20-مايو-2016

(Getty)

أحدّق بابنة أختي البالغة عشرة شهور وهي لا تلبث أن تلقط أنفاسها حتّى تعود إلى بكائها الهستيري. أحدّق بغضب آملة من قوّة خارقة أن تُسيطر على تصرّفها غير المُبرّر وغير المفهوم. ولكن ما دون الغضب، أحدّق بشيء من الغيرة.

قبل أن نذرف دمعة واحدة، نمّر تلقائيًّا بعملية فرز وفلترة تأخذ المجتمع والجندر والمحيط بعين الاعتبار

أتذكّر آخر مرّة بكيت فيها. كانت في ظلمة وعزلة تامّة كي لا يراني أحد.

اقرأ/ي أيضًا: موديانو والنافذة التي تشبه المقصلة

لماذا لا يبكي الكبار كالأطفال؟ فنحن الكبار قبل أن نذرف دمعة واحدة، نمّر تلقائيًّا بعملية فرز وفلترة تأخذ المجتمع والجندر والمحيط بعين الاعتبار، ما يملي علينا مسؤوليات وتوقعات كبيرة تفصلنا عن عفويتنا ومشاعرنا.

تطرح لنا البيئة الحضارية التي أصبح وجودنا معتمدًا عليها اعتمادًا كليًّا رغم أنها اصطناعية ومُقحمة، طريقتين مضادتين للتعامل مع البيئة الطبيعية وغرائزنا الحيوانيّة: أوّلًا، قمعها أو الانفصال عنها لكونها همجيّة وغير متناسقة مع الرّقي البشري أو النمط المعيشي المعاصر، ثانياً، الاتجار بها كوسيلة تُحقق أرباحًا ماديّة تعود بالفائدة على النظام الرأسمالي الحاكم عن طريق الترويج لها أو تهذيبها داخل منظومات تابعة للنظام نفسه.

رجل الأدغال أمام التّنسك والعقلانيّة

تضّم المدرسة الأولى والقائمة على القمع، الفكر الدّيني الزاهد الّذي يحث على ترويض الغريزة والجسد والفطرة كونها عوامل تسيطر على عاطفة وإرادة الإنسان وتغويه بالخطيئة. يَعتبر الدّين (ليس كلّ الأديان بالطّبع)، أنّ الإنسان ليس فقط حيوانًا يتشبّع من غريزته، فهو كائن روحي تمتد قدراته واحتياجاته إلى مكنونات أبعد من أن تكون مرئية وفانية.

ولذلك يتحدّى الدّين وبصرامة، الغريزة الإنسانية من خلال طقوس تُكرّس الروح بينما تُنظّم الجسد مثل الصّوم، والامتناع عن الجنس خارج  إطار الزواج، والتمثل بشخوصات تعكس صورة المؤمن عوضًا عن التصرّف بالفطرة.

 

أمّا الفكر الثاني المنضوي تحت المدرسة ذاتها ولكن أقرب إلى الانفصال عن القمع، فتابع لعصر الحداثة وما يتخلله من حركة التنوير والثورة الصّناعية وتأسيس الدّول القوميّة والرأسمالية. ففي هذه المرحلة ظهرت العلوم والعقلانية كمعيارين بديلين للعقيدة الروحانيّة- الأسطورية. وبينما كان للطبيعة، قبل هذا التغيير، وقعٌ أساسيّ في إدارة وتنظيم حياة الإنسان الّذي بدوره كان متجانسًا حسيًّا واقتصاديًّا مع محدوديات بيئته، تلاشت، بعد التغيير، أيّة علاقة تكافليّة ونشأ نظام مُعادٍ يسلّط الإنسان على الطبيعة ويجرّدها من أيّ دور في تسيير البشرية.

بدأ الإنسان ينسحب تدريجيّا جسديًّا ومجازيًا من الطبيعة التي أصبحت عائقًا لحياته الحديثة

وهكذا بدأ الإنسان ينسحب تدريجيّا جسديًّا ومجازيًا من الطبيعة التي أصبحت عائقًا لحياته الحديثة المتمحورة حول إرضاء الفكر والآلة. فأصبح العمل، والطعام، والتزاوج غير مرتبط بأي عناصر طبيعيّة، بل بمحدوديات وقوانين يفرضها رأس المال والمهنة.

اقرأ/ي أيضًا: معرض فلسطين للكتاب.. لم يفتكم الكثير

رجل الأدغال أمام الرأسماليّة 

بالرّغم من دور الرأسمالية في الإطاحة بالبيئة الطّبيعيّة إلّا أنها بالوقت نفسه تثيرالشهوة وتستغلها للوصول إلى أهداف ماديّة. فالتّسويق بحد ذاته مجالٌ قائم على إثارة الغرائز وإنتهاز ضعف إرادة الإنسان أمامها. فعلى سبيل المثال نجد أنّ معظم الإعلانات إضافةً إلى شركات الإنتاج إمّا الموسيقية أوالسينمائية تمحوِر محتواها حول الجنس، والطُّعام والعنف. وبذلك تكون الرأسماليّة قد حوّلت الطّبيعة إلى وسيلة مبتذلة تمارس من خلالها الهيمنة على الإنسان. 

وفي سياق آخر قد تروّج الرأسماليّة لأهميّة الطبيعة بعيدًا عن الابتذال ولكن ضمن إطار مصطنع. أبسط الأمثلة على ذلك النّوادي الرّياضية أو الطّعام العضويّ أو مؤتمرات اليوغا الّتي تُكلّف المئات من الدنانير. فهذه الأمور تنوي استعادة الجزء الصّحي من طبيعتنا الأوليّة ولكن من خلال بيعها في حُزمٍ وعروض خالية من أيّة عفويّة.

حريّة روسو الزّائفة

"الباعث المندفع من الشهية وحدها هو عبودية؛ والطاعة للقانون الذي فرضناه على أنفسنا هي حرية" يقول جان جاك روسو في عقده الإجتماعي. لنفترض جدلًا أنّ كلام روسو صحيح وأن الغريزة تُشكّل نظامًا ميكانيكيًا يكون الإنسان فيه حيوانًا عبدًا لا يقوم إلّا بأمور فيسيولوجية بحتة تحده من أية أبعاد أخرى، ولكن أليس هذا بالضبط ما يخلقة القانون المُجتمعي الخلاصي الّذي يشير إليه روسو؟ 

إنّ ما تُقدِم عليه الحضارة هو خلق عبودية مزدوجة: الأولى تابعة لكبت، والثانية لمحدودية وحصرية قوانين الحضارة

في كلتا الحالتين نجد الإنسان مُسيّرًا، ولكن العبوديّة في النظام الطبيعي خارجة عن إرادة الإنسان على نقيض العبودية الحضارية التّي سقنا أنسفنا إليها بأيدينا. وفعليًّا إنّ ما تُقدِم عليه الحضارة هو خلق عبودية مزدوجة: الأولى تابعة لكبت أو ابتذال متعمّد لنظام طبيعي، والثانية لمحدودية وحصرية قوانين الحضارة الّتي تقولب مصائر البشر وتجبرهم على تتبع نماذج مُخططّة لهم مُسبقًا كارتياد المدارس والجامعات، والعمل والزواج والإنجاب. 

العودة إلى الأدغال داخل الوسط الحضري

لقد اعتدنا قياس التّقدم البشري بمدى انفصالنا عن بدايات التّاريخ، ولكن ماذا لو قسناه وفق إمكانية رجوعنا إلى نقطة الصّفر. أليس ذلك أحسن جدًّا؟ 

قد يُعتبر دفاعي عن "الهمجيّ النبيل" رومانسيًا ومُنشقًّا عن الواقع، ولكنّني لست أقترح أن نعود إلى الأدغال أو أن نتخلّى عن الجوانب التي قد تكون إيجابية في الحداثة. ما أتمناه هو أن نتصالح مع طبيعتنا الأوليّة التي اضُطهدت واتُهمّت باطلًا بالشر والرجعيّة، إذ أنّها جزء من هويتنا المُجرّدة والداعية إلى المحبة والسلام والإبداع وليس فقط للأنانية والعنفوان. 

تقوم الغريزة على مبدئين: تعزيز اللّذة وتجنّب الألم. والدّليل القاطع على انفصالنا عن هذه الغريزة هي حياتنا الحضاريّة الّتي تبخل علينا بأطهر أنواع اللّذة وتُعذّبنا بآلامٍ أقبح بمراحل من أبشع الكوارث الطّبيعيّة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

5 كلمات ألمانية عصية على الترجمة

تحت السلّم.. هناك صلّيتُ وبكيت