حلقة "تأبين الذكريات" في Black Mirror.. من يكتب نهاية الذكرى؟
10 مايو 2025
في إحدى يومياتي، كتبت أن على الإنسان أن يختار أفضل ذكرياته في لحظات حزنه العميقة. في حلقة "تأبين الذكريات" من مسلسل "مرآة سوداء" (Black Mirror)، نرى أن الذكريات قد تكون خطايا مؤلمة، نُضطر إلى انتزاعها كما ننتزع الجلد الميت المتكوّر تحت أظافرنا.
إن الذكريات سيفٌ ذو حدّين، يلسعنا ويداوينا عندما نلجأ إليه في غمده. ففي لحظات كثيرة من حياتنا، نرسم الذكريات كموسيقى لطيفة تشرق في صباح ربيعي دافئ. وفي أحيانٍ أخرى، تكون هذه الذكريات لسعة أفعى تُسمّم أفكارنا ومشاعرنا لعمرٍ طويل، تاركةً خلفها ندبة في القلب والروح.
في شخصية فيليب كونارثي (بول جياماتي)، نرى الحيرة والضياع؛ فهو هائم في ذكرياته، مرغم على تذكر كارول التي نسي ملامح وجهها. يتحدث فيليب إلى موجّهته، مستحضرًا ثلاث صور تُمثل ذكرياته معها، تُرغمه على مواجهة الماضي.
تسلط الحلقة الضوء على الأنانية التي قد تطغى على الحب، حين نطمس شخصية من نحب بدافع شعورنا بالأحقية في اتخاذ القرارات
تتنوع هذه الذكريات، بدءًا من تفاصيل اللقاء الأول وأول إعجاب، وصولًا إلى أول مشروع موسيقي مشترك جمعهما. فعندما يتذكر الإنسان تفاصيل عميقة، تعود إلى ذهنه التجربة الأولى لتلك المشاعر. ويعرض مسلسل "بلاك ميرور" كل ذلك ضمن عالم ديستوبي، تتحكم فيه التكنولوجيا، وتختفي فيه الأخلاق، بل وربما معاني الإنسانية كما نعرفها.
يقف فيليب بوجهٍ جنائزيّ ملون بالحسرة، بينما تتحدث موجّهته عن كارول التي كانت تعزف على لوحة المفاتيح. يردّ فيليب بأن تلك الفكرة كانت فكرته، مُشيرًا إلى أن أسلوبها لم يكن يتناسب مع الأغاني التي كان يرغب في تقديمها.
هنا، تتجلى تفاصيل العلاقات الإنسانية، وما يمكن أن نصنعه في سبيل الحب، وكيف يمكن أن نُسيء الفهم ونتّخذ قرارات صغيرة بحق الطرف الآخر، دون أن نأخذ بعين الاعتبار أننا قد نكون مخطئين. وفي لحظات غير متوقعة، يعود الإنسان إلى قوقعة كبريائه، وينسى في كثير من الأحيان أن الاعتذار قد يُصلح عاصفةً من الظنون.
تسلط الحلقة الضوء على الأنانية التي قد تطغى على الحب، حين نطمس شخصية من نحب بدافع شعورنا بالأحقية في اتخاذ القرارات. وتبرز هذه الظاهرة بشكل خاص في المجتمعات التي تسود فيها سلطة الذكر على الأنثى، مثل المجتمع الشرقي، حيث دُمّرت كثير من العلاقات بسبب هذا الشعور بالسلطوية، رغم الحب الملحمي الذي قد يجمع الطرفين.
فعندما يرى الذكر أن شخصيته، وعواطفه، وأفكاره، وحتى آرائه، تمثّل الحقيقة المطلقة، يضطر الطرف الآخر إلى دفن نفسه في صمتٍ طويل يشبه مملكةً قاحلة بلا سكان، يحكمها إمبراطور عجوز مخفي عن العالم الخارجي.
تثور مشاعر فيليب في منتصف الحلقة، لحظة استحضاره لذكرياته المؤلمة، نادمًا على خيانته لكارول في تلك الليلة. وهنا يُطرح السؤال: هل يمكننا مسح أخطائنا والرجوع إلى الوراء لتصحيح ما ارتكبناه؟ وهل ستبقى الذكريات تعيد المشاعر المؤلمة ذاتها، حتى لو أعقبت اللحظاتِ البشعة لحظة صفاءٍ واحدة؟
في النهاية، يكتشف فيليب كاميرا قديمة تحتوي على صورة واحدة، تأخذه لمواجهة ذكرياته. يبدأ بتفحّص أرجاء الغرفة، باحثًا عن رسالة لم يقرأها قط، كما لو أنه يبحث عن إبرة ليخيط بها كفنًا يحمي ذكرياته من الضياع.
وحين يجد الرسالة ويقرأها، يخرّ باكيًا، محاولًا استذكار وجه كارول في إحدى الصور. يتأمّل يديها الناعمتين، الماهرتين في عزف التشيللو، وغرّتها المنسدلة على وجهها الطفولي، مختارًا ذكرياته على هيئة دموعه المنهمرة.
إن الذكريات، كما يصوّرها مسلسل "بلاك ميرور"، ليست سوى إعادة صياغة لواقع نخافه، وربما نتوجّس من مجيئه. إلا أن المسلسل يقدّم لنا، في كل حلقة، درسًا جديدًا: أن الإنسان، بوصفه كائنًا اجتماعيًا، لا يجب عليه أن ينسى أن الحياة، مهما تعقّدت أساليب تشكيلها، تعود دومًا إلى أصلها الأول: ثنائية الذكر والأنثى.