يسير المشهد السوداني بخطوات متسارعة نحو التصعيد على كافة المستويات، العسكرية والسياسية، ففي الوقت الذي يحقق فيه الجيش الوطني نجاحات ميدانية على الأرض، محررًا العديد من المناطق التي استولت عليها قوات الدعم السريع سابقًا، إذا بالأخيرة توقع ما سُمي بـ"الميثاق التأسيسي" كخطوة تمهيدية لإعلان حكومة موازية في السودان.
في الثاني والعشرين من شباط/فبراير الجاري، وقّعت قوات الدعم السريع ميثاقًا مع عدد من الجماعات السياسية والمسلحة المتحالفة معها، في العاصمة الكينية نيروبي، لتشكيل "حكومة سلام ووحدة" في الأراضي التي تسيطر عليها. وجاء هذا التوقيع بعد مخاض عسير استمر عدة أيام، وتأجّل ثلاث مرات بسبب الخلافات المبكرة حول هيكلية الحكومة الجديدة.
بهذا الميثاق، بات السودان على بعد خطوات من النموذج الليبي، حيث حكومتان تتقاسمان السيطرة على البلاد: واحدة في بورتسودان ممثلةً عن الجيش الوطني والمعترف بها دوليًا، وأخرى موازية في الخرطوم خاضعةً لسيطرة الدعم السريع وحلفائه الجدد
ووقّع على الميثاق التأسيسي للحكومة الموازية، إلى جانب الدعم السريع التي وقّع عنها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ما يقرب من 23 حزبًا وحركة مسلحة وجماعة سياسية، أبرزها الحركة الشعبية التي وقّع عنها عبد العزيز الحلو، وحزب الأمة القومي الممثل في فضل الله برمة ناصر، والحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة إبراهيم الميرغني، بينما وقّع جوزيف توكا والهادي إدريس عن الحركة الشعبية –الشمال وحركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي.
اعتبرت وزارة الخارجية السودانية، في بيان لها، أن الغرض من إنشاء هذه الحكومة هو شراء الأسلحة وتوسيع الحرب وتعميق الانقسام في السودان، منددةً باستضافة نيروبي لفعالية توقيع هذا الميثاق، الذي اعتبرته "سابقة خطيرة وخروجًا كاملًا عن ميثاق الأمم المتحدة والأمر التأسيسي للاتحاد الإفريقي"، مؤكدةً أنه يمثل "تهديدًا بالغًا للأمن والسلم الإقليميين". من جانبه، أعرب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، عن قلق المنظمة إزاء هذه الخطوة، محذرًا من تداعياتها في زيادة حدة الانقسام وتفاقم الأزمة المستمرة في البلاد.
إحصائيات النزوح في #السودان خلال 2024 📊 pic.twitter.com/vX17QZRgkg
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 11, 2025
بهذا الميثاق، بات السودان على بعد خطوات من النموذج الليبي، حيث حكومتان تتقاسمان السيطرة على البلاد: واحدة في بورتسودان ممثلةً عن الجيش الوطني والمعترف بها دوليًا، وأخرى موازية في الخرطوم خاضعةً لسيطرة الدعم السريع وحلفائه الجدد، حسبما ذكر مستشار حميدتي، عز الدين الصافي.
ويثير هذا الاضطراب السياسي والعسكري في السودان قلقًا بالغًا لدول الجوار، على رأسها مصر، التي تترقب المشهد عن كثب. فالفوضى التي تعاني منها الجارة الجنوبية منذ اندلاع حرب الجنرالات في منتصف نيسان/أبريل 2023، والتي أودت بحياة عشرات الآلاف وأجبرت أكثر من 11 مليون شخص على النزوح القسري، تتشابك بشكل أو بآخر مع الأمن القومي المصري، الذي يعاني من تعدد جبهات التوتر في آن واحد، ما بين الشرق والغرب والجنوب. فكيف ستتعامل القاهرة مع هذا التطور اللافت في السودان؟
القلق من شبح التقسيم
المتابع للبنود التي تضمنها الميثاق التأسيسي، الأقرب إلى دستور شبه أولي، يخرج بنتيجة واحدة مفادها أن ما يحدث خطوة أقرب إلى التقسيم منها إلى مجرد حكومة موازية، حيث إن الطريق بات ممهّدًا نحو دولتين: واحدة في الخرطوم وسط البلاد، وأخرى في بورتسودان في الجبهة الشمالية الشرقية، في مشهد يعيد إلى الأذهان عام 2011، حين انفصل جنوب السودان عن شماله.
وتعود إرهاصات هذا المخطط إلى أوائل كانون الأول/يناير الماضي، حين كشفت قوات الدعم السريع عن نيتها تشكيل حكومة موازية للسلطة القائمة في البلاد، بزعم الإشراف على المناطق الخاضعة لسيطرتها من أجل تسهيل تقديم الخدمات للأهالي القابعين فيها. وتكشفت الأمور تباعًا مع الإعلان عن الميثاق التأسيسي في نيروبي، التي رعت المباحثات بين الفصائل والكيانات المنضوية تحت لواء الحكومة الموازية.
وينص الميثاق في بنوده الأولى على تغيير هوية الدولة ومرتكزاتها الأيديولوجية، وذلك عبر تأسيس دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية قائمة على الحرية والمساواة والعدالة، وغير منحازة لأي هوية، كما منح الدستور السودانيين حق تقرير المصير في اختيار هوية الدولة وما إذا كانت علمانية أو دينية.
أما نظام الحكم، فنص على أن يكون ديمقراطيًا تعدديًا، تختار فيه الشعوب من يحكمها عبر انتخابات حرة ونزيهة، تُسفر عن تأسيس نظام حكم لا مركزي حقيقي، يقوم على الاعتراف بالحق الأصيل لجميع الأقاليم في إدارة شؤونها. كما تضمن كذلك تأسيس جيش وطني جديد مهني وقومي، بعقيدة عسكرية جديدة تعكس التعدد والتنوع، ويخضع للرقابة والسيطرة المدنيتين، مع تشكيل شرطة ومخابرات مهنيتين دون أي ولاءات.
أما الأهداف التي تسعى الحكومة الموازية لتحقيقها، فتضمنت إنهاء الحروب وتحقيق السلام الشامل والعادل، وتوزيع المساعدات عبر فتح جميع المعابر البرية والجوية والمطارات دون قيود، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية بلا عوائق إلى كافة ولايات السودان، والحفاظ على وحدة البلاد. كما شملت استعادة الحقوق الدستورية لجميع المواطنين دون تمييز، واسترداد مسار الحكم المدني الديمقراطي، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين عبر تبني الحكومة سياسات تعزز الاستقرار، مع الابتعاد عن الاستقطاب والاصطفاف الدولي الذي قامت به الحكومة الموجودة في بورتسودان.
🎥 15 مليون طفل خارج مقاعد الدراسة في #السودان pic.twitter.com/cDR2AxURIw
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) November 15, 2024
ما الذي يقلق القاهرة؟
قبل توقيع "الميثاق التأسيسي" في نيروبي بنحو 22 يومًا تقريبًا، وتحديدًا في 31 كانون الأول/يناير الماضي، وقّعت مصر وكينيا اتفاقية شراكة استراتيجية وشاملة، تضمنت اتفاقيات تجارية وأمنية ودفاعية، وذلك خلال زيارة الرئيس الكيني ويليام ساموي روتو للقاهرة بدعوة رسمية من نظيره المصري عبد الفتاح السيسي.
ورغم تلك الشراكة المعلنة والتقارب الواضح في العلاقات بين القاهرة ونيروبي خلال الآونة الأخيرة، فإن احتضان كينيا لمؤتمر الدعم السريع وشركائه لتدشين الحكومة الموازية في الخارج أثار القلق لدى الشارع المصري بصفة عامة بشأن تداعيات هذه الخطوة على الأمن القومي والمصالح المصرية، وذلك انطلاقًا من بعض المسارات الرئيسية:
أولًا: العلاقة المتوترة بين القاهرة وقوات الدعم السريع
دخلت العلاقة بين الطرفين منعطفًا جديدًا من الصدام بعد الهجوم الذي شنه قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حين اتهم الجيش المصري بالمشاركة في الضربات الجوية على قواته في منطقة جبل موية، قائلًا في مقطع فيديو مسجل: إن قواته "قُتلوا وضُربوا غدرًا بالطيران المصري"، وفق تعبيره.
وأوضح حميدتي أن قواته صمتت كثيرًا على ما أسماه "مشاركة الطيران المصري في الحرب" لمنح القاهرة فرصة للتراجع، لكن هذا لم يحدث، حيث استمر تقديم مختلف أشكال الدعم للجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، كاشفًا عن تدريب القاهرة لعناصر من الجيش السوداني وإمداده بطائرات مسيّرة.
كانت تلك هي المرة الأولى التي يتهم فيها قائد الدعم السريع القاهرة بشكل مباشر منذ اندلاع حرب الجنرالات في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، مما عُدَّ حينها تحولًا محوريًا في مسار المعركة وتعاطي مصر معها، لتدخل العلاقة بين الطرفين نفقًا مظلمًا من الاتهامات المتبادلة والتخوين والسجال الإعلامي والسياسي.
ثانيًا: العلاقات القوية بين حميدتي والحكومة الإثيوبية
تنامت العلاقة بين حميدتي والحكومة الإثيوبية بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، حيث حاولت أديس أبابا توفير الحاضنة السياسية والاقتصادية لقوات الدعم السريع. وهذه العلاقة تثير قلق القاهرة في ظل الأزمة المندلعة مع إثيوبيا بسبب سد النهضة والتصرفات الإثيوبية الأحادية بشأن استكمال بناء السد حتى وصوله إلى مراحله الأخيرة، والقيام بمراحل التخزين المختلفة دون الموافقة المصرية، مما يمثل تهديدًا خطيرًا للأمن المائي المصري ويعرض المصريين لفقر مائي محتمل.
ثالثًا: توتير الأجواء على الحدود الجنوبية المصرية
إقدام الدعم السريع على تشكيل حكومة موازية وتدشين تحالف إقليمي يضم كينيا وتشاد وجنوب السودان، ومن بعدهم إثيوبيا، وربما إسرائيل من خلف الستار، من شأنه أن يشعل التوتر في الخاصرة الجنوبية لمصر، سواء في السودان أو في القرن الأفريقي، الذي يزداد فيه عدد اللاعبين الأجانب بطريقة تهدد الأمن القومي المصري.
سير عكس الاتجاه
الحديث عن تشكيل حكومة موازية من خارج السودان يعد طرحًا يناقض المبادئ الأساسية التي تستند إليها السياسة الخارجية المصرية تجاه السودان، والتي ترتكز في جوهرها على فرض التهدئة عبر عملية سياسية شاملة، يتشارك فيها جميع الأطراف السودانية، مع إبعاد التدخلات الأجنبية التي تعبث بالداخل السوداني وتشكل تهديدًا لجيرانه ودول المنطقة.
واتساقًا مع هذه الرؤية، جمعت مصر في تموز/يوليو من العام الماضي الفرقاء المدنيين في الساحة السياسية السودانية خلال مؤتمر احتضنته القاهرة تحت شعار "معًا لوقف الحرب"، حيث ناقش العديد من الملفات الخلافية في محاولة للتوصل إلى أرضية مشتركة، تمحورت حول ثلاث مجالات: وقف الحرب، والإغاثة الإنسانية، والرؤية السياسية لما بعد الحرب.
كما أن العقيدة السياسية والعسكرية التي يتبناها النظام المصري الحالي تقوم على دعم الجيوش النظامية في مواجهة أي كيانات فرعية مسلحة، وهي الكيانات التي غالبًا ما يتعامل معها الإعلام الرسمي المصري بوصفها "ميليشيات"، إذ تنظر السلطة المصرية إلى تلك الجماعات نظرة توجس وريبة، مدفوعةً بقائمة من الهواجس التاريخية.
📌 يشير تقرير لموقع "إن بي سي نيوز" الأميركي إلى أن أكثر من 30 مليون شخص في #السودان بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
📌 باتت مطابخ الطعام التي توفر الغذاء والدواء وغيرها من الإمدادات الأساسية معرضة للتوقف بشكل نهائي بعد تجميد الإدارة الأميركية لأنشطة وكالة التنمية الدولية.
📌 بحسب… pic.twitter.com/Em1HMomwun
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) February 13, 2025
دعم الجيش السوداني
في السابع عشر من نيسان/أبريل 2023، أي بعد يومين فقط من اندلاع حرب الجنرالات، نشرت مجلة "ذا وور زون" الأميركية، المهتمة بالشؤون العسكرية، صورًا ملتقطة بالأقمار الصناعية أظهرت تدمير قوات الدعم السريع لطائرة مصرية على الأقل من طراز ميغ-29 في قاعدة مروي الجوية السودانية، في إشارة إلى وجود واضح للجيش المصري في السودان لدعم جيش البرهان، بحسب المجلة.
وبعد يومين من نشر هذا التقرير، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، من خلال تحقيق صحفي، عن دعم الجيش المصري لنظيره السوداني ببعض المساعدات العسكرية، شملت طائرات مقاتلة وطيارين وشحنات من السلاح، فضلًا عن تدريب ضباط مصريين لفرق عسكرية من الجيش السوداني.
ورغم ما كشفته تلك التقارير عن الدعم المصري للجيش السوداني بقيادة البرهان، فإن القاهرة التزمت الصمت، رافعةً شعار الحياد والوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وذلك لتحقيق عدة أهداف، أبرزها: تجنب التورط في المستنقع السوداني كطرف حرب، بما يترتب على ذلك من تهديدات مباشرة، علاوة على خشية النظام المصري الصدام مع حلفائه الداعمين لقوات الدعم السريع، من بينهم الإمارات وروسيا والجنرال الليبي خليفة حفتر وإسرائيل، فضلًا عن الحفاظ على فرصها في لعب دور الوساطة لتهدئة الأجواء وحلحلة الأزمة سياسيًا دون تصعيد.
ماذا عن القادم؟
تجدر الإشارة، ابتداءً، إلى أن القاهرة تتعامل مع مجلس السيادة السوداني باعتباره السلطة الرسمية المعترف بها دوليًا، ومع الجيش السوداني بصفته المؤسسة العسكرية الوطنية. وعليه، فإن ما يُثار بشأن حكومة موازية، ودستور بديل، وجيش وطني آخر، لا يعدو، بالنسبة للجانب المصري، كونه حرثًا على الماء، حيث لا اعتراف ولا تعامل، هكذا على الأرجح.
ومن المتوقع أن يلتزم الجانب المصري الصمت إزاء مثل تلك التحركات، حتى وإن كان موقفه بشأنها أوضح من أن يحتاج إلى توضيح، بزعم أنها شأن داخلي في المقام الأول، مكتفيًا بثوابته الأساسية التي تستهدف وحدة السودان، أرضًا وشعبًا وسلطة، والعمل على حلحلة الأزمة بالطرق الدبلوماسية، والتوصل إلى أرضية مشتركة يقف عليها الجميع للخروج من هذا المأزق.
📌 يستعد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لطلب إصدار مذكرات توقيف للمتهمين بارتكاب جرائم في شمال دارفور في السودان.
📌 أكد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أن مكتبه يتخذ الإجراءات اللازمة لتقديم طلبات لإصدار مذكرات توقيف في ما يتعلق بالجرائم، التي نعتقد أنها تُرتكب… pic.twitter.com/uIsF2TIL4N
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 28, 2025
وفي أول رد فعل، غير مباشر، إزاء هذا التطور، أكد السيسي، في بيان مصري-إسباني مشترك خلال زيارته لمدريد الأسبوع الماضي، على "ضرورة احترام وحدة وسلامة أراضي السودان، والحفاظ على مؤسساته الوطنية"، مشددًا على "أهمية العمل على إطلاق عملية سياسية شاملة بملكية وقيادة القوى السياسية والمدنية السودانية، دون إملاءات خارجية".
ويرى مراقبون أن مثل هذا التحرك جاء رد فعل على الهزائم التي يتلقاها الدعم السريع وحميدتي ميدانيًا أمام الجيش السوداني خلال الآونة الأخيرة، مما دفعه نحو البحث عن ورقة ضغط يمكن المساومة بها على طاولة المفاوضات، ليضمن حضورًا سياسيًا له في اليوم التالي للحرب، أو على الأقل عدم ملاحقته قضائيًا مستقبلًا.
ومن ثم، فمن المرجح أن يكتفي المصريون بمتابعة المشهد عن كثب، ومراقبة كافة الخطوات التي يخطوها الشركاء بشأن تدشين الحكومة الموازية، دون الانخراط المباشر فيها، مع تكثيف الاتصالات الدبلوماسية بمجلس السيادة والقوى الإقليمية الفاعلة لتقييم المشهد، ومن ثم اتخاذ اللازم بشأنه، خاصة في ظل ما يُثار حول قصر عمر تلك الحكومة وتراجع نسب نجاحها في ظل الرفض الإقليمي والدولي لها، والمخاوف المتصاعدة بشأنها، لا سيما وأن سيناريو جنوب السودان لا يزال كابوسًا يؤرق السودانيين منذ عام 2011.