02-يناير-2016

وقفة احتجاجية في إسطنبول مناهضة للسلطة المصرية وترفع شعارات رابعة (Getty)

بعد استيلاء الجيش على السلطة في مصر، وإطاحته بكل خصومه، والقمع الذي طال فئات واسعة من الشعب، لجأ الكثير من الشباب للهجرة، هربًا من القمع ورغبة في بدء حياة جديدة أكثر أمنًا. في هذا المنفى لا يوجد أكثر من الحكايات، فرحلة الوصول إلى هنا لم تكُن سهلةً على كثيرين، ورحلة البحث عن العمل مع الجهل باللغة التركية كانت أصعب، والشوق إلى الوطن والأهل، وحُلم العودة، لا يفارق كثيرين.

الدراسة مشكلة تواجه الشريحة الأكبر من الشباب المصري بتركيا، نتيجة صعوبة الحصول على عمل، أو الحصول على فرصة تتناسب مع أوقات الدراسة

ولكل منهم حكايته الخاصة، نحاول هنا التعرف عليها.

البحر والبحر

في أعلى طابق بأحد مولات إسطنبول الكبيرة، دعاني إلى الاستمتاع بمشروبه المثلج المفضل، بعد أن منّ الله عليه بالشفاء من إدمان (جيلاتي عزة) الذي عمل بأحد فروعه بالإسكندرية، طيلة سنة أو يزيد.

بخيت (اسم عائلته)، شاب سكندري، جمعتني الغُربة وأنشطتها به، وهو الذي ودّع عروس البحر المتوسط بلا عودة قبل عام ونصف، إلى حلم حياته، إسطنبول، دون أن يعلم أين سيودي به حلمه هذا، بعد أن أغلق "فاترينة" العطور التي عمل جاهدًا على صناعة سمعةٍ جيدة لها، وسط زبائن الحي، ورواد المسجد المجاور.

وصل بخيت إسطنبول في فصل الشتاء، لتبدأ فصول قصته، التي أعتبرها إحدى القصص الملهمة بالنسبة لي، ما دفعني أن أبدأ بها حكايات المنفى التي ستتناول، قصص الشباب المصري، الذي ترك حياته وأهله، ليبدأ حياةً جديدة، بعيدة عن رحى القتل والاعتقال وفقر العيش وضنك الحياة في مصر.

طالب بكلية الإعلام، عمل إمامًا لمسجد لتدينه والتزامه، ثم بائعًا بمحل للمثلجات، ثم بائع عطور، ثم عاملًا بإحدى الورش بإسطنبول، ثم في النهاية صحفيًا بإحدى القنوات الفضائية هنا مرة أخرى.

قصة بخيت، من الطائرة إلى القناة، قصة ملهمة بعيدًا عن قصص التنمية البشرية المقيتة، ففور مقابلته أحد أصدقائه القدامى، دعاه للنوم معه في سكنه، ما هو سكنه إذن؟ كنبة على البحر، يحتمي بها اتقاءً للبرد، لكن مع الصبر قليلًا، أهداه صاحب الورشة التي عمل بها، غرفة مترين بها سرير واحد بلا حمام، يسكنها ثلاثة أفراد، كان يحب تلك الغرفة كثيرًا، وأصبح يشتاقُ لها، أخبرني بذلك ذات مرة.

صاحب الورشة، أهداهم تلك الغرفة، لكي لا يدفع لهم راتبًا مقابل عملهم، يكفيه دفع ثمن وجبة الغداء، قبلها كان ينام بمكان العمل جالسًا، فكانت غرفة "الأسطا" هديةٌ بكل تأكيد، يتذكّر أصدقاءه السوريين، الذين كانو يتكبّدون عناء ترجمة الأوامر من الأتراك إلى بخيت، وترجمة طلبات بخيت من الأتراك، لا ينساهم حتى وإن بعُد عنهم شهورًا أو أعوامًا.

كان مصدر فرح بخيت في تلك الفترة، حين لا يجد ازدحامًا على الحمام العمومي الذي يرتاده ويبعد عنه ثلاثمائة متر، وأصوات النوارس، وصوت بواخر النقل في الميناء، والهواء النقي يوم العُطلة، الذي يذهب للعمل فيه أيضًا، لكن في البحر.

لعب القدر دوره مع بخيت، فكان بينه وبين العودة لعمله الصحفي، أو العمل في مزرعةٍ لتربية المواشي، مجرد ساعات.

يحكي أنه بعد مرور ثلاثة أشهر عليه في إسطنبول، اتفق معه أحد الرجال على الذهاب مع مجموعة من العاملين إلى مزرعة لتربية المواشي، لكنه في نفس الصباح كان يفترض به أن يذهب لإجراء مقابلة بإحدى القنوات، ليضيع عليه موعد تحرك العمال، وليلتحق متدربًا بهذه القناة، قدره أن هناك وظيفةٌ شاغرة، ولينتقل من الغرفة الصغيرة، إلى "بانسيون" بوسط إسطنبول، فرح كثيرًا، فهناك حمام خاص داخل السكن.

من المنفى إلى المنفى

حسام، طالب بالثانوية العامة، حدثت له مشكلةً أمنية بداية العام، فكان من الضروري الاختباء والتخفي ليتمكن من حضور امتحانات الثانوية، إلا أن أجهزة الأمن طاردته حتى في مدرسته والإدارة التعليمية التابع لها، فكان الاقتراح من المحاميين، وبعض "الإخوة" أن يغادر إلى السودان ثم يقرر هناك، إلى أين تكون وجهته وكيف تكون بدايته الجديدة، التي بدأها من المنفى.

إلى السودان كانت رحلته سهلة، في السودان استقبله صديق من منطقته، ليبيت ليلته الأولى في بيت صديق آخر، وهناك بدأ في البحث عن السفر إلى تركيا، ولحسن حظه لم يكن جاوز العشرين، فسُمح له بدخول تركيا بتأشيرة إلكترونية.

في تركيا، تعرّض لمشكلة في إقامته، نتج عنها إلقاء موظف "الأمنيات" الأوراق في وجهه، وبعد محاولات حثيثة استمرت لأربعة أشهر تمكّن أخيرًا من التقديم على الإقامة مرة أخرى، لكن هناك مشكلة أخرى في الأوراق، فتصريح الإقامة يتطلب حسابًا بنكيًا يحتوي على ستة آلاف دولار أمريكي، وعقد إيجار شقة باسم طالب الإقامة.

نصحه بعض الأصدقاء بالتوجه لمكتب أحد "الإخوة" ربما يجد لديه حلًا، لكن الأخ هذا، أخذ يسأله عن أسرته، وعدد إخوته، ولماذا أتى هنا، وماذا يريد أن يفعل في هذا البلد الغريب، ثم لم يساعده في النهاية.

نتيجة الضغوط المادية، التحق للعمل بإحدى القنوات الفضائية لمدة شهرين، كانت القناة على وشك الإغلاق، ثم أغلقت في النهاية، دون أن يحصل حسام على أي أجر نظير عمله في الفترة السابقة.

وبعد شهر من تقديم أوراقه للإدارة التعليمية في إسطنبول، أخبرته الإدارة أنه تم قبوله بإحدى المدارسة التركية، وهنا أتيحت له فرصة التعامل مع المجتمع التركي على حقيقته.

"فيه ناس بتكرهنا وفيه ناس كويسة بتساعدنا"، يقول حسام.

والآن يدرس حسام نظام "يوس" للحصول على فرصة جامعية، ويبحث عن عملٍ مسائي يتناسب مع ظروف دراسته، ليقوم بالتخفيف على أسرته بعض عناء مصاريفه في الغربة.

وعن العودة إلى مصر، يقول حسام أنه وإن كان يريد فلن يستطيع، ولكن أي وطن هذا الذي يعود إليه؟ الوطن الذي سجن أصدقاءه وقتلهم ومنعهم من واجب عزائهم؟ فقط يريد رؤية أهله وأصدقائه.

وبالنسبة له، فإن تركيا ليست الأفضل، لكنها على الأقل أفضل من مصر السيسي، وربما يكون "الإخوة" هنا ليسوا كما توقّع، لكن على أية حال، فبإمكانه الخروج والتنزه، عكس ما كان ينتظره في مصر من اعتقال.

جدة حسام توفّيت بعد شهرين من سفره، وبالتالي لم يتسنَّ له توديعها أو التعزية بها، فعودته إلى مصر شبه مستحيلة.

شباب الإخوان والاهتمام

يوسف، شاب ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، دفعته القبضة الأمنية في مصر، إلى الخروج من البلاد، بدوره، قسّم الشباب المهاجر بعد الانقلاب لشريحتين، الأولى، وهم الذين دفعتهم الظروف الأمنية إلى الخروج، هربًا من الاعتقال وهي الفئة الأغلب، أما الآخرين، الذين دفعهم البحث عن فرصةٍ أفضل للحياة خارج مصر دون أن تضطرهم الظروف الأمنية إلى السفر قسرًا.

الانفتاح على المجتمع التركي، مشكلة أخرى واجهت الشباب المصري المهاجر، وهو الذي خرج من مجتمع شرقي له عادات تتعارض مع العادات الأوروبية للأتراك

ويُفضل يوسف أن يتحدث عن الفئة الأولى، التي كانت متوقعة، أنه فور وصولها للمطار سيجد من يستقبله استقبال الأبطال، موفرين له كل سبل الرعاية، من تعليم ومعيشة وفرص عمل ودخل، فكانت الصدمة في مواجهة الواقع المرير، وأنه هو المسؤول الأوحد عن نفسه ومستقبله.

مشكلة التعليم، وهي التي تواجه الشريحة الأكبر من الشباب هنا، إضافةً إلى إيجاد عمل ومصدر دخل، وهي المحاولات التي يبوء أغلبها بالفشل، نتيجة صعوبة الحصول على عمل، أو الحصول على فرصة تتناسب مع أوقات الدراسة، وهو ما يضطر الكثيرين إلى إهمال التعليم للحصول على لقمة العيش.

الانفتاح على المجتمع التركي، مشكلة أخرى واجهت الشباب هنا، وهو الذي خرج من مجتمع شرقي له عادات وتقاليد تتنافى مع العادات الأوروبية للأتراك، ناهيك عن أولئك الخارجين من المجتمع المغلق للإخوان خصوصًا والإسلاميين عمومًا، ومن يحافظ على ما تربى عليه من عادات نسبة ضعيفة للغاية، نتيجة عدم الاهتمام بهؤلاء الشباب، وانشغال القيادات بالصراعات الشخصية داخل الجماعة.

وبذكر الاهتمام، فإنه بحسب يوسف، فإن من يحصل على رعاية "الإخوة" في تركيا، هم المرضي عنهم من القيادة فقط، أما المغردون بغير كلام القيادة فلا رعاية لهم أو اهتمام، رغم أن هناك مخصصات مالية، وصفها يوسف، بالكثيرة، لكن يُصرف منها القليل فقط على رعاية الشباب.

وبدون الخوض في تفاصيل، لا يريد يوسف ذكرها، فإن الشباب نتيجة هذا التجاهل ينقسمون إلى طريقين، أحدهم يتجه إلى منطقة تقسيم، سيئة السمعة، والآخر يتجه إلى سوريا حيث الجهاد المنشود.

أحد الشباب وصل به الحال إلى عدم إيجاده ثمن وجبته اليومية، نتيجة إهمال "الإخوة" له ولحاله، رغم أنه كان أحد الشباب الفاعلين في الحراك الثوري في مصر.

حلم العودة، جملة لا يعترف بها يوسف، فمصر لم تعُد مصر التي عاش وتربى فيها، "ولو مرسي رجع الصبح للحكم مش هرجع مصر تاني"، ينهي يوسف حديثه.

اقرأ/ي أيضًا: 

مصر..السلطة تواصل مصادرة المجال العام

لماذا نختلف حول سمير القنطار؟