26-ديسمبر-2019

تعاملت حنة أرندت مع الشر كموضوع سياسي (Getty)

بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، فرضت مشكلة "الشّر" نفسها على مفكّرين وفلاسفة كُثر، منهم الألمانية حنّة أرندت والفرنسيّ بول ريكور ومواطنه إيمانويل ليفيناس وغيره ممن وقعوا في الحيرة لجهة التعامل مع المشكلة التي أفرزت سؤالين؛ الأول: كيف للحداثة وعصر التنوير أن يلدا مثل هذه الوحوش؟ والثاني: هل ينبغي تأصيل مشكلة "الشّر" انطلاقًا من رؤية فكرية – سياسية؟ أم رؤية فلسفية – أخلاقية؟

بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، فرضت مشكلة "الشّر" نفسها على مفكّرين وفلاسفة كُثر، منهم الألمانية حنّة أرندت

رأت حنّة أرندت في كتابها "أُسس التوتاليتارية" الذي وضعته بعد أربع سنوات من سقوط النازية أنّ الشّر، السياسي منه على وجه التحديد، مشكلة أفرزتها الأنظمة التوتاليتارية التي تسعى إلى عزل الإنسان وتدميره وصولًا إلى تفكيك الحياة العامّة وفرض هيمنتها على مؤسّسات الدولة، وجعل نظامها البيروقراطي صارمًا بحيث يصير الفرد داخلهُ مُطيعًا ومعزولًا عن أي مشاركة سياسية أو اجتماعية، وممنوعًا من إبداء رأيه لأنّ واجبه الإنصات إلى الأوامر وتنفيذها فقط، لا التفكير بها أو إعادة النظر إليها من منظور أخلاقي.

اقرأ/ي أيضًا: رشا عدلي.. إضاءة ما أهمله التاريخ

تربط إذًا أرندت "الشّر" بالأنظمة "التوتاليتارية" التي عنونت القرن العشرين بـ "العنف" الذي يتوجّب عنده مناقشة المشكلة انطلاقًا من رؤى فكرية – سياسية بالضرورة، بعيدًا عن الفلسفة والأخلاق. وهو بالضبط ما فعلته في تقريرها الصحفي الذي وسّعته ليكون كتابًا حمل عنوان "أيخمان في القدس: تفاهة الشّر" (1963)، وأثار من الجدل ما أثاره بعد أن رأى البعض في مضمونه ما يتناقض مع ما جاء في "أسس التوتاليتارية".

وإن كان الأمر كذلك حقًّا، فإنّه وعلى ما يبدو نتيجة لقدرة الحدث على الزعزعة، بحسب تعبير ميرلو بونتي. بمعنى أنّ مؤلّفة "في العنف" استجابت للحدث الذي يقول إنّ هناك شيئًا يدفع للتشكيك في الأفكار الأولى للمرء، وإعادة النظر فيها، أو تغيير المعتقدات أيضًا. أمّا الحدث، فهو محاكمة الضابط النازي أدولف أيخمان في القدس بوصفه مسؤولًا عن الإبادة الجماعية بحقّ اليهود، والعقل المدبّر لـ "الحلّ النهائي". وهو الحدث الذي عاينته أرندت عن كثب بعد تكليفها بتغطيته صحافيًا، وإذ بعملية التغطية نفسها تتحوّل إلى مسعى لفهم الحادثة فلسفيًا، وانطلاقًا من رؤية فكرية – سياسية تأخذ بعين الاعتبار مسألة الأنظمة التوتاليتارية.

رأت حنّة أرندت في كتابها "أيخمان في القدس: تفاهة الشّر" (دار الساقي، 2018) ترجمة أحمد زعزع؛ أنّ أدولف أيخمان الذي صوّرته المحاكمة مُنحرفًا وساديًا بل ومتوحّشًا كذلك، مُجرّد إنسان بيروقراطي عادي فعل ما فعله دون أي دوافع سوى الصعود في سلّم البيروقراطية النازية. وتُشدِّد المفكّرة الألمانية هنا على مسألة أنّ أيخمان إنسان بدت عاديته مُرعبة، وأنّ أفعاله الشريرة لا تنطوي على نوايا تضمر الشّر، لأنّ الأمر برمّته يعود إلى بلاهته التي تجعله منسلخًا عن أفعاله، وغير مدرك لها، عدا عن افتقاده للقدرة على التفكير من وجهة نظر شخص آخر.

اقرأ/ي أيضًا: الصفح.. ذلك المستحيل الممكن

أيخمان بهذا المعنى مجرّد "مسخ" أفرزته التوتاليتارية. وبالتالي لا يجوز مقارنة أفعاله بأفعال النظام ككل، أو محاكمته على أساس جرائم هي في الأصل أفعال دولة كان أيخمان فيها مجرّد ترس في آلتها الإدارية التي سلبته إنسانيته وتفكيره. ما معناه أنّ الرجل لم يتحرّك بدوافع خبيثة أو قاتلة، ولا حتّى أيدولوجيا عنصرية. كما أنّه لم يكن مُدركًا لخطورة أفعاله، ولا يقبل تحمّل مسؤوليتها أيضًا، لأنّها، في ظلّ النظام القانوني في الرايخ الثالث، أفعال قانونية، تُصيب ولا تُخطئ. ولهذا السبب تحديدًا أصرّ أيخمان في محاكمته على أنّه ليس مذنبًا بمعنى الاتّهام.

لا تَعتبر صاحبة "ما السياسة" أنّ جرائم أيخمان فردية أو تخصّه وحده، بقدر ما هي ممارسات دولة بأكملها، كان فيها وبرفقة آخرين كُثر، غير قادر على التمييز بين الخير والشّر، وذلك بسبب المناخ السائد في ألمانيا النازية آنذاك، وظروفها التي لا يستطيع فيها معرفة إن كان ما يفعله خاطئًا أو صائبًا. وهذا بالضبط ما يجعله، في نظر أرندت، تافهًا رغم وحشية أفعاله الإجرامية. ناهيك عن أنّه يمتلك من "الضحالة الفكرية" ما يكفي لإحداث قدر من الدمار يتجاوز كلّ غرائز البشر المتوارثة. 

رأت حنّة أرندت في كتابها "أُسس التوتاليتارية" أنّ الشّر، السياسي منه على وجه التحديد، مشكلة أفرزتها الأنظمة التوتاليتارية التي تسعى إلى عزل الإنسان وتدميره وصولًا إلى تفكيك الحياة العامّة

تُطلق حنّة أرندت على هذه الصفات مُصطلح "تفاهة الشّر" الذي يصطدم وبحدّة مع المفاهيم السائدة للشّر. فإذا كانت الأفعال الشريرة تنبع بالضرورة من نيّات مشابهة، فإنّ "تفاهة الشّر" تُحيل إلى شخص ليس بالضرورة أن يكون شريرًا بطبعه، وإنّما ضحل وجاهل ينحرف نحو الجريمة بحثًا عن غايات بعيدة عن العقيدة الأيديولوجية العميقة، كحال أيخمان الذي بيّنت أرندت عبره أن لـ "التوتاليتارية" القدرة المُطلقة على تحويل البشر إلى محض منفّذين. بمعنى أنّ أنصار هذه الأنظمة مجرّد حشود ينتهون إلى العنف انتقامًا من أوضاع لم يكونوا مسؤولين عن صياغتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هشام ناجح.. الكاتب الذي صنعته "مهن القسوة"

أفونسو كروش.. لقاءات شخصية مع أبطال "الجريمة والعقاب" و"فهرنهايت 451"