17-سبتمبر-2018

نجاح البقاعي/ سوريا

في برنامج "يا حرية"، الذي تُعدّ حواراته وتديرها الإعلامية الفلسطينية سعاد قطناني، مكتفيةً بدور الجندي المجهول الذي يَحرص على أن ينقل لنا الوجع الإنساني عاريًا بلا أقنعة، كما انطبع في نفوس أصحابه لأول مرة؛ تضعنا حكايات الألم السوري وجهًا لوجه أمام حقيقية الكائن البشري الذي ننتمي إليه. الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن الطبيعية الأخلاقية التي يستبطنها كل واحد منا في داخله، فهل يعقل أن يكون الإنسان فينا ليس أكثر من ذئب في وجه أخيه الإنسان كما رَآه هوبز، وليس أكثر من كائن عدواني وشرير كما رآه فرويد، تضرب جذوره العنفية عميقًا في الحيوان الذي جاء منه، بل يتفوق عليه لناحية أن عنفه ورغبته في القتل لا تنبع من حاجة بيولوجية يمكن إشباعها، بل تكمن بالرغبة في السيطرة والهيمنة على الآخر إلى الدرجة التي لا يتوانى فيها عن إبادته ونفيه من الوجود. أيعقل أن الصورة النمطية التي حاولت المدرسة الرواقية ومن بعدها الأديان السماوية تعميمها عن خيرية الكائن البشري، وحبه للاجتماع الإنساني مجرد وهم.

هل الصورة النمطية التي تعممها الأديان السماوية  عن خيرية الكائن البشري، وحبه للاجتماع الإنساني مجرد وهم؟

في حكايات أحمد حمادة ومريم خليف وعمر الشغري ومنار جابر، السوريين والسوريات الذين أخطأتهم يد الموت الأسدية بصدفة، ثمة إجماع على تحويل مشهدية العنف الذي يُستقبل فيه الداخل إلى زنازين الأسد إلى حفلة، تشبه إلى حد كبير طقوس قتل طوطم - حيوان - الجماعة المقدس، من حيث تناوب الجميع على المشاركة في قتله، بكل ما يترافق ذلك القتل من شعور بالنشوة المتأتية من نجاح كل فرد من أفراد الجماعة بتصريف العنف الذي يعتمر في داخل كل منهم إلى خارج حدود الجماعة التي ينتمون إليها. ومع ذلك تظل طقوس قتل الطوطم السابقة غير كافية لفهم الأسباب التي تكمن وراء ممارسة الجلادين لتقنية التعذيب على ضحاياهم، من حيث كونها طقوس قتل لا تعذيب، الأمر الذي يدفعنا لمقاربة الموضوع من زاوية المقدس أو المدنس الذي اتخذته السلطات الدينية كمبدأ لتبريرها فلسفة التعذيب اتجاه ضحايا، من حيث أن التعذيب لا يستهدف جسد الضحية بل الروح الشيطانية التي حلت فِيهَا، وهو المبدأ الذي سمح بتقنية المحرقة، لتخلص من الروح الشيطانية إلى الأبد.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد واعظًا.. جناية السلطة ضد النص والتفسير!

إلا أن أفضل مقاربة لفهم فلسفة التعذيب الأسدية، هي المقاربة التي قدمها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة" لفهم الخلفية الفلسفية التي تلطت وراءها عمليات تعذيب المتهمين الجنائيين أو المتمردين على سلطة الملك، طيلة العصور الوسطى والعصور التي تلتها، والتي لم ينجح عصر التنوير بوضع حدٍّ لها إلا عبر عملية تدرج طويلة امتدت من عام 1760 وحتى 1840.

في محاولة فهم فوكو لفلسفة التعذيب في العصور الوسطى، استعان الفيلسوف بمفهوم حق الملوك المقدس بالسلطة المطلقة على رعاياهم، ومعاقبة كل شخص تسول له نفسه بالاعتداء على ذلك الحق عقابًا لم يقتصر على الأشخاص الذي يحاولون التمرد على سلطة الملك، بل وحتى على الأشخاص الذين يقومون بارتكاب أعمال جرمية ضد رعاياه، الأمر الذي عُدّ بموجبه مرتكب جريمة قتل رجل بحق زوجته أو أبيه أو أحد من رعية الملك بمثابة اعتداء مباشر على هيبة الملك وسلطته. مما حدا بالملك بأن يفكر بعقوبة رادعة بحق كل من تسول له نفسه بهذا الانتهاك، فلم يجد أفضل من تقنية التعذيب التي رأى أن تكون علنية وذات طقوس مُتْعَوية لجمهور المتفرجين من رعيته. هكذا ومن أجل يكون الألم فعًّالًا وقادرًا على إعادة التوازن إلى سلطة الملك المنتهكة، إي إعادة تجديد فروض الطاعة على رعاياه، فقد عمد إلى تقنين الألم حتى يصل إلى درجة التعذيب، من خلال جعله محدّد العتبة أي مؤلمًا من جهة، وقابلًا للتكرار من جهة أخرى، ويسمح بإمساك حياة المعاقب من خلال الوجع ثالثًا، أي بجعله ألمًا يتمنّى صاحبه الموت دون أن يحصل عليه.

إن مقاربة منطقية لمفهوم السلطة، كما يعيشها أو يمارسها الأسد، لا تخرج في جوهرها عن سلطة الحق المقدس التي كان يعيشها ملوك القرون الوسطى، تلك السلطة التي كانت تزاوج بدون أي حرج بين الذات الملكية والذات الإلهية، وهو الأمر التفجعي ذاته الذي تقودنا إليه دلالة النكتة السورية الفجة التي كانت شائعة في دولة الأسد لعقود، القائلة بأن كل الجرائم التي قد يرتكبها السوري في دولة الأسد قابلة للغفران ما دام صاحبها يمتلك القدرة المالية للتكفير عنها بالرشوة، إلا جريمة سب الذات الرئاسية أو التمرد عليها، الأمر الذي يشير، ولو على نحو مبطن، عن ذلك الاندماج الفذ بين الذات الرئاسية في دولة الأسد والذات الإلهية.

لا يختلف مفهوم السلطة، كما يعشيها أو يمارسها الأسد، عن سلطة الحق المقدس التي كان يعيشها ملوك القرون الوسطى

إن تضخم الذات الرئاسية على حساب الذات الإلهية، بل والحلول محلها وانتهاك مكانتها في وعي كل سوري، كإله للرعاية والرحمة، جعل السوريين أمام ذات رئاسية على شكل لوثيان أسطوري، لا تبالي بشيء إلا بمصالحها الأنانية الضيقة، ومصالح العصبة الداعمة لها، الأمر الذي قاد إلى تفجر الثورة السورية، التي توجهت أول ما توجهت إلى نزع القداسة عن تلك الذات، ورفض تقديم فروض الطاعة لسلطتها المؤسسة على الخوف والسجون. في الرد على انتهاك سلطة الأسد المقدسة من قبل المحتجين السلميين، كان على السلطة أن ترد بالملعب الذي خبرته جيدًا، ألا وهو المعتقل، المكان المفضل لديها، لإعادة تأكيد سلطتها على الخارجين عن طاعتها. لذا فإن كل سوط بالكبل الكهربائي كان ينزل على جسد المحتجين، كان دعوة صريحة لهم بالعودة إلى حضن الطاعة الأسدية عبر الألم، وهي الدعوة التي لم تكن تستهدف المعتقلين وحسب، بل كل الجسد الاجتماعي للأمة السورية.

اقرأ/ي أيضًا: ترميم تماثيل الأسد.. استثمار عبثي في رموز السلطة

في هذا السياق، إن نشر صور الضحايا في معتقلات النظام الأسد، التي تم تسريبها من قبل المصور قيصر، لم تكن لتزعج السلطات السورية بشيء، بل إنها قدمت لها خدمة جليلة في جعلها لمشهدية العنف الذي كان يجري داخل أسوار المعتقلات السورية يفيض إلى خارجه، ليصيب كل سوري في مقتل، ويدله على المصير الذي ينتظره إذا ما فكر بالتمرد على سلطة آل الأسد وأنصارها، وهو مصير أسود يتجلى في تحول السلطة ومن ينوب عنها في أفرعها الأمنية إلى مقرري مصائر لا بشر، لديهم كل القسوة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مي سكاف والعزاء الممنوع

سيدة الياسمين أم سيدة الجحيم؟