12-أغسطس-2015

لم يتبق من كثير من ضحايا قمع الأمن المصري سوى صورهم المعلقة على الجدران (أ.ف.ب)

تقع قرية ناهيا بمركز كرداسة في محافظة الجيزة، ويتراوح عدد سكانها بين 60 و70 ألف مواطن. تعاني تلك القرية من الحصار الأمنيّ المشدد، وصارت قوات الأمن تنتهك حرمات منازلها وتقتحمها يوميًا بشكل مفزع، حتى أن عشوائية الأمن وصلت إلى حدود القتل، وليس الاعتقال فقط. وأثرت القبضة الأمنية على مواطني قرية ناهيا من الناحية الاقتصادية والخدمية بشكل كبير، ولكن وسائل الإعلام دائما ما تتهم أهالي ناهيا البسطاء بالإرهاب.

قبل الحديث عن الحصار الأمني، يكفي ذكر أن أبناء ناهيا ممنوعون بقرار أمني صدر في عهد مبارك من الوصول إلى رتبة ضابط في الشرطة أو في الجيش، "لأننا إرهابيون فى نظر الدولة"، يقول أحد مواطنيها.

المجزرة

يسعى الإعلام المصري دائمًا إلى تبرير انتهاكات الأمن بحق قرية ناهيا بدعوى أن القرية كلها إرهابية

14 مواطنًا في قرية ناهيا قتلوا على يد قوات الأمن أثناء اقتحامها للقرية. لعل أبرز هؤلاء خالد الرشيدي (23 عاماً)، العضو في حركة 6 أبريل، والذي التقى "الترا صوت" بأسرته لسماع الرواية عما حدث بألسنتهم. "هنا كان ينام خالد، ولكن اليوم لم يتبقى منه سوى صورته التي نعلقها على الجدران"، يصف حسام الرشيدي الشقيق الأصغر لخالد، مضيفًا، "كنت أمشي بجوار أخي عند موقف الأتوبيس يوم 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، وتفاجأنا بقوات الأمن تقتحم القرية وتطلق النيران بشكل عشوائي، حاولنا الاحتماء في أي شيء، ولكن أخي خالد كان قد وقع على الأرض، كنت أظن فى البداية أنه تعثر بشيء، فحملته على كتفي، لتسيل دماؤه على جسدي من رأسه، حاولت أن أنقذه، ولكن الغاز المسيل للدموع كان يغطي سماء القرية، علمت في نفس اليوم أن الأمن قد قتل اثنين آخرين، أحدهما حمدي الصعيدي، وهو يعمل في كافيتريا أمام موقف الأتوبيس، خنقته قنابل الغاز وهو في مكان عمله ولم يتسطع الخروج".

أما والدة خالد الرشيدي التي لم تتوقف عن البكاء أثناء حديثها معنا، فتتذكر ابنها بين دموعها "كان يحب بلده (مشيرة إلى صورته وهو يؤدي الخدمة العسكرية)، قبل استشهاده بخمس دقائق كنت معه لشراء شبكة فرحه، ولكن محل الذهب كان مغلقًا لأن الجميع أغلق أثناء اقتحام الأمن لقريتنا. كان يمكن إنقاذه ولكنهم رفضوا استقباله فى مستشفى أبي رواش المجاورة لناهيا، فذهبنا إلى القصر العيني، والغريب أنهم عندما علموا أننا من ناهيا أمرونا بانتظار الدور، وكان الأمن يريد اعتقال كل من جاء لإنقاذ خالد، وأرداوا اتهام أحد أصدقاء خالد الذي جاء لإسعافه".

تصفية جسدية

في ناهيا لا تكتفي قوات الأمن بالقتل العشوائي، بل تباح للأمن التصفية الجسدية داخل المنازل، طالما أن الإعلام يبرر كل شيء. سيد شعراوي، عامل الأمن، صُفِيَ في منزله وأمام أولاده من دون مقاومة منه في آذار/مارس 2015، كما يخبرنا قريبه، مضيفاً "قتلوه بأكثر من 20 رصاصة من الخلف ثم وضعوا السلاح فى يده حتى يصوروه ويتهموه بالإرهاب".

وفي أيار/مايو الماضي أثناء الاقتحام المعتاد من قوات الأمن لناهيا، أطلقت الداخلية الرصاص الحي عشوائيًا، أثناء فض إحدى التظاهرات، فوقعت بعض الإصابات، ولكن الطفل أحمد شحاتة البالغ من العمر 14 عاما أصابته رصاصة حية في رأسه أدت إلى موته فوراً.

الإخفاء القسري

مجرد وجود كلمة ناهيا في البطاقة الشخصية قد يؤدي إلى اعتقالك والاعتداء عليك

"سمعت أصوات الرصاص وتفاجأت بعدما علمت أنها في بيتنا. رأيت الشرطة تدمر كل شيء من دون سبب. سألوا عن أخي محمد فلم يجدوه، فاختطفوا والدي، وهو مزارع (62 عامًا). بحثنا عنه ولكننا لم نجده، وظل مكانه غير معلوم لنا لمدة 15 يومًا. تقدمنا ببلاغات للنائب العام ولكن من دون فائدة"، بهذه الكلمات يصف سعيد صلاح قصة اختطاف والده، ويضيف "لم يكتفوا بخطف والدي، اختطفت الشرطة زوجة أخي يومًا كاملًا، بعدما دمروا محتويات المنزل من جديد، أما والدي الذي لا علاقة له بالسياسة، والذي يعاني من السكري، فأطلق الأمن سراحه بعد 15 يومًا دون عرضه على النيابة، ولم تنته المعاناة بإطلاق سراح أبي وزوجة أخي، فنحن لا نزال نبحث عن شقيقي محمد صلاح، الذي اعتقلته قوات الأمن ومكانه مجهول إلى الآن".

كما أن وجود كلمة ناهيا في البطاقة الشخصية قد يؤدي إلى اعتقالك والاعتداء عليك، وفي أحسن الأحوال، ستجعل الأمن يشتمك ويلعنك. وهذا على ذمة ع.أ الذي يعمل سائق سيارة أجرة. ويصرح أن الشباب فى ناهيا الآن يدفعون 600 جنيه لتغيير عنوان السكن حتى يتحركوا بحرية خارج القرية. 

إرهاب دولة

الوصول إلى رتبة ضابط في الشرطة أو في الجيش، ممنوع على أهل ناهيا بقرار أمني صدر أيام مبارك

"عندما تظهر الداخلية يجب على الجميع أن يغلق المحلات التجارية، ويجب على المزارعين العائدين من أراضيهم أن يبحثوا عن أماكن يلجأون إليها، لكي يتجنبوا قوات الأمن، لأنها تعتقل كل من تقابله فى طريقها وتضرب النيران عشوائياً". هكذا يقول سائق "التوكتوك"حلمي السنوسي، ويضيف "هما مش معاهم كلاكسات (زوامير) فقالوا يضربوا نار؟!". أما محمد هاني (18 عامًا)، يقول إنه كان عائدًا إلى منزله، فإذ بالداخلية تقتحم القرية، وتعتقل كل من في الشارع "كنت ضمن هؤلاء المعتقلين واتهمونا بالتظاهر، مع أنه لم يكن هناك أي متظاهرين وأخلي سبيلي بكفالة 2000 جنيه، ولا أعلم سببا لاعتقالي سوى أنني من ناهيا".

على حافة العدم

في ناهيا، بعد صلاة الفجر يصطف الناس أمام مخزن اسطوانات الغاز الوحيد فى القرية قبل أن يفتح أبوابه، حتى يحصل المواطن على اسطوانة غاز من المخزن مباشرة، مع أن الغاز متوفر فى هيئة أنابيب تصل إلى المنازل فى بولاق الدكرور المجاورة لناهيا، إلا أنها لا تصل لقرية ناهيا، وأزمة السولار لا تختلف عن أزمة الغاز بالنسبة للطوابير.

"لم نسمع يوماً أنه تم إلغاء موقف أتوبيس عام، بل نسمع عن افتتاح مواقف أتوبيس، أما في ناهيا فتسمع العجب"، هكذا يقول الحاج شوقي السنديوني، ويضيف أن الموقف تحول إلى "موقف للزبالة". ولا يعرف إلى الآن لماذا تم إلغاء الموقف، ويسأل "عن محور 26 يونيه" المجاور لناهيا قائلاً "لا يوجد طريق لصعود الكوبري بالسيارات". أما مشفى ناهيا الذي تبلغ مساحته 12 فدان فيغلق أبوابه في وجه المرضى بعد الـ11 صباحًا، ولا يوجد فيه إسعافات أولية. ويذكر أن أهالي القرية طالبوا بتحويله إلى مشفى مركزي وجمعوا توقيعات جماعية لإرسالها لوزارة الصحة ولكنهم لم يتلقوا ردًّا.


تشويه إعلامي مستمر

عندما تنوي زيارة قرية ناهيا، ستجد البساطة متمثلة في أهلها المزارعين والعاملين في مصانع الطوب. قرية عادية، ولكن الإعلام المصري دائمًا يبرر انتهاكات الأمن في قرية ناهيا بدعوى أنها إرهابية، لا لشيء إلا لأنها قرية مصرية فيها حضور لجماعة الإخوان المسلمين، فالإعلام يحاصر القرية كما تحاصرها قوات الأمن وأكثر، هكذا يقول المزارع سعد منصور (58 عامًا)، مضيفا أنه يتعجب عندما يحرض الإعلام ضد القرية بمن فيها، "مع أننا لا علاقة لنا سوى بالأرض، ولا دراية لنا بالسياسة".

في القرية أيضاً ألتراس. رابطة من شباب ينتمي إلى قرية ناهيا. قرروا التظاهر باستمرار رفضًا للحصار الأمني وللانتهاكات الأمنية، ولا يطالبون سوى بالحرية لهم ولقريتهم. إلا أنهم يرفضون الحديث لوسائل الإعلام خوفًا من البطش الأمني، الذي ما زال قائماً حتى هذه اللحظة.