23-أغسطس-2018

جامع القيروان الكبير

لماذا لعبت الكتابة التاريخيّة أسوأ الأدوار في خلق تورّم داخل الذات العربيّة الإسلاميّة؟ سؤال حاولت الإجابة عنه عديد الأصوات العربيّة والمغاربيّة خاصّة. وقد تميّزت الساحة التونسيّة بمؤرّخين مميّزين تصدّرهم المفكّر هشام جعيّط الذّي ساهم في خلق جيل من الباحثين الأفذاذ بالمجال.

دور المؤرخ كان ولا يزال تحويل الذاكرة -كمادّة خام- إلى كتابة تاريخيّة، وتجنيبها خطر التوظيف من قبل الأنظمة السياسيّة لكلّ عصر من العصور

كتاب "نحن والتاريخ" للكاتب التونسيّ نبيل درغوث، صدر عن "دار آفاق" في العام الجاري، وكان فرصة لاستنطاق أهمّ الباحثين التونسيّين في مجال التأريخ الإسلاميّ، وذلك عبر مجموعة من الحوارات والشهادات لتبيان علاقته بين الإنسان والزمن والجغرافيا والنظريّات.

حياة عمامو: الشورى لم تُعتمد –باعتبارها ممارسة سياسيّة- إلاّ مرّة واحدة!

نوّهت الدكتورة حياة عمامو في مستهلّ الحوارات بضرورة عدم الخلط بين التاريخ والذاكرة، وأنّ دور المؤرخ كان ولا يزال تحويل الذاكرة -كمادّة خام- إلى كتابة تاريخيّة، وتجنيبها خطر التوظيف من قبل الأنظمة السياسيّة لكلّ عصر من العصور. كما نفتْ عن الأتراك مسؤوليّة التخلّف الحضاريّ المريع الذّي سقط فيه العرب، لأنّ التاريخ ببساطة ليس خطًّا مستقيمًا  يتوقّف في لحظة معيّنة ليخرج منه أناس ويدخل فيه آخرون. فقد اكتفى العثمانيّون بإعادة إنتاج نظام سياسيّ واجتماعيّ واقتصاديّ تجاوزته الأحداث بالمنطق الذّي ساد أوروبا من القرن الخامس عشر ميلادي، ولهذا السبب انقلب ميزان القوى لصالح أوروبا وتخلّف المسلمون.   

اقرأ/ي أيضًا: التاريخ الضائع للتسامح الثقافي

أكّدت الباحة التونسيّة أنّ مفهومي الشورى والديمقراطيّة لا يلتقيان ويوجد بينهما قواسم مشتركة، وأنّ الشورى لم يتمّ اعتمادها في التاريخ الإسلاميّ إلاّ مرّة واحدة بعد مقتل عمر بن الخطّاب. كما أنّ صعوبة البحث في التاريخ الإسلام المبكّر تكمن في غياب الوثائق المباشرة كالأرشيفات والنقائش، واعتمدت أغلب الدراسات على نصوص إخباريّة وأدبيّة وفقهيّة وجغرافيّة وهو ما أثار حفيظة الكثير من الباحثين والمستشرقين الذّين اعتمد بعضهم على مصادر أجنبيّة مثل اليونانيّة والسريانيّة أو دعا آخرون إلى التخلّي عن كتابة هذه الفترة من تاريخ المسلمين. إضافة إلى كلّ ذلك جزمت عمامو أنّه لا يوجد بحث تاريخيّ جماعيّ في العالم العربي، خاصّة خارج إطار بعض المؤسسات الأجنبيّة.

سلوى العايب: أسلمة المسيحيّين العرب قديمًا كانت مشحونة بالدافع القومي العربي

في الجزء الثاني من الكتاب، أشارت الدكتورة سلوى العايب أنّ اهتمام المؤرّخين انصبّ بالتاريخ الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 وما تلاها من أحداث نسبت إلى جماعات متطرّفة إسلاميّة، وبعقيدة الإسلام لمحاولة فهم ما يجري في الحاضر. كما أعادت الفضل للمستشرقين الألمان في فتح تاريخ البحث في التاريخ الاسلامي وفق المناهج الحديثة منذ القرن التاسع عشر وعلى رأسهم نولدكه صاحب كتاب "تاريخ القرآن"، وإلى الآن لا يزال الغرب يمركز الأبحاث في هذا المبحث حاليًّا رغم وجود جيل جاد وكفؤ من الباحثين العرب.

اهتمّت الدكتورة سلوى بتأريخ المسيحيّة العربيّة، وتوصّلت إلى أنّ المنعرج الحاسم في تاريخها كانت فترة الخلافة الراشدة التّي قلّصت حضورها جغرافيًّا وبشريًّا وفتح باب الأسلمة المشحونة بالدافع القومي العربي، واندثر المسيحيّون العرب الأقحاح بشكل تلقائيّ كطائفة منظّمة بأسقف بعد أربعة قرون رغم مساهمة بدور اقتصاديّ وثقافيّ وعلميّ هامّ، كما تمّ التعامل معهم على أساس التمييز الديني. وأشارت إلى أنّ تأثير المسيحيّة على الإسلام واضح المعالم خاصّة بصور الآخرة وتوصيف الجنّة، ويعكس معرفة دقيقة بالإنجيل والعهد القديم وببعض المراجع الدينيّة اليهوديّة وأنّ الأطروحة التّي طرحها الدكتور هشام جعيّط متماسكة ومبنيّة على تحليل منطقيّ وعقلانيّ للتاريخ.

للتذكير، خصّصت الباحثة أحد كتبها المعنون "دثّريني يا خديجة" لزوجة لزوجة نبيّ الإسلام محمّد الأولى، والتّي ترعرعت في محيط مطلع على المسيحيّة، وأرجعت سبب تغييب هذه الشخصيّة المهمّة عن سند رسالة محمّد إلى طبيعة المجتمع القرشي الأبوي-الذكوريّ.

بثينة بن حسين: أحيى الأمويّون كلّ التقاليد القرشيّة العربيّة من شرف ومحاباة

حاولت الدكتورة بثينة بن حسين تطبيق مناهج التأريخ الحديثة لدراسة الأنثروبولوجيا التاريخيّة الخاصّة بدور المرأة في الفترة الأمويّة، وأشارت أنّ الخليفة عثمان بن عفّان مسؤول عن إحياء كلّ التقاليد القرشيّة العربيّة من شرف ومحاباة لأفراد العشيرة، وكانت سياسته هذه أهمّ أسباب اندلاع الفتنة الأولى في الإسلام، وأساسًا أيديولوجيًّا واجتماعيًّا أسّس عليه معاوية بن أبي سفيان الدولة الأمويّة، كما ساهمت بدورها في إثارة صراعات أسقطتها بسبب رفضهم إدماج العناصر الأعجميّة وتقتيلهم للشيعة العلويّين. كما اعتبرت الباحثة أنّ معاوية يعدّ أب الممارسة السياسيّة العربيّة، بدهاءٍ ورثه عن أبيه ودعّمه بالاستعانة برجال دهاة مثل عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة الثقفي. كما ساهم من خلفوه في تكوين نواة بيروقراطيّة من الكتبة النصرانيّين والعرب لتطوير الدواوين كأساس لتوطيد الحكم. رغم ذلك، أكّدت أنّ مؤسسة الخلافة -التّي تعدّ ابتداعًا اسلاميًّا- تقوم على أساس دينيّ وليس سياسيًّا، وطوّره الأمويّون إلى نظام ملكيّ.

مؤسسة الخلافة -التّي تعدّ ابتداعًا إسلاميًّا- تقوم على أساس دينيّ وليس سياسيًّا، وطوّره الأمويّون إلى نظام ملكيّ

أشارت الدكتورة بثينة بن حسين في كتابها "الدولة الأمويّة ومقوّماتها الأيديولوجيّة والاجتماعيّة" أن العراق بقي مركز الثورات ضدّ السلطة المركزيّة لتعاطفه مع الشيعة والخوارج، بسبب أنّ قرّاءه، خاصّة في الكوفة، ساهموا في جمع القرآن وبقوا موالين لصفّ عليّ بن أبي طالب، كما دعّم شعورهم بالذنب تجاه مقتل حسين بن علي في كربلاء هذا الارتباط العاطفيّ. ومن الملفت أنّ الباحثة تستعمل عبارة "حواريي" الرسول عوضًا عن "أصحاب" في كتاباتها، وعلّلت ذلك بأنّ ابن سعد استعمله حرفيًّا في كتابه "الطبقات الكبرى"، واستعمله الرسول مشيرًا للصحابيّ الزبير بن العوّام.

محمّد الطاهر المنصوري: يمكن للمؤرخ أن يغيّر الحاضر ولا يمكنه تغيير الماضي

يعدّ الدكتور محمّد الطاهر المنصوري من أهمّ الباحثين العرب المختصين في التاريخ البيزنطي وفي العلاقات المتوسطيّة في العصر الوسيط، تنوّعت كتاباته بين اللّغة الفرنسيّة والعربيّة. من أعماله ترجمة لكتاب "إسكان الغريب في العالم المتوسّطي" لأوليفيا ريمي كونستابل عن الانجليزيّة. كتاب مهمّ لأنّه يتناول بالدرس العلاقات الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة للعالم المتوسّطي من خلال دراسة لمؤسسة الفندق، خاصّة خضوع الغرباء إلى جملة من القوانين والأوامر والتضييقات مارستها الدول المضيفة لأنّ "الغريب هو من لا سبيل له إلى الأوطان ولا طاقة له على الاستيطان" كما قال أبو حيّان التوحيدي.

اقرأ/ي أيضًا: حلب.. الحرب على التاريخ والهوية

حاول المنصوري خلال بحوثه اتباع الظواهر التاريخيّة انطلاقًا من جذورها إلى أمد طويل، وأشار أنّه لا يمكن أن نقسّم ظاهرة بصورة اعتباطيّة بحكم التحقيب الاصطلاحي للتاريخ والسعي لإسقاط الحدود الزمنيّة أو النظر إليها بحسب حقول البحث. انتقد كذلك تراجع البحث التاريخي عربيًّا بعد طغيان المعتقد والعاطفة عليه، واقتصر دور المؤرّخ على إيجاد المبرّرات والمسوّغات لما يؤمن به الناس لا إلى تفكيك الظواهر. ويصرّح أنّه وجد متعة فكريّة في الانغماس في التاريخ البيزنطيّ، وبابًا لدراسة العلاقات المسيحيّة الإسلامية في العصر الوسيط التّي كانت علاقات عاديّة وليست عدائيّة، وأسف على تغييب هذا الحقل البحثيّ وتهميشه في العالم العربي بسبب موقف المشرفين الساعين دائمًا إلى جلب الناس إلى مجال اختصاصهم وتهويل الاختصاصات التّي يجهلون، ولأسباب عقائديّة وحضاريّة يخاف استنقاص الحضارة العربيّة، هذا بالإضافة لظاهرة انتحال البحوث في العالم الإسلامي. 

نحن والتاريخ

من جهة أخرى أشار المنصوري إلى أنّ حركات التطرّف الديني لم تنظر إلى الواقع التاريخيّ، بل اختارت ما بدا منه ايجابيًّا وأبيض ناصعًا وحنّطت بعض الأحداث، وانتقت بعض الشخصيّات واعتبرتها نماذج يمكن التشبه بها. يعود السبب في ذلك إلى عدم فهم العلاقة بين النصّ الديني والواقع التاريخي، وعدم التفريق بين إسلاميْ النصّ والتاريخ، وتساءل: "هل كان النصّ الدينيّ مطبّقًا في التاريخ؟"، وأكّد أيضًا أنّ الكتابة التاريخيّة في العالم الإسلامي ساهمت في خلق تورّم في الذات العربيّة الإسلامية وتمزّق طائفيّ وعرقيّ وعقائديّ، وأنّ تاريخ أيّة حضارة كانت لم يكن قطّ جميلًا.

محمّد العادل لطيّف: الخوف كمبحث تاريخيّ

يقول الدكتور محمّد العادل لطيّف إنّ ميشال فوكو أقنعنا بوجوب إعادة النظر في كيفيّة كتابة التاريخ، والذّي لا يمكن أن يفسّر إلاّ انطلاقًا من الأسفل وممّا هو أكثر بساطة وأوّليّة ووضوحًا: الخوف. ففي كتابه "الخوف ببلاد المغرب في العصر الوسيط" حاول دراسة عاطفة بنتْ العقليّات والذهنيّات والأفكار في هذه المنطقة. أشار كذلك أنّ أطروحة خوف العرب من البحر أسطورة وضعها التاريخ الاستعماري في القرن التاسع عشر، لكن لم ينف محدوديّة الهيمنة الإسلامية على البحر المتوسّط مجاليًّا وزمنيًّا لأسباب سياسيّة وتقنيّة وفكريّة، وأنّ النخب المتسلّطة والعالمة بالعالم العربي والإسلامي لم تقدر على استيعاب أو تقييم أبعاد التحوّل التاريخي الذّي سبّبه اكتشاف القارّة الأمريكيّة، والذّي سيقلب كلّ المعطيات رأسًا على عقب، ولم تكن السفن الإسلاميّة قادرة إلاّ على القيام بأعمال القرصنة كما بيّنه ابن خلدون بصفة غير واعية في كتاب العبر. في الوقت الذّي كان الأوروبيّون يطوّرون فيه تقنيات السفن والمراكب، ظلّ المسلمون ينتجون مشتقّات الخوف عبر معتقداتهم وخرافاتهم: الخوف من اللّه، من السحر، من عذاب القبر، من يوم القيامة وجهنّم، من القيامة وجهنّم، من الجنّ والشيطان، من حصول الخطيئة والسعلاة.. إلخ.

كلّس الخوف كلّ الدراسات العلميّة في علم الاجتماع والأدب والتاريخ، وشوّه كلّ تفكير منطقيّ دافعًا نحو استنتاجات مبتورة وعقيمة ومزيّفة

عمّقت ذلك الجوائح والكوارث والأوبئة والآفات من قحط وجفاف وجراد، وجنح الناس إلى الصمت والتقوقع في انتظار موت بطيء وأن يلوذوا بالأولياء الصالحين في ظلّ الاستبداد السياسيّ والدينيّ إلى الآن. كلّس الخوف كلّ الدراسات العلميّة في علم الاجتماع والأدب والتاريخ، وشوّه كلّ تفكير منطقيّ دافعًا نحو استنتاجات مبتورة وعقيمة ومزيّفة. قد تُمكّننا إعادة قراءة تاريخنا الإسلامي من تجاوز عديد الإشكاليّات، وإنّ شعبا يتناسى آلامه سيكون محكومًا عليه بتكبّدها من جديد. 

صوفيّة بن حتيرة: الجسد هو فجر التاريخ

نوّهت الدكتورة صوفيّة بن حتيرة أنّ كلمة "تاريخ" لا توجد في القرآن ولا في الحديث، ولا فيما عرف من أدب جاهليّ، وأرجعها أغلب المؤلّفين المسلمين إلى أصل فارسيّ وأن هذا العلم ارتبط بالحديث عند المسلمين. تمّ إخراج علم التاريخ عن دائرة الإيمان والمعتقد ووضح حدًّا نهائيًّا للإسناد كمنهج، ويعود الفضل في ذلك إلى ابن خلدون. واعتبرت القرآن مصدرًا تاريخيًّا حوى عدّة عناصر مستقاة من العادات والتقاليد الموروثة، يعكس ذهنيّة العصر الذّي جاء فيه من نمط تفكير ومعارف ومظاهر اجتماعيّة.

اقرأ/ي أيضًا: هل نقرأ التاريخ؟

تشير بن حتيرة أنّ تاريخ الإنسان على الأرض بدأ باكتشاف الجسد، عبر اكتشاف آدم وحوّاء لجسديهما العاريين. لم يكن للإنسان تاريخ قبل ذلك بل كان الوجود سديمًا لا زمن له. لهذا السبب بحثت الجسد الأنثويّ في العهد الحفصي الذّي حكم تونس بين القرنين 13 و15 ميلادي. اعتبر الحفصيّون أنّ القراءة والكتابة صفة ذكوريّة، وأفتت بمنع خروج النساء لحضور الاجتماعات الدراسيّة والدينيّة وهو ما ربط الثقافة بالرجل والجهل بالمرأة، رغم أنّ المرأة القرطاجيّة كانت متعلّمة، ومن المفارقات في تونس أنّ أوّل مدرسة بالحاضرة التونسيّة "المدرسة التوفيقيّة" أنشأتها امرأة وعلى نفقتها الخاصّة وهي الأميرة عطف زوجة أبي زكرياء الحفصي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ركن الورّاقين (5): ديوان التاريخ الإسلاميّ

ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (ابن خلدون)‎