20-ديسمبر-2016

لؤي كيالي/ سوريا

ميديا هي مديرة المدرسة الابتدائيّة في قريتنا، المعلّمة القادمة من عفرين، الآنسة الكرديّة ذات الشعر البنيّ، كانتْ طويلةً جدًا وكنتُ أُفتَنُ بالطويلات، فما بالكَ بميديا تلكَ التي تكبرني بسنوات؟ مراهقٌ مثلي في الصف الثاني الثانويّ يقعُ في حبّ فتيات الأفلام الصينيات، سيغرقُ في بحرِ هذه الجميلة دون شكّ، ما أسهلَ أنْ نقعَ في الحبّ! ما أصعبَ أنْ نخرجَ منه!

الحبّ في القريّة يجبُ أنْ يكونَ سِرًّا مُعلَنًا، إذ يُطلَقُ على العاشق لقب "جاهل"، ويُسمّى الحبّ "جهَلةْ"، حجمُ الإساءة كبير جدًا، فأنْ يكونَ الحبّ جهلاً يراوِدهُ الصغير والكبير سرًّا، ليتعلّموا فنّ الاستمرارِ في الحياة، لهوَ تناقض غريب. ما أغرب حالات الحبّ!

يومَ رحلنا من القرية في آخر العام 1998، كنتُ أراقبُ الطلاب يمرحونَ كباسم ورباب، بكيتُ لأنّني فقدتُهم أو لأنّهم فقدوني، لا فرق فالفَقدُ حدثَ فجأةً وانتهى الأمر، منذ ذلكَ الوقت وأنا أكتبُ عن نفسي لأنّني أعرفها قليلًا، لأنّ لدي فرصة بأنْ أعرفها أكثر، أمدحها وأهجوها، أعرّيها وأُلبِسها ما يحلو لي، لأنّها ملكي، أكتبُ بالـ"أنا" ولا أنا لديّ سوى الذكريات، أحرثُها وأبذرها وأنتظرُ محصولي كفلاحيْ القريّة الذينَ كانوا يعلّقونَ كلّ أحلامهم على حبلِ المواسم، الحبل الذي قد ينقطع في آخرِ لحظةٍ، حينَ تُمطِرُ حالولًا (بَرَدًا) يدقّ رؤوسَ السنابلِ فتجهضُ حملَها قبلَ الولادة بساعات، وهيَ ذي مواسمي، تقتلها "مطرةُ الحالول" في اللحظةِ الأخيرة فأندبُ وقتيَ الذي يهربُ من ثقوبِ النملِ حولَ بيتنا، كانَ ينقلُ حصّتهُ إلى العمْق. وحدَهُ النملُ كانَ أقوى منّي في تلكَ المواسمِ البائرة، ووحدهُ الوقتُ كانَ هباءً، وقمحًا منثورًا. ما أوجعَ الوقت حين يمضي!

تعطيكَ القريةُ قناعًا مفصّل الملامح، عليكَ أنْ ترتديهِ رغمًا عنك، ألِّا تُخرج وجهكَ منه، وأية محاولة لفعل ذلك ستتبدّل الملامح، وستلفظُكَ القاعدة، القاعدة التي لم يبحثْ أحدٌ بمدى صدقِها، مجتهد.. خلوق.. مثابر، سيكون الحبّ بهذا العمر وهذه الطريقة خطيئة، ولا مجال لهذه الخطيئة سوى الخطّ العربي والشعر، اكتبْ وارسمْ لتنتصرَ على الأقنعة، إنّها كثيرة، ستكتشفُ ذلكَ متأخرًا، وكما تقول العجائز: "العليج عند الغارة ما ينفع". أغيرُ على دفتر ابنة خالتي الصغيرة، أخطّط بالديوانيّ قربَ وظيفتها: "لو تعرف على قلبي غلاك تعذر حنيني". تراها المعلمة ولشدة جمالِ رسمها تخبرُ المديرة، يتحدثنَ عن هذا الإبداع ويسألنَ الصغيرة عن صاحبه، فتخبرهنَّ أنّه بكفّ شابٍّ في السابعة عشر من عمره، وتخبرني عن كمّ المديح وكيفِه، أنا الذي أحتاج أن أسمع مديحًا ولو بالتواتر، أيّ مديح، فالمديح في هذه الأثناء بمثابة ذيلٍ سيصنع توازنًا مع الأجنحة لأطير، أريدُ أنْ أطيرَ كالخطّاف، أنْ أرى الحياة من السماءِ، أنْ أرى العالم كلّه دون أنْ يراني. ما أوضح الرؤية! ما أبعدَ الطيران!

رمى خالي -الذي يهتمّ بالآنسات أكثر منّي- حجرًا على الطائر الوليد الذي يحاول، حينَ قال لي: استغربتْ ميديا من أفعالكَ وقالتْ آسِفةً: "علي شاب مذهب، شو صايرله حتى عم يعمل هيك". أصابَ حجرُ الإحباطِ جناحًا فيّ فصرتُ كسيرًا، إلّا أنّني تغاضيت عن ذلك متسائلًا: هل قالتْ (علي)، ولفظتْ حروفه الثلاثة؟ هل تعرفني؟ رأتني إذن وأنا أحاول فوقَ شقائقِ النعمان و"الصفّيرة" في "شكارة الجدّو" مثل فتيات الباليه؟ رأتني وأنا أمشي على سبّابتي والوسطى عندَ "مكلاب الطرنبيل" فرحًا بشيءٍ غامضٍ، رأتني إذن؟

أتركُ خالي وأركضُ كسيرًا إلى قلمِ الخطّ العربي، الورقة بيضاء والمساحة ضيقة كاتساعِ هذا المدى أمامَ طائرٍ كسير، أرسم ميديا دونَ قواعد، وأمرّ سريعًا كالفرح. ما أسرعَ الفرح! ما أبطأَ الدمعات!

سأجتاز البكالوريا، وأتوقف، سأعملُ مدرسًا لمادة اللغة العربية في القرية المجاورة، سيصبح اسمي "الأستاذ علي"، سأستعير الشعرَ والمسرح من المركز الثقافي، فالفقراء لا يملكون ثمنَ القراءة، سأنسى ميديا وأتذكّر الحبّ، سأخلع القناع وأكسره وأرميه، سأُسقِط القريةَ من تلّة الشعبان وأكتب: في قريتي/ كلّ القلوبِ تشابهتْ/ حجريّة سوداءَ ليستْ كاسمها/ في قريتي/ غطّت غيومُ اليأسِ أحلامَ الصغارِ فأمطرتْ/ حزنًا على حلمِ الكبار وحلْمها.

كيف سأشرحُ لميديا أن الحبّ أكبر من كلّ هذا الذي حدث ويحدث؟ كيفَ سأوصّفُ شعوري المكثّف برغبة الطيران؟ 

أحاولِ آخرَ محاولة، أكتبُ قصيدة على تفعيلة الرمل التي عذّبتني، أرسلها إلى صفحة "دروب الإبداع" في "جريدة البعث"، لم أكنْ أهتمّ إلّا بإحياءِ الروحِ التي يخنقها البعث، سأهدي ميديا نسخة من الجريدة لأثبتَ أنّني كنتُ سأطير لو أنّها كانتْ فضاءً، لو أنّها سمعتْ صلاتي، لو... وأحمل نفسي متجهًا بيروت. 

"بيتها كانَ بعيدًا/خلفَ قضبانِ الدموعِ".

اقرأ/ي أيضًا:

نصف محترق.. نصف وحيد

حين يرتاح الرجل الضخم