24-أغسطس-2016

استطاع المسرح الجزائري، أو المسرح في الجزائر، كما يفضّل بعض الباحثين والمسرحيين الذهابَ إليه مثل شوقي بوزيد، أن يُراكم تجاربه ومقولاته وتحولاته، صعودًا وهبوطًا وركودًا، في غفلة من المشاهد العربية الأخرى، التي لم تلتفت إليه وتستضفه أو تدرسه بما يكفي، ما عدا بعض المحاولات في السنوات الأخيرة، ربما لميله إلى المسرح في أوروبا في بعض جوانبه، أو لجرأته السياسية ونقده لبنية الحكم، أو بالنظر إلى "عائق اللغة" أو زهد المنظومة المسرحية الجزائرية في تسويق ملامحها.

استطاع المسرح الجزائري أن يُراكم تجاربه ومقولاته وتحولاته، صعودًا وهبوطًا وركودًا، في غفلة من المشاهد العربية الأخرى

في ظلّ هذه الغفلة، حفَلَ الفن الرابع في الجزائر، بوجوهٍ وتجاربَ عميقةٍ في الكتابة والتمثيل والإخراج والسينوغرافيا. فعلى مستوى هذه الأخيرة، يعترف المسرحي المصري سعيد نصر سليم، بأنها حققت فتوحاتٍ جمالية وفلسفية جعلتها في صدارة السينوغرافيات العربية الباحثة عن الجديد والمنتجة له، في الوقت الذي لا تزال فيه مسارح عربية كثيرة تعمل بمنطق "الديكور" الذي يكتفي بتأثيث الفضاء.

اقرأ/ أيضًا: لوحات فان جوخ تحكي قصة موته الغامضة

التراكم الصحي في المشهد السينوغرافي الجزائري، عكْسَ مشاهدَ أخرى تقوم على القطيعة السلبية بين أجيالها، مثل الشعر والرواية، أدّى إلى ظهور جيل جديد، ليس بالمفهوم الزمني للكلمة فقط، بل على مستوى الخطاب والأدوات أيضًا، سرعان ما فرض نفسه ورؤيته، وإن قلّت وجوهه، حتى بات شائعًا أن إشراف أحد هذه الوجوه على الجانب السينوغرافي لعمل مسرحي جديد، مدعاة لإنقاذه جماليًا في ظل ترهل رؤية بعض المخرجين.

من هذه التجارب الجديرة بالانتباه والإضاءة، تجربة حمزة جاب الله (1981)، تخرّج عام 2007 من "المعهد العالي للفنون الدرامية"، الواجهة التكوينية المسرحية الأبرز في الجزائر، ثم انضمّ إلى قسم الدكتوراه في "جامعة جيلالي اليابس" بمدينة سيدي بلعبّاس مطلع العام الجاري، وقدّم، على مدار عقد من الزمن، ما يسمّيها "اقتراحاتٍ سينوغرافية" هي ثمرة لعناق الفن بالمعرفة، فهو يؤمن بأن "الماكيت" ليست تصورًا جاهزًا، بل هي إفراز لتماهي صاحبها مع روح المسرحية بكل عناصرها، والتجسيد الفلسفي لها، بما يضع المتلقي أمام مزيد من الأسئلة والارتباكات الدافعة إلى انخراطه أكثر في مناخاتها، وهذا ما يُميزها عن الديكور القريب إلى "روح الإجابة".

لا يدّعي جاب الله أنه حقق القطيعة مع تجارب جزائرية خرجت من السياق ذاته، مثل تجارب عبد الرحمن زعبوبي، الذي يعتبره رائدًا ويرى أن إنصاف منجزه بالدراسة والاحتفاء والتثمين قد تأخر بما يرقى إلى مقام الإجحاف، وأحمد رزاق وبوخاري هبّال وعبد الحليم رحموني وإبراهيم الخليل وعبد الغني شنتوف، بقدر ما ساهم في طرح أسئلة جديدة تتعلّق بروح العناصر السينوغرافية ألوانًا ومادّةً وأشكالًا ورموزًا وموتيفاتٍ وأضواء وزمنًا، في حوارها مع المضمون المسرحي العام. "قيمة الفنان لا تتأتى من القطع الحاد مع السائد، بل من الإضافة الواعية التي تخلق التميز".

حمزة جاب الله: السينوغرافي ليس منفذًا لرؤية جاهزة، بل هو مخرج ثانٍ لها

يكاد القماش أن يستأثر بشغف حمزة جاب الله في جلّ إبداعاته، حتى تحول في بعضها إلى بطل لا يمكن الاستغناء عن حضوره، ومن المفارقات الجمالية التي حققها، أن هذا القماش لم يقم، كالمعتاد، بدور التغطية بل بتعرية ما تعودنا على ستره من عواطف وأجساد وأماكن وزوايا. في مقابل إضاءة مدروسة تغطي القبيح في هذه العناصر، إنه الوعي بالجماليات المعكوسة: قماش يفضح وإضاءة تستر. 

اقرأ/ أيضًا: "حب وسرقة ومشاكل أخرى".. ملهاة فلسطينية

نلمس هذه الإضافة السينوغرافية المتميزة لسليل مدينة الأغواط إحدى بوابات الصحراء الجزائرية، في مسرحيات انحاز فيها النص والموسيقى والتمثيل والإخراج إلى العمق الإنساني والفلسفي والجمالي، مثل "صواعد" و"لالة" و"ذكرى من الألزاس" و"في انتظار غودو". يقول: "إذا كان الخيال هو الجانب الافتراضي للعقل، فإن السينوغرافيا هي الوعاء الافتراضي للجمال، وهي تتجاوز حدود المادة إلى المخيال الذي يترجم المفهوم والمعنى، من خلال إبداع مجال بصري تتداخل فيه كل العوالم والخطابات الجمالية، وصولًا إلى الهدف الأسمى للمسرح: الفرجة".

سألناه: "كيف يستطيع السينوغرافي أن يحافظ على هويته أمام مخرج العمل المسرحي؟"، فقال: "إن الصراع لا يصلح في المسرح إلا باعتباره عنصرًا دراميًا داخل الأحداث، أما ما دون ذلك فالانسجام مطلوب جدًّا. السينوغرافي ليس منفذًا لرؤية جاهزة، بل هو مخرج ثانٍ لها، انطلاقًا من وعي حاد بمنطلقاتها وآفاقها".

هذا الوعي، يقول صاحب جائزة أفضل سينوغرافيا في المهرجان الوطني للمسرح المحترف: "هو ثمرة لروافد معرفية كثيرة على الفنان السينوغرافي أن يتسلّح بها. السينوغرافي الذي لا يكون صديقًا للشاعر والروائي والفيلسوف والمعماري والنحات والأنثروبولوجي والنفساني والمصور، لا يمكن أن يأتي بالجميل والجديد، ذلك أن السينوغرافيا هي وليدة البحث الدائم".

وعن الهوية المحلية للعمل السينوغرافي يقول جاب الله: "إن جنسية السينوغرافي لا تحدد هوية عمله، ما لم يستطع هذا العمل أن يتشرب، بشروط الفن لا بشروط القبيلة،أنساغ الجماليات المبثوثة في الثقافة المحلية التي ينتمي إليها. "المعيار ليس الجنسية بل التعمّق، إذ يمكن لفنان أوروبي ناضج ومفتوح على التجارب الإنسانية أن ينتج فنًّا ذا روح عربية أكثر من العرب أنفسهم".

اقرأ/ أيضًا:

"كابتن فانتاستيك".. يوتوبيا خطرة

أليخاندرو إيناريتو: عليك أن تنهي هذا السباق