03-يناير-2017

احتجاجات للتونسيين ضد عودة المقاتلين في بؤر التوتر (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

في وقت يتمّ فيه تصوير تونس كـ"أرض خصبة للإرهاب"، يبدو من الضروريّ منح الكلمة لواحد من الباحثين والأخصائيّين حول المغرب العربي لفهم جملة من الإشكاليات العميقة، التاريخيّة والاجتماعيّة لهذا "الاستثناء" التونسي.

تعرف تونس حالة من تراجع الأمل الجماعي في التغيير لفائدة الركود الاقتصادي والخيبة وغياب تام لأي مشروع قادر على تأطير الشباب

حمزة المؤدّب هو باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط وباحث في المعهد الجامعي الأوروبي بين سنتي 2013 و2015، حيث تتركّز أبحاثه على الإصلاح الاقتصادي، والاقتصاد السياسي للنزاعات، والأمن، والحدود، والتهريب، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

نُشِرَت كتاباته في مجلّة Revue du Tiers Monde، ومجلة Politique Africaine، وصحيفة السّفير. ويشارك المؤدّب كلًا من بياتريس إيبو، وإيرين بونو، ومحمّد توزي، في تأليف كتاب بعنوان "مسألة العدالة الاجتماعية بعد الرّبيع العربيّ: تأمّلات من المغرب وتونس". ويركّز الكتاب على مختلف طرق فهم العدالة الاجتماعية لدى البيروقراطيين، والإسلاميين، والناشطين والمواطنين الشباب، ويحلّل الاقتصاد السياسي للإصلاحات المطبَّقة في تونس والمغرب لمعالجة المطالبات الشعبية.

اقرأ/ي أيضًا: عودة المقاتلين إلى تونس..الإطار والسيناريوهات

بعد هجمات نيس، وفي وقت صوّرت فيه بعض وسائل الإعلام الغربيّة تونس "أرضًا خصبة للإرهاب" (انظر المقال الصّادر في صحيفة لوفيغارو الفرنسية) غداة هجوم برلين، ساد الجدل مجدّدًا في السّاحة الفرنسيّة بين تيّارات فكريّة مختلفة، كيف يمكن أن نفهم لغز هذه المفارقة التّونسيّة: هذا البلد الذي يكاد يكون النّاجي والاستثناء الوحيد في بلدان الرّبيع العربي وفي نفس الوقت المُصدّر الأوّل للجهاديّين في العالم؟

تجدر الإشارة بداية أنّ تطرّف أنيس عامري، منفّذ هجوم برلين، ومحمّد الحويج مرتكب هجوم نيس في تموز/يوليو الماضي كان على أراضٍ أوروبيّة، ممّا يعني أنّنا أمام ظاهرة عالميّة/معولمة معقّدة لا تعترف بالحدود الجغرافيّة، وبلغة الأرقام تُعتبر بلجيكا المصدّر الأوّل للجهاديّين في العالم مقارنة بعدد السّكّان. يشارك اليمين الفرنسي الكثير من المعلّقين التّونسيّين والأجانب في التّرويج لخطاب مبتور ومشوّه عن الواقع، يربط التّطرّف بعمليّة التّحوّل الدّيمقراطي التي تشهدها تونس. ولنفهم هذه المفارقة يجب علينا العودة إلى العشرية الأخيرة 2000-2010، التي شهدت انخراط فئة كبيرة من الشّباب التّونسيّين في مواجهة شرسة مع نظام بن علي، إضافة إلى ذلك، فقد اقترنت عمليّة "تسييس" هؤلاء الشباب بأحداث فارقة وحاسمة: الانتفاضة الفلسطينية في 2002، غزو العراق في 2003، حرب لبنان والمواجهة بين حزب الله وإسرائيل في 2006 والمواجهة بين إسرائيل وحماس في 2008 مرورًا بأزمة اجتماعيّة حادّة ومتواصلة: أدّى ارتفاع معدّلات البطالة خاصّة في صفوف أصحاب الشّهادات العليا إلى اندلاع أولى احتجاجات المعطّلين عن العمل سنة 2005، تلتها انتفاضة الحوض المنجمي في 2008 وأحداث بن قردان في 2010.

وقد حدث كلّ ذلك في ظلّ تعنّت نظام بن علي، الذي وسّع دائرة القمع لتشمل كلّ صوت معارض أو ناقد، فاستفادت التيارات الجهاديّة من هذه الأجواء لتتمدّد في صفوف هؤلاء الشّباب، أبناء الدّكتاتورية والقمع في مجتمع ينخره الفساد. وقد تسارعت منذ 2004 وتيرة الالتحاق بالجهاد في العراق، وحوّل القمع السّجون إلى محاضن حقيقيّة للجهاديّين. والمثير للانتباه هنا أنّ معظم السّجناء المُدانين على خلفيّة قانون كانون الأول/ديسمبر2003 والذين أُطلق سراحهم بعد الثّورة التحقوا بسوريا أو ليبيا أو مالي.

يكتسي التّطرّف في تونس أيضًا بعدًا آخر يتعلّق بالعامل الدّيمغرافي و"الجيلي": وفقًا للأرقام الصّادرة عن المركز التّونسي للبحوث والدّراسات حول الإرهاب، ينتمي 80٪ من السّجناء في إطار قضايا الإرهاب إلى الفئة العمريّة 18-34 سنة، التي ترى في اللّجوء إلى العنف وسيلة لإضفاء الشّرعيّة على رفض هذا المجتمع الفاسد والظّالم من جهة والقدسيّة على التّضحية بالأفراد الذين لم تُترك لهم أيّ فرصة. لذلك تمثّل الجهاديّة خطاب رفض وقطع مع الوضع القائم لدى الكثير من الفئات (صغار المجرمين، والطّلبة والعاطلين عن العمل، الخ) وفي بعض المناطق التي تشمل بالأساس الأحياء الشّعبية والمناطق الدّاخليّة.

يعيش الشباب التونسيون أزمة مزدوجة تتعلّق بالمستقبل وبالمعنى، فوفق دراسة للبنك العالمي بشأن إدماج الشّباب سنة 2015، يعيش 33% من الشّباب حالة من التّيه، دون تعليم أو عمل أو تكوين مهني، وهو واحد من أعلى المعدّلات في منطقة الشّرق الأوسط. ومن هذا المنظور لم يغيّر الانتقال الدّيمقراطي شيئًا بل ازداد الوضع الاقتصادي سوءًا. فتراجع الأمل الجماعي في التّغيير والثورة لفائدة حالة من الرّكود الاقتصادي والخيبة يصاحبها غياب تامّ لأيّ مشروع أو مؤسّسة سياسيّة كانت أو دينيّة قادرة على تأطير الشّباب.

برز التيار الجهادي في تونس في أوائل الألفية في ظل تشويه للفاعلين في الحقل الديني. وقد خلق سقوط النظام فراغًا استغله الجهاديون

وباعتبارها قراءة أخرى للإسلام ترتكز على مركزيّة المعركة والمواجهة، تمنح الجهاديّة شعورًا قويًّا بالمعنى لجيل يرى نفسه مدفوعًا للقتال للأسباب التي شرحتها سابقًا. وقد اكتسب التّطرّف في مصر مثلًا صبغة تنظيميّة حيث جنحت بعض الحركات والتنظيمات إلى العنف إثر استبعادها من الحياة السّياسيّة.

وفي المقابل، يرتبط التّطرّف في تونس بطرق فرديّة، لقاءات وتجمّعات وتشعّبات وتحوّلات تجعل من محاولة فهمه صعبة. وبالتالي وبالإضافة إلى القراءة "الجيلية" التي يقترحها أوليفييه روا والتي أتّفق معها، أودّ أن أضيف التّدخّل الدّولي في ليبيا، مالي وسوريا (الضّربات الرّوسيّة) الذي ساهم في مدّ تنظيم الدّولة بالجهاديّين. وإذا كانت القضيّة الفلسطينيّة لم تعد "جذّابة" بما يكفي لتحشد كما قبل 15 عامًا، فإنّ الخليفة يمثّل قصّة ملهمة وأسطورة يمكن الدّفاع عنها.

اقرأ/ي أيضًا: شباب تونس يهتفون: لا للإفلات من العقاب

هل يمكن أن نتحدّث في هذا السّياق عن ما يسمّيه البعض "الفراغ اللاّهوتي والدّيني"؟

برز التّيار الجهاديّ في تونس في سنوات أوائل الألفية في ظلّ تشويه تامّ للفاعلين في الحقل الدّيني. وقد خلق سقوط النّظام فراغًا استغلّته الحركات الجهاديّة من خلال الأنشطة الدّعويّة، وتنظيم الخيمات الوعظية، والإشراف على عدد من المساجد وحتى تسمية بعض الأئمّة. ولئن نجحت السلطات في استرجاع المساجد تدريجيّا بعد حظر تنظيم أنصار الشريعة في عام 2013 وتورط جزء من التيار الجهادي في أعمال عنف، فإنها فشلت في معالجة إشكالية شرعية الأئمة التي كانت تثير التوتر مع تعيين أو عزل إمام ما. ونما التيار الجهادي في سياق يتسم فيه المجال الديني بالضبابية وتحكمه قواعد غير واضحة (تعيين وعزل الأئمّة، سيطرة الدولة على المساجد، قبول أو رفض بعض الفاعلين مثل السلفية العلمية، حزب التحرير، إلخ.).

وعلاوة على ذلك، تعاني الساحة الدينية في تونس من غياب واضح للأئمة والدّعاة القادرين على إنتاج خطاب يواجه الدعاية الجهادية. ومن المفارقات، أن الحركة الجهادية في تونس تشكو هي أيضًا من هذا الفراغ إذ تفتقر لقيادات محلّيّة مؤثّرة. وكان الخطيب الإدريسي على سبيل المثال، يشكل مرجعية داخل هذا التيار، لكنه وجد نفسه مستبعدًا بعد الثورة بعد رفضه إنشاء تنظيم أنصار الشريعة (تنظيم يضم السلفيين الجهاديين) والنقد الذي وجّهه إلى عدد من قيادات التنظيم. فتح هذا الفراغ الباب على مصراعيه أمام الدعاة المتشددين والبروباجندا الإلكترونية التي لا تستطيع أي مؤسسة مواجهتها.

أتاحت جلسات الاستماع العلنية لملايين التونسيين الفرصة لفهم ما قام به نظامي بورقيبة وبن علي أو كيف تمارس السلطة في ظل الدكتاتورية

هذا الانزعاج تجاه الحالة التونسية، يصل إلى حدّ التقزز أحيانًا في بعض المنابر الإعلاميّة، هل هو مرتبط بالحديث عن عودة الجهاديّين إلى أوروبا؟

من الواضح أن عودة الجهاديين إلى أوروبا تشغل القادة. يعزّز محور إيران-روسيا-تركيا وجوده شيئًا فشيئًا في سوريا، يضيق الخناق على "تنظيم الدّولة"، الذي يواجه هجمات لاستعادة الموصل، لذلك سيسعى بكل الطرق للرّدّ ولتصدير إرهابه. كما يرغب كثير من الجهاديين في العودة إلى أوروبا وتونس وأماكن أخرى. وبالتالي فإن خطر الهجمات والاعتداءات قائم هنا في تونس أو هناك في أوروبا بالرغم من الرغبة الواضحة لدى الكثيرين في تجنّب الخوض في هذا الموضوع. وإلى جانب التنسيق الأمني الذي يبقى مهمًّا، يجب التفكير أيضًا في إطار للعائدين من بؤر التّوتّر الذين اختاروا المرور من خلال قنوات قنصلية أو سيتم تسليمهم من طرف السّلطات التركية أو السودانية: ملاحقات قانونية لمن ارتكب انتهاكات وجهاز تتبعيّ للبقية. يجب الاستماع إليهم، على الأقل لمن يرغب منهم في الحديث، لفهم تجاربهم ودوافعهم. ومن المهم جدًا التفكير في مقاربة تأخذ بعين الاعتبار حساسية هذه الظاهرة.

ألم يغيّر المؤتمر الدّولي للاستثمار هذه النظرة حول تونس المقترنة بالإرهاب؟ ألا يمكن إعادة الأمور إلى نصابها ولو على المدى المتوسط؟

من المهمّ أن تعطي الطبقة الحاكمة في البلاد إشارة إيجابية للشّعب ثم لشركاء تونس بأنها فهمت المشاكل الحقيقيّة وهي عازمة على تنفيذ إصلاحات جوهرية والإجابة على القضايا الاجتماعية وعلى تساؤلات الشباب، إلاّ أن كل هذا لا يزال مفقودًا إلى حد بعيد. كان المؤتمر علامة دعم المجتمع الدولي وهو يضع النخب الحاكمة أمام مسؤولياتها. لا يزال هناك متسع من الوقت لتغيير الأمور لكن يجب تعزيز الديمقراطية التونسية في أفق يتجاوز ضعف الأداء الحالي ويشجع القيام بإصلاحات شاملة. هذا الأفق للأسف غائب تمامًا.

هل يمكن أن يكون لجلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد دور مهدّئ؟

أتاحت جلسات الاستماع العلنية لملايين التونسيين الفرصة لفهم ما قام به نظامي بورقيبة وبن علي، أو كيف تُمارس السلطة في ظل الدكتاتورية. وهي تشبه بشكل ما المرآة التي تسمح للشعب بإعادة بناء ذاكرته المبتورة من طرف الاستبداد لأن الجميع لم يعش فترتي بورقيبة وبن علي بنفس الطريقة. وقد منحت الجلسات العلنية الضحايا فرصة لإعادة التأهيل ولكن أيضًا ساهمت في إرساء فهم مشترك للدكتاتورية ولجرائمها الوحشية ولسهولتها. لذلك فهي مرحلة ضرورية لإرساء ديمقراطية حقيقة لا يمكن أن تبنى بأي حال من الأحوال على أكاذيب وتاريخ مزور.

المقال ترجمة حوار أجراه الزّميل سيف سوداني لـمجلة Le courrier d’Atlas

اقرأ/ي أيضًا: 

شهادات ضحايا الانتهاكات بتونس..قصص الألم والعبر

17 نوفمبر... تونس تستمع إلى ضحاياها لأول مرة