02-أغسطس-2018

يعيش الغزيون في ظروف إنسانية كارثية نتيجة الحصار الإسرائيلي المصري (Getty)

رغم الإدانات الواسعة التي تعرض لها الإسرائيليون إبان مجازرهم الأخيرة في غزة، وقمع مسيرات العودة، إلا أن جل المجموعات الحقوقية والإنسانية التي ناقشت القوانين الدولية والإنسانية، استغرقت في تفاصيل فنية، حول مدى العنف الذي يجوز لإسرائيل استخدامه. وفي أحسن الأحوال، فقد كانت المؤسسات الأكثر مناهضة للاحتلال، ترى أن إسرائيل استخدمت عنفًا فائضًا، أو أكثر من اللازم، لكنها لم تناقش أن هذا العنف ليس مبررًا من الأصل، بل وتغاضت عن واقع استعمارية إسرائيل وممارستها للاحتلال العسكري والفصل العنصري.

يشرعن النقاد الذين يزعمون استخدام إسرائيل للقوة المفرطة وغير المتكافئة ضمنيًا استخدامًا للقوة المتناسبة والمنضبطة، أو المقبولة إعلاميًا

يناقش كل من نورمان فينكلشتاين، وجيمي ستيرن وينر، وكلاهما له مؤلفات حول القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، الخطاب الحقوقي حول مجازر غزة، والأشياء الأهم التي لا تقال في هذه النقاشات. ويخلص الكاتبان في هذا المقال المترجم عن مجلة جاكوبين، إلى أن هذه النقاشات القانونية التقنية، تقفز عن جوهر وغاية القوانين الدولية بخصوص الاحتلال، أي العيش الكريم للمدنيين. هنا ترجمة ألترا صوت" للمقال.


منذ بدء تظاهرات غزة التي غلبت عليها السلمية في 30 آذار/ مارس 2018، أدان المجتمع الدولي بقوة هجمات إسرائيل المسلحة. شجب قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة "الاستخدام المفرط والعشوائي وغير المتكافئ للقوة من قبل القوات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين". في حين أدان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة "استخدام إسرائيل غير المتكافئ والعشوائي للقوة". وبعد اغتيال القناصة الإسرائيليين لرزان النجار، المسعفة الطبية البالغة من العمر 21 عامًا، حذر منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط إسرائيل بأنها "في حاجة لضبط استخدامها للقوة". وفي تقرير صادم أفادت منظمة هيومان رايتس ووتش بأن "استخدام القوات الإسرائيلية المتكرر للقوة المميتة في قطاع غزة ضد متظاهرين لا يشكلون تهديدًا محدقًا للحياة قد يرقى لمرتبة جرائم الحرب".

وبالرغم من الترحيب بهذه الإدانات، يبقى السؤال عما إن كانت كافية. باختصار، هل لإسرائيل الحق في استخدام أي نوع من القوة تحت أي ظرف ضد سكان غزة؟ يركز النقاش القانوني الدائر حاليًا حول زوج من الأسئلة المترابطة والمتداخلة:

أولًا: هل لجأ القناصة الإسرائيليون للقوة المفرطة وغير المتكافئة ضد المتظاهرين كما يزعم النقاد، أم أن مقدار القوة التي استخدموها كانت ضرورية لمنع المتظاهرين من اختراق السياج العازل كما تزعم إسرائيل؟

ثانيا: هل تخضع ممارسات إسرائيل تجاه قطاع غزة لقانون حقوق الإنسان، كما يزعم النقاد، أم للقانون الإنساني الدولي، كما تزعم إسرائيل؟ حيث يسري القانون الإنساني الدولي في حالات النزاع المسلح، بينما ينظم قانون حقوق الإنسان كيفية فرض القانون المحلي. الفرق هنا مهم، إذ يفرض قانون حقوق الإنسان قيودًا أشد على استخدام القوة.

اقرأ/ي أيضًا: غزة.. شرعية الدم التي لم تعد تجدي

ينطلق كل الفرقاء في هذا الجدل الثائر من فرضية مشتركة وهي أن لإسرائيل الحق في استخدام القوة لمنع الغزيين من اختراق السياج العازل. ويقتصر الخلاف في هذه الحالة على مقدار القوة المستخدمة. يشرعن النقاد الذين يزعمون استخدام إسرائيل للقوة المفرطة وغير المتكافئة ضمنيًا استخدامًا للقوة المتناسبة والمنضبطة، بينما يعترف أولئك الذين يصرون على سريان قانون حقوق الإنسان في هذه الحالة بحق إسرائيل في اللجوء للقوة إذا شكل المتظاهرون تهديدًا وشيكًا على حياة قناص في الجيش الإسرائيلي.

يسود هذا الافتراض المسبق حتى لدى أشد أقطاب النقاش المثار حول غزة نقدًا للمارسات الإسرائيلية. وقد أدانت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية "بتسيلم" لجوء إسرائيل غير الشرعي للقوة المميتة ضد أشخاص عزل "يتقدمون نحو السياج أو يخربونه أو يحاولون عبوره". لكنها استدركت قائلة إنه "من المعلوم أن للجيش الحق في منع هذه الأفعال وحتى احتجاز من يحاول القيام بها". وفي حين رأت مسؤولة رفيعة في منظمة هيومان رايتس ووتش بأن استخدام إسرائيل للذخيرة الحية في غزة "غير شرعي"، لكنها أشارت إلى أن استخدام "الوسائل غير المميتة مثل الغاز المسيل للدموع والمياه العادمة والرصاص المطاطي" لم يكن ليشكل عقبة قانونية. وبدورها حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إسرائيل من أن "استخدام القوة المميتة يجب أن يكون خيار اللحظة الأخيرة حين لا يكون هناك وسيلة لتجنبه من أجل إنقاذ حياة شخص ما". حتى منظمات حقوق الإنسان الرئيسية وصفت استخدام إسرائيل للقوة "بالمفرط" و"العشوائي" و"غير المتكافئ" بدلًا من وصفه بأنه غير شرعي بالأساس. 

لكن الحقيقة هي أن إسرائيل لا تملك الحق في استخدام أي نوع من القوة في غزة، سواء كانت معتدلة أو مفرطة، متناسبة أو غير متناسبة، سواء كان المتظاهرون مسلحين أو عزلًا، وسواءً شكلوا تهديدًا محدقًا للحياة أو لم يفعلوا ذلك. إذا ظهر الأمر بخلاف ذلك، فهذا بسبب تجاهل النقاش الحالي للمحاذير الأساسية في القانون الدولي والخصوصيات المجردة للوضع في غزة تحديدًا.

ما الذي ينص عليه القانون الدولي

لشرعنة استخدامها للقوة في غزة، تدعي إسرائيل أن لها الحق في منع التدخل الخارجي في مناطق سيادتها. ويرى معلق قانوني إسرائيلي أن هذا القلق تجاه حرمة حدودها مع غزة انتقائي بطريقة انتهازية. تجتاح إسرائيل غزة متى ما أرادت ذلك. لكن حين يسعى الفلسطينيون للعبور في الاتجاه الآخر يصبح للسياج قدسية خاصة. وحتى إذا وضعنا هذه الازدواجية والنفاق جانبًا، فما زال حق إسرائيل المزعوم في الدفاع عن نفسها يفتقر لأي أسس قانونية. على العكس، تنتهك إسرائيل القانون الدولي بلجوئها للقوة.

 لا تملك إسرائيل الحق في استخدام أي نوع من القوة في غزة، سواء كانت معتدلة أو مفرطة، متناسبة أو غير متناسبة

يناضل الفلسطينيون في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وكذلك سكان غزة للحصول على حقهم المعترف به دوليًا في "تقرير مصيرهم". وكما يشير الباحث القانوني البارز جيمس كروفورد، يمنع القانون الدولي استخدام القوة العسكرية "من قبل سلطة إدارية لقمع انتفاضة شعبية واسعة تقوم بها جماعة تسعى لتقرير مصيرها".  في حين "يعد استخدام القوة من قبل كيان ما دون الدولة لممارسة حق تقرير المصير أمرًا محايدًا من الناحية القانونية ولا ينظمه القانون الدولي على الإطلاق".

اختار المتظاهرون في غزة اتباع الطرق السلمية لتحقيق حق معترف به دوليًا، وهو نهج لا يحرمه القانون الدولي بالطبع. لكن هذا القرار المتحوط ليس متطلبًا قانونيًا. حتى لو اختار الغزيون استخدام الأسلحة ضد القناصة الإسرائيليين، الذين يعيقون حقهم في تقرير مصيرهم، فإن لجوء إسرائيل للقوة العسكرية سيظل محرمًا من الناحية القانونية.

تقلب مسألة تخصيص الحقوق والواجبات في الخطاب الغربي التقليدي القانون الدولي راسًا على عقب. وذلك  بمنحها إسرائيل الحق في استخدام القوة دفاعًا عن نفسها ضد الغزيين، حتى لو كانت تلزم سكان غزة بالانخراط في نضالهم السلمي لتقرير مصيرهم.

وقد يلقى هذا الطرح اعتراضًا على أساس أنه من حق إسرائيل كونها المحتل المحارب لقطاع غزة، ووفقًا لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، استخدام القوة للحفاظ على النظام العام. لكن هذا الاعتراض ساقط من ثلاثة أوجه. 

أولًا: تلزم اتفاقية جنيف المحتل المحارب بضمان رفاه السكان المحتلين وتقديم العون الاقتصادي لهم. وتمثل "حماية المدنيين أثناء فترة الحرب" سبب وجود اتفاقية جنيف من الأساس. لكن إسرائيل تفرض حصارًا ممتدًا على سكان قطاع غزة يرقى لمستوى "العقاب الجماعي" غير الشرعي وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر، وهو ما حول قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة للحياة حسب الأمم المتحدة. لا تدعم اتفاقية جنيف حق إسرائيل بالحفاظ على النظام في غزة في الوقت الذي تخرق فيه بكل صلف واجبها الملزم بضمان رفاه سكان قطاع غزة المدنيين. وفي الحقيقة، فإن هذه الفوضى التي تدعي إسرائيل الحق في قمعها هي وليدة هذا الحصار الإجرامي الذي تفرضه.

ثانيًا: حتى لو ارتقت إسرائيل لمنزلة المحتل المحارب في غزة، فإن حق شعب في تقرير مصيره هي قاعدة آمرة في القانون الدولي، لا يجوز الانتقاص منها. إذا تداخل قانون المحتل المحارب مع الحق في تقرير المصير كما هو الحال في هذه القضية، فإن حق سكان غزة في تقرير مصيرهم مقدم على حق إسرائيل في الحفاظ على النظام. وإذا مورس النضال لتقرير المصير سلميًا كما هو الحال في هذه القضية، فإن حق إسرائيل المزعوم في الحفاظ على النظام لا يقوم إلا على أسس معلولة.

ينص مبدأ أساسي في القانون الدولي على منع لجوء أي دولة للوسائل العنيفة ما لم تستنفد كل "الطرق السلمية"

ثالثًا: في الحقيقة، أصبح احتلال إسرائيل لقطاع غزة الآن غير شرعي، وقوض على الدوام حقها في أن تكون محتلًا محاربًا. حيث حكمت محكمة العدل الدولية عام 1971 على جنوب أفريقيا التي رفضت الدخول في مفاوضات حسنة النية لإنهاء احتلالها لناميبيا، بأن احتلالها أصبح غير شرعي. على نفس المنوال يقوض رفض إسرائيل على مدار نصف قرن، إجراء مفاوضات حسنة النية على أساس من القانون الدولي للانسحاب من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وغزة، من شرعنة احتلالها.

هناك أيضًا جانب قانوني حاسم تم تجاهله حتى الآن. ينص مبدأ أساسي في القانون الدولي على منع لجوء أي دولة للوسائل العنيفة ما لم تستنفد كل "الطرق السلمية" (ميثاق الأمم المتحدة، المادة الثانية). يتمتع هذا المبدأ في القانون الدولي بنفس القدسية التي يتمتع بها قسم أبقراط في الطب (أولًا لا تتسبب في أذى). الدافع المسبب لاحتجاجات غزة عند السياج الفاصل، هو حصار إسرائيل غير المشروع وهدفها هو إنهاؤه. وحتى  رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فقد اعترف قائلًا: "هم يختنقون اقتصاديًا ولهذا قرروا الاصطدام بالسياج".

وإذا كانت إسرائيل راغبة في حماية حدودها، فهي ليست بحاجة للجوء للوسائل الإكراه القسري المميتة أو غير المميتة. كل ما عليها فعله هو رفع الحصار. يزعم فريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الدبلوماسي الأول المختص بشؤون الشرق الأوسط والمكون من صهره جاريد كوشنر، ومحامي الإفلاس السابق ديفيد فريدمان والمستشار القانوني السابق لمؤسسة ترامب جيسون غرينبلات، وحاكمة ولاية جنوب كارولينا السابقة نيكي هيلي، رأيًا مخالفًا لهذا، يقضي بأن حماس هي من "تحتجز سكان غزة كرهائن" وتتحمل "المسؤولية الأساسية في إدامة معاناة أهل غزة". لكن إن قرروا هم السقوط في هذه الإشكاليات المتناقضة التي أشبه ما تكون بحفرة الأرنب في قصة أليس في بلاد العجائب، فليس لزامًا علينا أن نتبعهم.

يرى مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية وذلك من موقع السلطة المخولة له "بأن على إسرائيل باعتبارها قوة احتلال، أن ترفع هذا الحصار الذي يتعارض مع ميثاق جنيف الرابع الذي يجرم العقاب الجماعي، والذي يمنع كذلك تحقق طيف واسع من حقوق الإنسان على أرض الواقع".  

اقرأ/ي أيضًا: غزة اليوم أمريكا الأمس.. فهود "الصحافة البيضاء" الجدد

كما عرضت حماس باستمرار على إسرائيل عقد هدنة طويلة الأمد مقابل إنهاء الحصار، وكررت هذا العرض خلال التظاهرات الحالية. في السابع من أيار/ مايو الماضي قبل أسبوع من قيام إسرائيل بقتل 60 متظاهرًا في غزة، أفادت صحيفة هآرتس الإسرائيلية بأن "قادة حماس" أوصلوا "رسائل إلى إسرائيل تظهر رغبتهم في التفاوض على وقف طويل الأمد لإطلاق النار" مقابل عدة أشياء منها "تخفيف الحصار". وكشف مراسل عسكري مخضرم بعدها بأيام قائلًا: "تستمر حماس في إيصال رسائل إلى مؤسسة الدفاع بأنها ما زالت ترغب في هدنة"، مضيفًا أن "حماس نفسها أوصلت لإسرائيل العام الماضي نسخًا مختلفة من هدنة محدودة أو واسعة لا تضم غزة وحدها بل الضفة الغربية أيضًا".

وقد أخذ الجيش الإسرائيلي عروض وقف إطلاق النار هذه على محمل الجد، حيث قال ضابط عسكري رفيع إن "حماس وفقًا لجهاز الاستخبارات راغبة في الوصول لاتفاق"، مضيفًا أنه "حان الوقت للتوصل لاتفاق مع حماس، لمنع جولات أخرى من القتال". لكن الحكومة الإسرائيلية بدت غير مهتمة "ولم تناقش أبدًا المطالب والشروط، لأن إسرائيل ترفض التفاوض مع حماس". رفض الحكومة الإسرائيلية لهذه الخطوة التمهيدية المسالمة يضعها في موقف المنتهك للقانون الدولي مرتين: فرضها لحصار غير مشروع، ولجوؤها للقوة العسكرية دون استنفاد جميع الوسائل السلمية.

الحق في تسميم الأطفال؟

ينص مبدأ قانوني على أن الحقوق لا تشتق من الأفعال غير المشروعة، ومن الواضح أن الحق في الدفاع عن النفس لا يسري في كل المواقف. ليس بإمكان المغتصب ادعاء الحق في الدفاع عن نفسه إذا قامت الضحية بمهاجمته. ولا يحق لمالك المسرح ادعاء حقه في الدفاع عن نفسه إذا هاجمه الجمهور بعد أن أضرم النيران في المبنى وعرقل هروبهم. تقع ممارسات إسرائيل تجاه غزة في نفس فئة الأفعال التي تمحو حق الدفاع عن النفس.

لكن إن سار اعتقاد على كل حال بأن لإسرائيل الحق في استخدام القوة لمنع الغزيين من اختراق السياج الفاصل، هذا لأن الانهماك في المحاججة المفصلة حول التفصيلات الدقيقة في القانون قد حجب عن الأعين التكلفة الإنسانية المبذولة.

ما هي غزة؟

يعد القطاع الساحلي الضيق واحدًا من أكثر التجمعات السكنية كثافة على ظهر الكوكب. أكثر من 70% من سكانه البالغ عددهم 2 مليون نسمة، هم من اللاجئين، بينما يمثل الأطفال تحت سن الثامنة عشر أكثر من نصف السكان، أي ما يقرب من 1 مليون نسمة. ولأكثر من عقد كامل أخضعت إسرائيل هذه البقعة الصغيرة من الأرض لحصار خانق ومدمر. وتعاني 50% من قوة غزة العاملة من البطالة و80% من السكان يعتمدون على المساعدات الغذائية الدولية و96% من مياه الشرب ملوثة. 

اختار المتظاهرون في غزة اتباع الطرق السلمية لتحقيق حق معترف به دوليًا، وهو نهج لا يحرمه القانون الدولي بالطبع

وفي وقت مبكر من شهر تموز/ يوليو شددت إسرائيل من القيود المفروضة على دخول الغذاء إلى غزة ومنعت التصدير بشكل عام. ثم أتبعت ذلك بحظر دخول الوقود، مما تسبب بأزمة في المستشفيات التي تتحمل أعباءً أكثر من طاقتها بالفعل وأُجبرت على التوقف عن العمل. وفقًا لمنظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية جيشا، فإن "إجراءات العقاب الجماعي الكاسحة هذه تمثل عودة لأقسى مراحل الحصار وتسعى للعصف بالرفاه الاقتصادي لسكان غزة المدنيين". تبع ذلك هجمات جوية نفذتها إسرائيل في منتصف تموز/يوليو ضد عشرات الأهداف في غزة.

وقد بررت إسرائيل تشديد الحصار والهجمات الجوية بأنها رد على طائرات ورقية قابلة للاحتراق طيرها المتظاهرون في غزة فوق السياج الحاجز. لكن هذه "الطائرات الورقية الإرهابية" المزعومة تسببت في دمار للمتلكات يقدر بـ 2 مليون دولار، وهي وفقًا لمصادر عسكرية إسرائيلية "لا تشكل تهديدًا خطيرًا أو مباشرًا". وكما أفاد مراسل عسكري إسرائيلي، فإن "الضرر النفسي الذي أحدثته النيران على طول خط الحدود أسوأ من أي ضرر فعلي وقع بالفعل". بينما اشتكى ضابط إسرائيلي رفيع مسؤول عن إبعاد الطائرات قائلًا: "يقودني كل هذا النحيب بشأن الطائرات الورقية إلى الجنون. وهو مخالف تمامًا لما تسمعه من معظم الناس الذين يعيشون هنا… يقول الناس علانية: نحن نحب المكان هنا، نحن نريد العيش هنا، رغم النيران".

واحتج أحد مطيّري الطائرات الورقية على الجانب الآخر من السياج قائلًا: "نحن لسنا إرهابيين، نحن جيل بلا أمل ولا أفق نعيش على وقع حصار خانق وهذه هي الرسالة التي نحاول إيصالها للعالم. في إسرائيل يبكون على الحقول والغابات التي احترقت. لكن ماذا عنا نحن الذين نموت كل يوم؟"، وتعهد باستمرار نشاط الطائرات الورقية الذي يقف شباب مراهقون خلف معظمه، "حتى تلبية مطالب الشعب الفلسطيني برفع الحصار".

مع نهاية شهر تموز/يوليو عادت الأوضاع جزئيًا إلى حالها الأول، حيث سمحت إسرائيل بدخول مقدار ضئيل من البضائع في حين كبحت حماس الطائرات الورقية. لكن هناك احتمال كبير بتكرار الحوادث الأخيرة لمظاهرات سلمية، ثم استجابة إسرائيلية عنيفة، ثم رد من حماس، ثم تشديد الحصارــ تبلغ ذروتها بهجوم عسكري إسرائيلي يهدد وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بأنه "سيكون أكثر إيلامًا من عملية الجرف الصامد".

هل يناقش أحد الآن إن كانت ألمانيا النازية استخدمت العنف "المفرط" أو "غير المتناسب" لقمع انتفاضة غيتو وارسو؟

عندما تحل عاصفة اللهب القادمة، هذا إذا حلت، وتدعي إسرائيل أنها لا تقوم سوى بالدفاع عن حدودها فإن الرد الخطابي الصحيح على هذا الادعاء، هو أن السياج الذي يفصل غزة عن إسرائيل لا يمثل الحدود إلا بقدر ما تمثل غزة دولة مستقلة. وصف الأستاذ البارز بالجامعة العبرية باروخ كيمرلينغ غزة بأنها "معسكر احتجاز"، في حين وصفها رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون بـ "السجن المفتوح". ووصفتها اللجنة التحريرية في جريدة هآرتس الإسرائيلية بـ "الغيتو"، ووصفتها مجلة إيكونومست بـ "كومة القمامة البشرية"، وقالت عنها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأنها "سفينة غارقة". وغزة هي ما وصفها مدير حقوق الإنسان في الأمم المتحدة "بالعشوائيات المسمومة" التي يُحبس فيها سكان مدنيون "من الميلاد حتى الوفاة".

هل لإسرائيل الحق في استخدام القوة لحبس مليون طفل من غزة في "غيتو" أو "عشوائيات مسمومة"؟ أليس لشعب غزة الحق في التحرر من "معسكر الاحتجاز".

هل يناقش أحد الآن إن كانت ألمانيا النازية استخدمت العنف "المفرط" أو "غير المتناسب" لقمع انتفاضة غيتو وارسو؟ من يفكر الآن فيما إن كان لألمانيا النازية الحق في الدفاع عن نفسها ضد منظمة القتال اليهودية التي قاومت النازيين بالأسلحة؟ هل مثل هذه الأسئلة معقولة من الأساس؟

اقرأ/ي أيضًا: الحصار باقٍ ويتمدد.. غزة بلا حِرَف

قد يُقال إن غزة ليست غيتو وارسو، لكن وفقًا لما يراه صحفي إسرائيلي عمل في غزة أثناء فترة الانتفاضة الأولى، "لا تكمن المشكلة في التشابه، لكن في عدم وجود ما يكفي من الاختلاف". أفادت منظمة الصحة العالمية بأن "أكثر من مليون شخص في غزة معرضون لخطر الإصابة بالأمراض المنقولة عبر المياه"، في حين يتوقع خبير إسرائيلي بأن غزة ستتعرض قريبًا لاجتياح من قبل أوبئة التيفود والكوليرا كتلك التي أصابت اليهود في غيتو وارسو.  

الهدف الأساسي للقانون الإنساني الدولي هو حماية المدنيين من الحرب. والهدف الرئيسي من قانون حقوق الإنسان هو حماية كرامة الإنسان. كيف إذًا يمكن اللجوء لنصوص أي من هذين القانونين لتبرير استخدام القوة مهما كانت، لحبس المدنيين في جحيم يتعرضون فيه للمهانة والتعذيب والقتل؟

لنفترض جدلًا أن لإسرائيل الحق في استخدام القوة لمنع شعب غزة من الهروب من سجنهم، سيكشف هذا الأمر عن خلل عميق يعتري القانون.

الهدف الأساسي للقانون الإنساني الدولي هو حماية المدنيين من الحرب. والهدف الرئيسي من قانون حقوق الإنسان هو حماية كرامة الإنسان

في معارضته لرأي محكمة العدل الدولية الاستشاري لعام 1996 حول شرعية التهديد بالأسلحة النووية أو استخدامها، أشار القاضي فيرامانتري إلى المفارقة الكامنة في هذا الرأي، قائلًا إنه في حين يمنع القانون استخدام الرصاص المتفجر، نكصت المحكمة عن إدانتها لاستخدام الأسلحة النووية. وكتب قائلًا: "قد يبدو الأمر غريبًا أن يكون تمدد رصاصة داخل جسد جندي واحد من رصاصة واحدة مفرطًا في الوحشية ولم يكن بإمكان القانون الدولي التسامح معه منذ عام 1899، ثم يكون حرق مئات الآلاف من المدنيين في ثانية واحدة مشروعًا". يخلص القاضي فيرامانتري في رؤيته إلى التالي:

كل فرع من فروع المعرفة يستفيد من عملية التراجع عن ذاته من حين لآخر وتخليص نفسه بشكل موضوعي من الشذوذ والعبث. إذا بدا أمر ما شاذًا أو عبثيًا ومع ذلك ظل دون مُساءلة، يتعرض الفرع المعرف لخطر أن ينظر إليه الآخرون باعتباره متخبطًا بين مناهجه وتفاصيله الخاصة.

اقرأ/ي أيضًا: الزواج في غزة.. "سياسة ونصيب"!

لا تمثل الفكرة القائلة بأن لإسرائيل الحق في حبس مليون طفل بالقوة في مساحة غير قابلة للحياة إلا مجرد عبث، والمحامون الذين يتجادلون إن كانت إسرائيل قد استخدمت قوة مفرطة لمنع الفلسطينيين من الهروب من الغيتو المفروض عليهم يتخبطون بين التفاصيل الفنية.

ترى سارا روي من مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد، أنهم "كائنات بشرية بريئة معظمهم من صغار السن يتجرعون السم ببطء في المياه التي يشربونها وفي التربة التي يزرعونها".

السؤال المعقول الوحيد من الناحية الأخلاقية والذي يطرحه الوضع في غزة هو إن كان لإسرائيل الحق باسم الدفاع عن النفس، في تسميم مليون طفل؟ من المحزن أن هذا التساؤل البسيط لم يُهمش فقط بل لم يطرح أصلًا في النقاش الحالي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شباب غزة.. بدنا نشوف الضفة!

غزة التي خذلناها مرارًا