19-ديسمبر-2016

في حلب (الأناضول )

عملت في قناة تلفزيونية في أوروبا لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات بين عامي 2012 و2016. إحدى مهامي الأساسية كانت تحضير مختلف أنواع الفيديوهات التي تصلنا من وكالات الأنباء أو من المراسلين أو من الصحفيين، لعرضها على الشاشة خلال نشرات الأخبار أو خلال البرامج أو حتى على شبكات التواصل الاجتماعي.

اكشتفت أني أمنتج صور المجزرة في مدرستي التي قضيت فيها 12 عامًا

ماذا أعني بتحضير الفيديوهات؟، أعني انتقاء الفيديو المرافق للخبر الذي سيقدمه المذيع أو المذيعة. تعديل الإعدادات بما يناسب شاشة التلفاز، مشاهدة الفيديو كاملًا، ومن ثم إلغاء كل ما لا يناسب المشاهد بحسب معايير القناة من صور دماء، جثث، أشلاء وذلك كي تبقى الصور ضمن نطاق المقبول.

مرّت أمام عيني كل أنواع الصور وشاهدت كل أنواع الفظائع، من العراق لفلسطين لسوريا للبنان لأفغانستان لتونس لمصر لأفريقيا لأمريكا لآسيا لأوروبا، لجرائم "داعش" و"النصرة" و"القاعدة"، لكل الدكتاتوريات والملكيات والديمقراطيات والثورات والكيماوي والعنقودي والغاز والانفجارات والقنابل والبراميل ولكل ما يمكن أن يخطر على بال.

اقرأ/ي: لماذا حرمتني الفضائية السورية من بطلتي لين؟

لم يكن العمل ممتعًا أو سهلًا لكنني كنت أقوم به بحرفية ومهنية بقدر استطاعتي. كنت أحاول أن أتعامل مع الصور تعامل الحاسوب معها. لا أعلم إن كنت أنجح بخلق هذه الحالة من الفصام في الأحاسيس أم كنت فقط أرمي عليها بشرشف أبيض، كما نشاهد في الفيديوهات مع الجثث المنسية هنا وهناك. أذكر أننا في إحدى الأيام انتهينا من إعداد نشرة الساعة السادسة مساءً بكل صورها. خمس دقائق لتبدأ النشرة. المذيع يركض نحو الاستوديو. رئيس النشرة ينادي لي من بعيد وهو يركض: "أسرعي لين لو سمحتي، خبر عاجل عن سقوط قذيفة على مدرسة في دمشق. ابحثي عن الصور بسرعة، لديك 5 دقائق لتحضيرها". تركض نحوي الزميلة التي تستلم الصور من وكالات الأخبار: "دمشق على رويترز رقم ****" . أخرج الصور سريعًا على برنامج المونتاج، ثوانٍ وتبدأ الصور بالظهور، قبل مشاهدتها عدّلت إعدادات الطول والعرض. مرّرت الصور سريعًا كي أتأكد بعدم وجود فراغات زمن سوداء أو صور مكررة. حذفت صور الدماء على الأرض هنا وهناك، وأرسلتها خلال ثلاث دقائق إلى غرفة البث. تمت المهمة بنجاح. سنكون أول من يبث هذا الخبر ولن يرى المشاهد مشاهد مؤذية. وأنا بقيت ما يقارب العشر دقائق كالصنم أنظر إلى برنامج المونتاج دون حراك.

المدرسة مدرستي. قضيت فيها اثني عشر عامًا من حياتي. ظننت وقتها أن ذلك سيكون أقسى ما سأشاهده في هذا العمل.

ولكن الحقيقة أن كل ما رأيته في الأربع سنوات الماضية ثقيل وقاس ومتعب وتزداد وطأته وترتفع نسبة العنف فيه مع تقدم الزمن. وما نراه في الأيام الأخيرة في حلب هو من أسوأ ما رأيت في تلك السنوات. أنا لم أعد أعمل في القناة التلفزيونية ولكني أتخيل نفسي مكان الصحفي في التلفاز ولا أجد أي طريقة لتجميل هذه الصور أو وضعها في خانة المقبول، ولا أي طريقة.

كنت ربما في تلك السنوات أضحك على نفسي وأقول إن عيني ستتعودان وأن الآتي أعظم وأن عليّ مقاومة الاكتئاب والمحافظة على مهنيتي العالية. وأنا مازلت أحاول جاهدة فعل هذا كما يحاول الكثيرون داخل وخارج الدول مقهورة الشعوب. ولكني على من أضحك أنا؟ الآتي أعظم؟ أهناك أقسى وأثقل وأصعب وأعنف من كل هذا؟. ليتني أملك برنامج مونتاج يجمّل الحقيقة. لقد مللنا من تجميل الصور.

اقرأ/ي أيضًا:

من أجل حلب..عودة الاحتجاجات السورية في أوروبا

بعد ملحمة تاريخية.. "الثورة السورية" تودع حلب