جرى عرض فيلم مصور لمسرحية "الرحلة"، وهي من إنتاج مسرح مدينة أوسنابروك الألمانية في أول نشاط ثقافي في مدينة حمص بعد سقوط النظام. والمسرحية من تأليف وإخراج أنيس حمدون، المولود في حمص عام 1985، والذي فاز عنها بجائزة أفضل عمل مسرحي في ألمانيا عام 2015، وذلك بمشاركة 47 عرضًا مسرحيًا، وهي من تمثيل نوار بلبل وباتريك بيرغ وماريوس لامبريخت وآنيا غليزر.
قام فريق "وجوه"، الذي صوّر المسرحية، بعرض الفيلم في صالة "كافيه شكسبير"، ولهذا المقهى حقيقة مكانته في ذاكرة السوريين، إذ كان يعرف بمقهى "التوليدو" أو "طليطلة"، وقد اشتهر بمقهى المثقفين. كما يتميز بموقعه قرب ساحة الساعة التي شهدت الاعتصام الشهير بـ"اعتصام الساعة".
ويُعرف عن فريق "وجوه" أنه أوقف عن العمل منذ فترة لابأس بها في ظل النظام السابق، والآن عاد ليفتتح نشاطه بهذا العرض بوجود أنيس حمدون والممثل نوار بلبل، وكلاهما من عائلة فنية حمصية، وقد شاركا في حراك المدينة منذ بدايته.
كان واضحًا أنه أراد للعرض المسرحي أن يقدم المعلومة قبل العواطف ليشرح قضيته التي يحملها في بلاد اللجوء، وذلك بدءًا من اسم مدينة حمص، وصولًا إلى ما جرى فيها بدقة
كان العرض إهداءً إلى ساحة العلّو في حي الخالدية الذي أصبح على الأرض نتيجة قصف النظام، وهي الساحة التي كانت تنطلق منها المظاهرات، حيث فقد حمدون إحدى عينيه أثناء تعرض الحي للقصف.
رحلة الإنسان الشاهد على الثورة والظلم
كان الحضور متواضعًا، لكنه تفاعل مع الفيلم الذي يوجز رحلة الإنسان السوري الشاهد على بداية الثورة والظلم، وكيف فقد أصدقاءه وتمت ملاحقته، مما دفعه للمغادرة عبر البحر المتوسط إلى الجانب الآخر من العالم، لكنه ظل يحتفظ بتلك الشخصيات في رأسه وحياته ليروي سيرة ثورتهم واعتقالهم وتعذيبهم ثم استشهادهم. شخصيات تعيش داخل رأسه وتستيقظ معه لتخرج للحياة وتتحرر من الغرفة اللعينة "رأس رامي اللاجئ" فتروي حياتها للعالم، وكيف تم قتلها ببرود. يقوم رامي الذي يدور على قدميه في أطراف مساحة المسرح، بينما الشخصيات تتحدث بالضرب على رأسه، لأنه لا يحتمل أن يعيش تلك الآلام بشكل مستمر ويومي مع أصوات أصدقائه الذين يسكنون عقله، ويعيدون سرد ما مروا به كما لا يحتمل فقدانهم. بينما بقي البلد تحت نفس الظروف، حيث ما زال هناك ضحايا جدد، بات هو غريبًا في بلاد أخرى يجاهد للانسجام.
يبدأ رامي حديثه عن حمص التي عرفت بمدينة الشمس، وللمفارقة فإن سكانها يعيشون في الظلام، في إشارة إلى انعدام النور/الحياة فيها، ولهذا ربما يقول إنه يكره السير في الظلام، بينما في الحقيقة أن حياة الشخصيات التي تسكنه تبدأ أثناء ذلك، ولهذا تحب الليل كما تقول، ولعل هذا ما يزيد خوفه الدائم من الظلام.
كان نوار بلبل حاضرًا عبر شاشة إسقاط في المسرح، وهو يدل على عناية حمدون بتنويع الأدوات التي استخدمها في العرض. وكان واضحًا أنه أراد للعرض المسرحي أن يقدم المعلومة قبل العواطف ليشرح قضيته التي يحملها في بلاد اللجوء، وذلك بدءًا من اسم مدينة حمص، وصولًا إلى ما جرى فيها بدقة. فقصة المسرحية تعتمد على ذكرياته عن بداية الأحداث في عام 2011، وعن الانزلاق نحو الدم الذي دفع ثمنه الشباب المتحمس، والذي كان سلاحه كاميرا لا أكثر، فالشاب سليم يحكي كيف جمع مبلغًا من المال ليشتري الكاميرا من أجل تصوير المظاهرات ونقل الخبر إلى العالم، بينما شقيقته كانت تعمل مسعفة في المستشفى الميداني، وقد اعتقلت أيضًا، وتم اغتصابها ثم قتلت.
بعد العرض تحدث حمدون عن مسرحيته قائلًا إن تلك الصورة التي نقلها عن الشباب الذي دفع حياته ثمنًا لخياره بالانتفاض على الظلم كانت هدفه، وقد وصلت إلى العالم في الجانب الآخر الذي لم يصدق حجم المأساة إلا بعد سقوط النظام، وما تكشف عن حجم سجونه، وقصص الضحايا فيها، وعددهم الكبير.
كان العرض إيذانًا بعودة الثقافة التي تأخرت في حمص عن مثيلاتها في المحافظات الأخرى، فمثلًا بينما قُدمت عروض مسرحية وحفلات موسيقية في طرطوس، فإن حمص انشغلت بالقضايا الأمنية والسلم الأهلي لحساسية الوضع فيها، وما تركه النظام من أثر بالغ يتجلى بالشرخ الاجتماعي الكبير بين مكونات السكان فيها.
افتتاح المركز الثقافي
تم بعد ذلك بعدة أيام افتتاح المركز الثقافي، بعد تعطله لفترة، وذلك عبر فيلم "تشيخوف" لحمدون أيضًا، وبحضور لابأس به متعطش لعودة الحياة للعروض عبر المركز الثقافي في المدينة. كانت كلمة المخرج مؤثرة، إذ استعار من عنوان مسرحية لجده الأستاذ فرحان بلبل "لا ترهب حد السيف"، وجعل الجمهور شريكًا بترديدها كلازمة في قصيدة ألقاها خلال الافتتاح.
كان الفيلم تحية للمعتقلين السوريين في سجون النظام، والذين قضوا تحت التعذيب. يروي الفيلم ما تعرض له السجين من تعذيب في سجون النظام، وهو سجين لا على التعيين، لكنه يمثل كل السجناء، وذلك عن طريق لعبة يخترعها في عقله أو يتخيلها، حيث تطرح عليه مذيعة في أحد البرامج الأسئلة حول ماهية كل طريقة من طرائق التعذيب التي يتبعها الأمن في نظام الأسد لتعذيب السجناء كالكرسي الألماني أو الشبح أو الشمعة مع رسومات توضح كيف تتم عملية التعذيب. تعمد المخرج إظهار هذه الأساليب عبر لعبة كوميدية على طريقة الكوميديا السوداء، والتي تحفر في عقل المشاهد وقلبه بتأثير عميق، كما أنها تختزن طويلًا في ذاكرته، حيث سيرى حجم الألم غير المعقول الذي تسببه الأساليب التي تمارس بدم بارد على المعتقلين.
كان واضحًا منذ البداية ما يعانيه السجين من اضطرابات نفسية بعد خروجه من السجن، وسيبدو ذلك طبيعيًا بعد كل هذه الأساليب، فبدأ الفيلم بتعريف البطل نفسه باسم "تشيخوف"، مكررًا الاسم وكأنه يقوم بتقطيعه، لنرى لماذا اختار هذا الاسم تحديدًا: "تشي خوف"، على طريقة تشي غيفارا، لكن هنا تبدو البطولة للخوف، الخوف الذي يتحول لوحش يأكل السجين جزءًا جزءًا، ولعله إشارة إلى البطولة الوهمية التي نلبسها للسجين مقابل احتمال جسده، إنه النيل من كل مقاييس البطولة المتداولة، فأمام المعتقل السوري ستبدو كل المعايير فاشلة.
يتابع تهكمه على هذا الواقع باستخدام الألفاظ التي تبدو جارحة أو خادشة للذوق العام كـ "خر... أو خصيتين"، والذي لا يعرفه الكثيرون أن المعتقل حين يصاب بالاسهال قد يتعرض لخطر الموت حقيقة في غياب العلاج وفقدان السوائل، وأن سجينًا واحدًا إن أصيب بالاسهال قد يكون فاجعة لرفاقه، فالذهاب إلى الحمام لن يكون متاحًا له، وهذا يعني التعرض للعدوى والأمراض. تشرح المذيعة أساليب التعذيب، وتستعين أحيانًا بالرسوم وهو ما يجعل المشاهد وجهًا لوجه مع المصيبة التي يواجهها السجين وحيدًا وبعيدًا عن العالم، أعزلًا إلا من الجسد الذي قد يخذله.
رغم أن طريقة حمدون في الإخراج يمكن تصنيفها بالكوميديا السوداء، فالفيلم يضحك فيه الممثل بشكل هستيري أحيانًا، إلا أن المُشاهد لن يتمتع بهذه الضحكة، بل سيبدو أبعد ما يكون عن ذلك
ورغم أن طريقة حمدون في الإخراج يمكن تصنيفها بالكوميديا السوداء، فالفيلم يضحك فيه الممثل بشكل هستيري أحيانًا، إلا أن المُشاهد لن يتمتع بهذه الضحكة، بل سيبدو أبعد ما يكون عن ذلك. الفيلم مؤثر وجارح ويضع المشاهد في مواجهة حقيقية مع الألم الذي عانته الشخصيات التي عذبت وربما حتى الموت.
وقد حاز الفيلم على عدة جوائز، منها أفضل فيلم لقضايا الشعوب في مهرجان خليج نابولي في حزيران/يونيو الماضي، بالإضافة إلى تكريم خاص في مهرجان نابولي، وعرض عالمي في مهرجان فيلادلفيا، كما يترشح الآن للمنافسة على ست جوائز. وتلا العرض مناقشة للفيلم واستضافة لأم أحد الشبان المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام في بداية الثورة.
نهاية، يبدو العرضان فاتحة لعمل مميز، حيثُ نتمنى أن تستمر مثل هذه الفعاليات، كما تم الوعد بالاستمرار في العمل الثقافي، وتحريك المناخ الثقافي، إذ إنه لا شيء يوطد السلم الأهلي سوى الثقافة الحرة نحو مواطنة تحترم الجميع.