة الجديدة  ستعارض أو تقف أمام دستور متطور يعيد سوريا إلى قائمة الدول المتطورة.