25-يوليو-2017

اختار البنهاوي بيع الفشار على البطالة في انتظار تحقيق حلمه الإذاعي (جو ريدل/ Getty)

عمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين، ربما تمرّ بجواره ولا تشعر به، وربما تشتري منه الفشار ولا تعرف أنه حاصل على مؤهل عالٍ ويملك صوتًا مميزًا. إنه محمد البنهاوي، واحد من المصريين المعذّبين، الواقفين في طابور طويل للحصول على وظيفة، أي وظيفة.

لا شيء يوقف حلم محمد البنهاوي بولوج عالم الإذاعة وهو المتحصل على مؤهل عالٍ وصاحب الصوت المميز الذي اختار بيع الفشار على البطالة

محمد البنهاوي وبعد أن وجد طابور الوظيفة لا ينتهي، قرر أن يوظّف نفسه و"يأكل من ذراعه" ويصرف على أسرته من عرقه. طموح الشاب العشريني دفعه للتقدم لاختبارات الإذاعة المصرية، أملًا في تحقيق حلمه في أن يصبح مذيعًا. صوته وثقافته لفتا انتباه كثير من الإعلاميين، كما يقول في حديثه لـ"ألترا صوت"، لكن هذا لم يجعل منه مذيعًا لامعًا كما توقعوا، بل أصبح بائع فشار يبحث عن رزقه يومًا بيوم مثل صيادي السمك.

اقرأ/ي أيضًا: "عم محمد الصُرماتي".. حكايات إسكافي السيدة زينب الأخير

لم يعد يطارد محمد البنهاوي سوى كابوس شرطة المرافق، التي تلاحقه من وقت لآخر. ومنذ عام 2012 وحتى الآن، لا يزال يدفع عربة الفشار يوميًا إلى مكان اختاره بعناية إلى جانب بائع صحف في منطقة وسط البلد بالعاصمة المصرية القاهرة، حتى يتمكن من قراءة الجرائد والمجلات، وفي بعض الأحيان يتخيّل محمد البنهاوي نفسه داخل أستوديو الإذاعة ويسمع صوته من خلال الميكروفون الذي يعشقه.

كنتُ أمام بائع الصحف أبحث عن جريدة اليوم التالي، وكان محمد البنهاوي لا يتوقف عن قراءة الجريدة بصوت مسموع متكئًا على عربته. اقتربت منه ولم أتخيل أن الصوت الذي سمعته صادر من هذا المكان، اعتقدت أن مصدر الصوت جهاز راديو يخفيه داخل عربة الفشار أو حتى خلف الجريدة التي يمسك بها، لأكتشف عندما أصبحت بجانبه أن بائع الفشار هو صاحب ذلك الصوت الإذاعي المميز.

يخرج محمد البنهاوي يوميًا ليبحث عن رزق أسرة مكونة من 5 فتيات في مراحل تعليمية مختلفة. والده كان مديرًا لإدارة التعليم الإعدادي بمنطقة شمال القاهرة التعليمية، ولطالما حلم لابنه أن يصبح مدرسًا مثله أو موظفًا محترمًا يستطيع "فتح بيت". اجتهد الابن في دراسته، متخيلًا أنها الطريق لتحقيق حلم والده، وحصل على بكالوريوس الآداب قسم الفلسفة عام 2010 بتقدير جيد، لكن والده لم ينتظر تحقيق حلمه ورحل تاركًا له الأسرة الكبيرة ليصبح هو عائلها الوحيد.

اختار محمد البنهاوي خلال عمله ببيع الفشار أن يقرأ الجرائد بصوت إذاعي مميز لافتًا انتباه الكثيرين

عامان كاملان استغرقتهما رحلة محمد البنهاوي للبحث عن وظيفة أحلامه، فكان كلما تقدّم إلى أحد اختبارات الإذاعة لا يتوقف عن تخيل نفسه أمام الميكروفون يلقي الكلمات التي ستجد مستمعيها في المقاهي والسيارات، يحفظ جميع الوجوه التي وقف أمامها في هذه اللجان ولا ينسى إعجاب واحد منهم وتشجيعه له على استكمال مشواره، رغم فشله في اجتياز الاختبارات عامي 2011 و2012.

اقرأ/ي أيضًا: من الزمن والفقر وهموم الناس.. "العرضحالجية" اشتكوا

بعدها لم يعد يحتمل البقاء بدون عمل ولم تعد أسرته قادرة على تحمل المزيد من ثمن هذا الحلم، فقرر أن ينهي حلم ميكروفون الإذاعة ليبدأ رحلة جديدة للبحث عن الرزق واستكمال الحياة: عربة فشار لم تكلفه سوى 2000 جنيه. وهكذا، أصبح صاحب "الصوت الإذاعي الساحر" بائع فشار. اختار له مكانًا يستطيع من خلاله مشاهدة هذا المبنى الضخم الذي يضم حلمه بداخله، وقرر ممارسة هوايته الأثيرة في الشارع. يقف بجوار بائع الصحف، وينتقي صحيفة، يقرأها، ولكن على طريقته.

تستطيع أن تضبط محمد البنهاوي ليلًا بالقرب من عربة الفشار وهو يقرأ بصوت عال لا يحتاج إلى ميكروفون، لكنه يحتاج إلى هذه الجنيهات القليلة التي بالكاد تكفي لإطعام أسرته. ورغم ظروفه، لا يشعر البنهاوي بالندم أو الظلم، ليس ساخطًا على تلك الأوضاع التي جعلت من بعض التافهين نجومًا وجعلت منه شخصًا تطارده شرطة المرافق. لكنه لا يمنع نفسه من الإحساس بقسوة الحياة التي تجبره على تحمل إهانات الآخرين، لأنه في النهاية يعيش ولا أحد يعرف عنه سوى أنه "بيّاع فشار". "لا يمكنك أن تفرض معرفة معمّقة بك على كل من يقابلك صدفة في الشارع"، يقول الشاب مفسرًا.

محمد البنهاوي لم يفقد الأمل بعد، وكلما شاهد زملاءه أو جاؤوا إليه ليشتروا منه الفشار، لا يتوقف عن إطلاق كلمات الرضا عن حاله. جميع زملاء دفعته لم يحصلوا على عمل بناءً على دراستهم الجامعية، بل دفعتهم ظروف الحياة إلى القبول بوظائف وأعمال بعيدة للغاية عما درسوه وما توقعوه، وهو نفسه لم يحاول تغيير مكانه بجوار بائع الصحف لأنه "يقف بالقرب من حلمه" حتى ولو كان بعيدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أم خليل القصّابة.. تتحدث عن "مهن القسوة"

الاقتصاد في حلب.. مهن الحرب أم مهن القسوة؟