06-سبتمبر-2019

تشكلت الحكومة السودانية وسط فرح وجدل (تويتر)

أخيرًا وبعد مخاضٍ عسير رأت حكومة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك النور، وخرجت من رحم معاناة الثورة التي ظلت تعافر لتحقيق مطالبها المتمثلة في الحرية والمساواة والعيش الكريم. وظل الشارع السوداني طوال الأسابيع الماضية مشدودًا صوب القصر الرئاسي، يترقب عنصر المفاجأة، بخلاف ما أوغلت فيه الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي من تسريبات، بينما قوى الحرية والتغيير ما انفكت هي الأخرى تمارس هوايتها في شطب وترشيح الأسماء، وانتهت تقريبًا إلى محاصصة حزبية وجهوية هزمت معيار الكفاءة، وفقًا لكثير من الآراء.

حملت الحكومة الجديدة أسماء ومفاجآت لم تكن في الحسبان، وغابت في زحمة الرفض والمشاورات السرية أسماء أخرى، كان الشارع يأمل فيها، على نقيض الدفع بالشاب مدني عباس مدني في وزارة الصناعة والتجارة وسط معارضة قوية

دخل حمدوك في مشاورات مع قوى التغيير ومجلس السيادة، أفضت إلى الإعلان رسميًا عن 18 وزيرًا، بينهم 4 سيدات، بينما تأجّل الإعلان عن وزارتين هما الثروة الحيوانية والبنى التحتية، لم تتوفر شخصيات مناسبة لشغلهما، مع غياب تمثيل مناطق شرق السودان، والنيل الأزرق التي تدور فيها رحى الحرب منذ سنوات.

اقرأ/ي أيضًا: عبدالله حمدوك.. من هو رجل المرحلة المقبلة في السودان؟

معركة الوزير مدني

حملت الحكومة الجديدة أسماء ومفاجآت لم تكن في الحسبان، وغابت في زحمة الرفض والمشاورات السرية أسماء أخرى، كان الشارع يأمل فيها، على نقيض الدفع بالشاب مدني عباس مدني في وزارة الصناعة والتجارة وسط معارضة قوية، نسبة لأن مدني كان ضمن فريق التفاوض الذي قرر مبكرًا عدم مشاركة أي من أعضائه في الجهاز التنفيذي، إلى جانب اتهمات طالت الرجل بأخذ نحو مائة ألف دولار من المعونة الأمريكية لمنظمته لم تتأكد أوجه صرفها بشفافية، وهو ما نفاه مدني بصورة غاضبة وغير مقنعة للبعض.

حصة العساكر

من أبرز الأسماء التي دخلت التشكيلة الوزارية الفريق جمال الدين عمر وزيرًا للدفاع، والفريق شرطة الطريفي إدريس وزيرًا للداخلية، وقد تولى المكون العسكري في مجلس السيادة ترشيح جمال الدين عمر والطريفي لوزارتين ذات طبيعة عسكرية، حيث كان الفريق جمال عمر قد تولى رئاسة اللجنة الأمنية في المجلس العسكري السابق، بينما يعتبر تعيين ضابط شرطة في وزارة الداخلية حالة نادرة في السودان، وظلت هذه الوزارة طوال سنوات حكم البشير تدار وفقًا لتقديرات سياسية، أكثر من كونها مهنية، حيث لم يرتق إليها ضابط شرطة.

عطفًا على ذلك فإن وزارتي الداخلية والدفاع تحت سلطة رئيس الوزراء نسبيًا، فيما يتعلق بالسياسات والميزانية، لكنها بصورة أخرى فهي تحت سلطة رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، أما الأداء الفني للقوات والأوامر المستديمة وتعليمات الواجبات فهي سلطة القائد العام للجيش بالكامل، وسوف يخضع أيضًا جهاز المخابرات العامة للسلطتين السيادية والتنفيذية خلال المرحلة الانتقالية.

أسماء ومفاجآت

سقوط اسم الناشط السياسي عمر قمر الدين من وزارة الخارجية بسبب اتهامات طالته بالتحريض على حصار السودان، ودعم بقاء الخرطوم في قائمة الدول الراعية للإرهاب من خلال تحريض منظمة كفاية الأمريكية، وهذا ربما دفع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى استبداله بالسيدة أسماء محمد عبد الله، التي تعتبر دبلوماسية عريقة، تنتمي إلى وزارة الخارجية، منذ سبعينات القرن المنصرم، وعملت في بعثات خارجية، وفي المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، واستقرت بالمغرب برفقة زوجها لفترة ثم عادت للخرطوم، ويبدو أن حماس حمدوك لتعيين أسماء مرده التناغم، وتقدير متطلبات السياسة الخارجية بصورة متطابقة بينهما.

السياسة الاقتصادية

أما وزارة المالية فقد حسمت باكرًا، وسمى لها الخبير الاقتصادي المعروف إبراهيم البدوي، الذي كان يشغل منصب مدير مركز السياسات والبحوث الاقتصادية بمجلس دبي الاقتصادي، كما تم انتخابه مؤخرًا لمنصب المدير التنفيذي لمنتدى البحوث الاقتصادي للدول العربية، وهو أيضًا خبير في البنك الدولي، مما يفاقم مخاوف السودان بإنفاذ متطلبات البنك الدولي، المتمثلة في رفع الدعم عن الوقود والدقيق، وتعويم الجنيه السوداني، بصورة قاسية لا تحتملها الأسر السودانية، التي تعاني من ضائقة معيشية، وغلاء طاحن مقابل ضعف الأجور.

وفي أول تصريح له أعلن ابراهيم البدوي عن انطلاق برامج متفق عليها في إطار الحوار المجتمعي ليخاطب بها المجتمع الدولي تتم خلال المرحلة الأولى للحكومة الانتقالية، وتوقع البدوي دعم الصناديق التنموية التي يشارك فيها من وصفهم بأشقاء السودان، لأجل تخفيف أعباء المعيشة والاحتياجات المطلوبة. وحول تثبيت سعر الصرف، إذ يواجه الجنيه السوداني تدهورًا مريعًا مقابل الدولار، قال البدوي إن أي دعم من الأشقاء خاصة يسهم في تثبيت أسعار الصرف ليكون "سعر الصرف مرنًا في إطارٍ متوازن حتى نبتعد عن التقلبات الكثيرة في أسعار الصرف والذي يحتاج لمزيد من الرصيد النقدي"، على حد وصفه.  

حكومة الطيور المهاجرة

بالنسبة لمجلس الوزارة فقد تم الدفع فيها بعمر مانيس، أحد الخبراء والدبلوماسيين، قضى 34 عامًا في وزارة الخارجية وعمل بالأمم المتحدة في عدد من بعثاتها الأفريقية، وهي الوزارة التي سُمي لها مدني عباس مدني، لكن ضغوطات إبعاد مدني من قبل الشارع، ودعمه من قوى التغيير، انتهت به على مضض وزيرًا لوزارة التجارة والصناعة، ويوسف آدم الضي للحكم الاتحادي، بينما سمي نصر الدين مفرح وزيرًا للشؤون الدينية والأوقاف، وانتصار الزين صغيرون - عميدة كلية الآداب بجامعة الخرطوم  سابقًا،  وزيرة للتعليم العالي، أما عيسى عثمان شريف فقد ذهب إلى وزارة الزراعة ، ومحمد الأمين التوم للتربية والتعليم، وعادل إبراهيم للطاقة والتعدين، عطفًا على ذلك أسندت وزارة العدل التي كان عليها خلاف شديد، لأنها معنية بمحاكمة رموز النظام القديم واستعادة الأموال المنهبة، بالتنسيق مع النيابة العامة والقضاء، إلى  نصر الدين عبد الباري وهو من الوجوه الأكاديمية التي أكملت دراستها العليا بالولايات المتحدة الأمريكية، فيما تولى أكرم علي التوم، الذي يمثل واجهة مهنية، وزارة الصحة، وقد كان نشطًا في لجنة الأطباء المركزية، إضافة إلى ذلك ذهبت وزارة الري والموارد المائية إلى الخبير بالأمم المتحدة ياسر عباس، ويبدو من وراء ذلك أن غالب الأسماء كانت تعمل في منظمات أممية، ما يعني انحسار حصة الداخل لصالح الخارج، أو ما عرف بالطيور المهاجرة التي سيطرت على الحكومة، ابتداءً من عبد الله حمدوك نفسه، وأربعة من ضمن ستة مدنيين في مجلس السيادة، جاءوا من الخارج لتسلم مواقعهم.

واعتذر حمدوك عن التأخير في الإعلان الوزاري قائلا: "مارسنا تمرينًا ديمقراطيًا، وأجرينا مشاورات واسعة وعميقة اصطحبت معايير مرتبطة بالكفاءة والنوع". مشيرًا إلى أن لديهم برنامجًا مفصلًا لمعالجة الميزان التجاري. وأضاف حمدوك: "نحن الآن في شهر عسل مع العالم"، وهذا المناخ الجديد سيخلق تعاطفًا عالميًا مع السودان.

جدل وزارة الإعلام

أيضًا أثارت قصة تعيين فيصل محمد صالح وزيرًا للثقافة والإعلام جدلًا واسعًا في الأروقة الصحافية. ورغم أن فيصل الكاتب الصحفي والمحلل السياسي يحظى بشعبية واسعة، فقد رفضته دوائر داخل تجمع المهنيين، تحديدًا شبكة الصحفيين التي كان لديها مرشح آخر، دون أن تعلن موقفًا رسميًا بذلك، سوى كتابات بعض أعضاء الشبكة، ويعتبر صالح من الإعلاميين المميزين، وشارك في منهاضة سياسات النظام السابق، وتعرض للاعتقال والتوقيف أكثر من مرة، ويحظى بتقدير القاعدة الصحفية، وقد حاز من قبل على جائزة "بيتر ماكلر" التي تكافئ الشجاعة والنزاهة في مهنة الصحافة عام 2013.

حصة النساء

غلبت على حصة النساء الأصوات الثورية، حيث عهد إلى ولاء عصام البوشي المولودة في منتصف الثمانينات بحقيبة الشباب والرياضة، وهي مهندسة وناشطة سياسية، عملت لفترة طويلة في منظمات المجتمع المدني، والمجال الرياضي، أما لينا الشيخ فقد عهد إليها بوزارة العمل والتنمية الاجتماعية، وهي حاصلة على درجة الماجستير في دراسات التنمية من جامعة مانشستر ببريطانيا، وعملت في منظمات دولية، وبرامج ريادة الأعمال للشباب. وتولت البروفسورة انتصار الزين صغيرون، وزارة للتعليم العالي، وتولت أسماء محمد عبد الله وزارة الخارجية.

اقرأ/ي أيضًا: تقرير لجنة التحقيق يفتح الباب أمام مزيد من الاحتمالات الثورية في السودان

محاصصة حزبية

ورغم أن أحد معايير اختيار الحكومة كان الكفاءة والتأهيل الأكاديمي، إلا أن الأحزاب السياسية والكتل النقابية مارست ضغوطات كبيرة لتمرير عديد من الوجوه، حتى المرفوضة، من بينها وجوه بصبغة حزبية مباشرة، وأخرى لديها انتماءات فكرية لكنها تبدو شبه مستقلة، وقد نجح حزب الأمة في الحصول على ثلاثة مواقع وزارية، من بينها وزارة المالية، والأوقاف والشؤون الدينية، أما الحزب الشيوعي رغم موقفه المعلن بعدم المشاركة، إلا أنه كان حاضرًا في الترشيحات، ويرجح أن خمسة وزارات كانت من نصيبه، من بينها الخارجية والصحة والتربية والتعليم والزراعة، ووفقًا لما رشح من معلومات فإن وزير الطاقة والتعدين عادل إبراهيم ذو ميول بعثية، أما وزير الإعلام والثقافة فيصل محمد صالح فهو لا يخفي ميوله الناصرية، السابقة على الأقل.

دخل حمدوك في مشاورات مع قوى التغيير ومجلس السيادة، أفضت إلى الإعلان رسميًا عن 18 وزيرًا، بينهم 4 سيدات، بينما تأجّل الإعلان عن وزارتين هما الثروة الحيوانية والبنى التحتية، لم تتوفر شخصيات مناسبة لشغلهما

وبالرغم من ذلك قوبلت حكومة حمدوك بحفاوة واسعة من قبل السودانيين، على أمل الاستجابة لرغبة شارع محاصر بالأزمات، ويتوخّى من خلالها حلولًا لكثير من المعضلات، قبيل شروعه في الاستعداد لاستحقاق انتخابي، وينتظر أن تدفع الحكومة الجديدة ببرامج ورؤى للنهوض بالسودان وفتح كوة للأمل في سماء ملبدة بغيوم السياسة والاقتصاد.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حراك السودان ومعركة الحكومة المدنية.. تحولات حاسمة