09-مايو-2022
أهوار العراق

أهوار العراق

انتهت الحرب وعدتُ إلى طفولتي. القرية والصيادون وكتب الشّعر التي ورثتها من ثقافة معلمي في المدرسة الابتدائية.

على جسد الورقة الصفراء يتثاءب الخريف وتتدثر واحدة عارية بمعطف رغبتها، فيسألني واحد جائع ويشتهي: متى تكون التفاحة وأنا في شهوة واحدة؟

أردُّ: عندما يكون آدمكَ وعريُ الدّمعة ممزوجين بعريِ الدّهشة، لتأخذها أنّى تشاء، فلقد كان خطئها أنّها ترغب في وردة السّرير، وأنت أهملتها إلى حربك الشّاسعة.

هكذا دون خجل من هاجس الوسادة يطلبُ الجائع خبزًا، ليدخل الفقر قبو الجسد، فأتذكّر رقصة الدّيك فوق سور الخطيئة، لماذا رمينا حجرًا على أحلامنا؟

لماذا خوذُ الجنود تصبح ذاكرة للطّفولة، والآن تصبح دفترًا لتدوين تفاصيل الرّحلة؟

لماذا الجنود يحبّون الكلمات القديمة ويتركون خلفهم أجساد نسائنا التّائهات في طقوس انتظار مشاجب الذكريات؟

يكون الجواب بذاك السّؤال الطّفوليّ في إباحيّة هذه القصّة الّتي هي مجرد مشاعر تداهم عزلتي في هذه الغربة البعيدة والحرب عندما تكون بندقيّة الرّجل أجمل عاطفة في ليل أنوثتهن تلك.

ما زلت أتذكّرُ نسائنا اللّائي يكتبن خواطرهنّ فوق الرّموش، وعلى أرائك المقاهي. هكذا وبخفّة، يأخذ سعال البطالة وقت المدن الباردة. المدن الدافئة، الباردة، المحترقة، والنائمة والمستيقظة.

أتذكر واحدة من بنات قريتنا من اللائي فقدن حبيبها في الحرب، فحزنت كلّ الأهوار لحزنها، وهي اليوم تعيش مجنونة وجزعة ومصابة بذهول غريب وهي تقول لكلّ من تلاقيه من أهل القرية: أريدهُ حتّى ولو كان ميتًا!

أعطوها في صباح ضبابيّ رجلًا مؤثثًا بالأساطير، ويتكلّم عن جنّة قادمة، رجلٌ له ثلاثة نساء مدّثرات بنقاب الخضوع، وأنت رابعتهن.

قالت بذات الجزع: رابعةٌ لرجل غريب، وحبيبي في غربة القبر، لا أريد.

قال لها أبوها: أنت لا تمتلكين الحقّ بالرّفض، غدًا سنزفُّكِ إليه لننسى معكِ ويلات الحرب. في اللّيل، الفحل ليس غزالًا كما كان قيسٌ قبل وقت الصّلاة، هو جاموسة بلا قصب وصيف وسمك، حتى لو كان مدججًا بشخير المنافي، ويسأل عن حاجة للرعية والأرامل. نحنُ قد أعطيناه الولاية عليك، وسأعطيك لهاث الجاموسة وعصًا غليظة وخبزًا مجففًا بالدّبابيس كي يشحذ جسدكِ ويعيد إليه صبا الوردة.

تذكّرت حزنها ودمعتها، وصفنتها وبلاغة أبيها في محاولة إبعاد الحرب عن ملامح ابنته. لكنّها مغرمة فلن تستسلم، ولتنتصر على سلطة الأب والرّجل المزواج، غافلت أهلها وهم على أهبة النّوم مع شخيرهم وحزنهم على حال ابنتهم، وذهبت لتعقد مع الماء صفقة الخلاص من الحياة وتسافر إلى قاعه غريقةً ميّتة.

سمع الماء قصتها قبل أن يوافق على هذا الاقتران، ألبسها ثوبًا بلون القصب وأيقظ كلّ الطّيور والأسماك النّائمة في أعشاشِ الماء، ليحضروا ويكونوا شهودًا على هذا الزّفاف الأسطوريّ.

ومع موسيقى الضوء القادم من نجوم الماء الصافي وأرغن الليل وقيثارات أميرات التلال الأثرية المنتشرة في المدى العميق. خطوة خطوة نزلت إلى الماء، منتشية بغرام العناق مع الموج، وقانعة بهذا العرس الذي سيزفها برحلة الخوف والحزن واليأس إلى قاع الطّين والرّحيل الّذي سيخلّصها من تعاسة أن تعيش ضرّة بين ثلاث نساء. لحظات أغمضت عينيها وغاصت في الماء، تغطّيها سعادة غريبة حتى انقطاع نفسها، وتغفو ممدّدة في قاع الطين البارد.

أعيشُ هذه الذكريات وأنا متهيء للحظة الرحلة الجديدة، تلك اللحظات التاريخية للمكان وهجرتي منه لأعيش المكان الجديد واصلًا لقناعة أنّ ما تركته هناك هو الذّخيرة الروحيّة لما هو هنا، لكن في كلّ الأزمنة، لا عودة لما كان.

شتاء الأهوار أطيب هواءً من ربيع أوروبا، أكتشفُ هذا بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على مغادرتي العمل في مدرسة بَنَتها الدّولة من القصب في إحدى قرى الأهوار النائية، ولم يكلّف بنائها كلّه سوى عشرين دينارًا فقط، هي اليوم تساوي سنتًا واحدًا بعملة الاتحاد الأوروبي، والسّنت هنا لا تستطيع أن تشتري به أيَّ شيء، لأنه أقل قيمة من الفلس العراقيّ الّذي كنّا نشتري به حبّة حلوى واحدة أو حبتين.

قريتنا كان اسمها فانوس المالح، ولا علاقة بين الفانوس والملح، سوى ما فسّره واحد من المعلّمين الثلاثة وهم كلّ كادر المدرسة أن الملح يشع نورًا ببياضه، والفانوس يشع نورًا بناره. لكنّ واحدًا من أهل القرية النائية أخبرني أن فانوس المالح هو اسمُ مَنْ بنى أول صريفة في هذا المكان وجلب جواميسه لترعى هنا، ثمّ التحق به إخوانه وأقاربه فصاروا عشرين بيتًا دخل منهم إلى المدرسة خمسة فقط والخمسة عشر الباقين يجيئون من قرى قريبة.

هنا تقع مدرستنا بخمسة صفوف، وكلّ هذا المعمار الخرافي قد يزحف مترًا أو أكثر ويقترب إلى ضفّة الهور كثيرًا يوم يفاجئنا الشتاء بيوم عاصف ومطير، وكذلك الأمر في عجاجة الصّيف حيث لم نكن موجودين وقتها، وفي واحدة من السّنوات عندما انتهت العطلة الصيفيّة وباشرنا في الدّوام وجدنا سجلّاتها في بيت ناموس المالح كبير أهل القرية، والمدرسة بكامل صفوفها المبنيّة من القصب قد وصلت طائرة على شكل أجزاء متناثرة إلى قرية صويلح الدّشر الّتي تبعد بحوالي ميلين عن قريتنا.

وقتها يخجل المسؤولان أن يرونا وجههم لشعورهم أنهم سمحوا للمدرسة أن تطير ويخشون أن نتحول معها إلى قرية ال دشر، فنطمئنهم أنّ التربية ستجيئ بعد يومين لبنائها من جديد، وأن علينا أن نكون ضيوفهم في مضيف كبيرهم.

يفرحُ أهل القرية أن المدرسة ستبنى من جديد فيكون كرمهم أسطوريًا حتّى يُصاب المعلّمون بالإسهال من دسومة اللّبن الرائب والقيمر الّذي يأتون به صباحًا ومساء. أمّا في الغداء فإنّ السّمك المشويّ هو أغلب أطباق المائدة. ذلك على الرّغم من فقر البعض منهم لكنّهم يتناوبون على ضيافتنا، فأغنى بيت فيهم لديه 20 جاموسة وأفقر بيت لديه أربع جاموسات، ذكر واحد وثلاثة إناث.

في ذلك الشتاء المطعّم بقطرات المطر وهي تمارس مع البرد غرام حاجة الأجساد والأرواح إلى الدفء. دفء يمارس فيه المعدان طقسًا غريبًا من أسرار اللّيل الّذي ما أن ينتهي طقسه حتّى نسمع شخير الرّجال يطلق سمفونيات الفرح الفطري بتلك المتعة التي حللها الله لهم بعد نهار متعب من الرّعي، وذلك المنظر الشهي والإيروتيكي الّذي تلاعب فيه أصابع الأناث حلمات أثداء صدور الجواميس وهي تدرّ الحليب في أواني كبيرة، فتشعر أن تلك الأثداء الهائلة الحجم عندما تكون محمّلة بالحليب تتحوّل من فرط انسجامها مع أصابع النساء إلى كتلة من الجلد الأحمر تهتزّ برعشة واستمناء. هذا ما يبدو في مشاعر الرّاحة والسّكينة المرسومة على وجوه الجواميس، حيث تسكنها شهيّة ومتعة النّظر إلى ذكورهنّ الّذين يفهمون بالغريزة ماذا تريد إناث الجواميس بعد انتهاء عمليّة حلبهن، وأوّل الفجر نراهُنَّ منتشيات من فصل الدفء الليلي ويذهبن بحماس وفرح ليصنعن القيمر واللّبن الرّائب.

أما متعتنا نحن المعلّمين فتنحصر بين أضلاع مثلّث لفيثاغورس يتألّف في رغبة الدّفء عند طقوس عزوبيّتنا، والحنين إلى متعة حقيقية فلا نجدها سوى بقراءة كتاب وسماع المذياع، ونحن نجعل البطّانيات مأوى لتخيّل أنّ واحدة بجسد ناعم أو مكتنز تمارس معنا تلك اليوغا اللّذيذة، الّتي بقيت تمارس وبانتظام حلالًا أو حرامًا منذ عهد آدم وحوّاء وحتّى اليوم.

وكما كان يقولُ واحد من المعلّمين: الذي ينال البلوغ ولم يجد امرأة تلتفّ معه في هذه البطانية، هذا لم يكن خارجًا من ضلعي آدم وحواء، والأمر ينعكس على النّساء أيضًا بنفس اللّحظة والمقاس.

أضحك وأسأله ماذا تعني بلحظة؟

يجيبُ ضاحكًا: هي المشاعر الّتي تفور بها دمائنا وأغلبها إمّا أن تتشاجر فيها مع شخص أو تمارس الغرام مع أنسيّ.

مرات يستمر المطر الشتائي لأيام فتطفوا الصّفوف في مياه آسنة وموحلة وثقيلة، وما نفعله فقط هو أننا نحكم فقط سقف الإدارة والصّريفة التي ننام فيها عندما ننشر عليها النايلون السّميك الذي نستلمه كلّ سنة من المخزن الابتدائي التابع لمديرية التربية، ولا أعرف لماذا لا يعطوننا الكميّة الّتي تكفي لتغطية بقيّة صفوف المدرسة.

في هذه الحالة سنبقى نحن حبيسي هذه الغرفة لأيّام ونكون تحت رحمة من يغامر من أهل القرية ويجيء إلينا حافيًا وهو يسحب خطواته الثّقيلة في الأرض الموحلة ومعه شيئًا من اللبن الرائب والقيمر وخبز الرز الذي يسمونه الطابك.

نحبس في مدرستنا لأسابيع ذلك لأنّ الطّريق بين النّاصرية ــ الجبايش لن يكون سالكًا لسير سيّارات الفولفو الخشبيّة بالرّغم من قوّة محركاتها، لأنّ طوفان مياه الأهوار المُحيطة بالطّريق وبسبب غزارة الأمطار فإنّها تزيحُ أمتارًا كثيرة من إسفلت الطّريق وفي مسافات متباعدة، ومتى انتهى المطر من الهطول وأتت الشّمس بمتعة أخرى من دفء لذيذٍ علينا أن ننتظر لأكثر من أسبوع لحين مجيء حادلات وقلّابات مديريّة الطّرق وإصلاح وتزفيت الطّريق مرّة أخرى.

يوم يسجننا المطر مرغمين في تلك الغرفة الّتي تتسع لثلاثة أسرّة من الطّين والقصب، ولمعلمين ثلاثة، الأول يساريٌّ والثّاني وجوديٌّ يتضايق جدًا من طروحاته، والثالث المتدين الذي ينزعج جدًا أن يكون هناك صوت أغنية في المذياع في وقت صلاته، وكنت أحترم رغبته، فيما الوجوديّ يبقي المذياع عند صدى موسيقى الأغنية ولكنه يخفته قليلًا، فيقول له المتديّن: لقد أتى ذكر الله، إقطع أنفاس موسيقى المعصية.

فيردّ عليه الوجودي: صلاتك متعةٌ لروحك. والموسيقى هي متعة روحي. ومثلما تطير أنت بصلاتك إلى السّماء. أنا أطير إليها بموسيقاي.

يردُّ المتديّن: متعة تتقاطع مع فرائض الدّين والسّماء تصبحُ كفرًا.

من حقّك أن تعتقد هذا، ومن حقي أن أعتقد أنّ متعتي هذه إيمانًا.

ينزعج المعلّم المتديّن، ويمضي إلى صلاته غير عابئ بصوت الموسيقى ومتى ينتهي من صلاته يوجه إليّ سؤاله الّذي يطرحه بين فترة وأخرى: وأنت ما دمت ليس من جماعة الملحد سارتر لماذا لا تصلّي؟

أردّ عليه: من نتاج الصّلاة أنّك ينبغي أن تشعر أنْ تقدّم خيرًا للآخرين، وأنا أقدّمه حتّى عندما لا أصلّي.

ــ إنّكَ تريدُ أن تصبح برأسي فيلسوفًا مثل صاحبك الملحد؟

يردُّ الملحد مبتسما: مولانا عندما يكون الجمال فلسفتي فهو عبادة أيضًا.

يردُّ المتديِّن: تلك الآراء الشّيطانيّة أحكيها للسّمك والجواميس.

ــ واشعر أنّ السّمك والجواميس سيفهمونها جيّدًا.

يقول المتديّن ممتعضًا: يبدو أنّكما تركبان سفينة واحدة؟

يجيبه الوجودي ضاحكًا: بل شختورة واحدة.

ــ نعم شختورة، لأنّ السفينة لجماعة نوح الّذين هم من الصّالحين.

قلت: أنا أدرِّس الجغرافية لتلاميذ القرية وهم فقط من تلامذة الصّف الخامس، وأظن أن الأطلس الذي وزّعناه أول العام أصبح بالنسبة لهم مثل سفينة نوح تذهب بهم إلى كلّ مدن الدّنيا، الأطلس مثل السّينما بالنسبة لهم ومتعته كبيرة، وذلك عمل إنسانيّ يحبّه الله.

قال المتدين: الله يحب مصليه ومن يؤدي الفرائض.

قلتُ: نختلف ولن نتفق؟

قال: إذًا دعوني أكمل صلاتي.

تحت قطرات المطر في شتاء لذيذ البرد، لكنّ مطره مشكلة كبيرة بالنسبة لنا وللمعدان من أهالي القرى، وبالرّغم مني أحببته بسبب عبارة للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في روايته الممتعة داغستان بلدي تقول: ليس هناك موسيقى أجمل من صوت المطر.

لكنّ المطر هنا بالرّغم من أنه يرفع من مناسيب مياه الأهوار ويقلّل من ملوحتها، إلّا أنّه يعطّل الحياة هنا ويغرق بيوتهم، وحدها الجواميس تصمد لأنّها لا تشعر بما يسبّبه المطر في البيوت والأثاث البسيطة عندما يعوم المعدان سابحين في مياه الأمطار بالرغم من البرد. يتوقف المطر والقدور والصحون وأواني جمع الحليب في المياه ودفعتها الريح إلى أماكن أبعد، والغريب أنّ كلّ واحد من أهل القرية يعرف تمامًا صحونه وقدوره ويميّزها عن أواني جيرانه، ومرّات تكون هناك أوان تأتي طافية من القرى القريبة لقريتنا.

وحدها السوابيط والتي يثبتون لها أعمدة عالية من القصب هي من تحمي أهل القرية من أن يطوفوا هم أيضًا في مياه الأهوار، فيما تنتعش الجواميس بفيض المطر وتشعر أن قيلولتها في المياه التي ستصبح عذبة ستكون أكثر متعة، ومتى جاعت سيكون القصب الأخضر إلى جانبها، تأكل وترتوي وأهل القرية ينشغلون بجمع أوانيهم الطّافية في مياه الهور.