10-يوليو-2017

علاء وجمال مبارك يتابعان مباراة مصر وتونس 2017

في عام 1939، استقر عدد من أفراد الطبقة الأرستقراطية المصرية على تأسيس نادٍ للرماية خاص بهم، فكان نادي الصيد الملكي، الذي اختاروا له مقرًا مبدئيًا في شارع قصر النيل بوسط القاهرة، قبل أن يتوجهوا إلى الملك فاروق بطلب حيازة قطعة أرض في الجيزة تابعة لمصلحة الأوقاف، لتبدأ فصول إحدى المعارك المجهولة بين أغنياء وفقراء مصر. كانت مساحة الأرض المطلوبة 55 فدانًا وقيمتها 22 ألف جنيه، وهو مبلغ كبير بحسابات ذاك الوقت، وفي مجلس النواب، دارت مناقشة عصيبة لاعتماد المبلغ من ميزانية الدولة ودفعه لمصلحة الأوقاف، ورأى كثيرون أن الحكومة المصرية تجامل بعض الأغنياء على حساب عموم الناس، ولكن في النهاية تم تمرير الأمر ومالت كفة مجلس النواب لصالح الملك والأغنياء، بصورة مشابهة لما يحدث في البرلمان المصري في أيامنا الحالية.

استخدم حيدر باشا السجون لإخفاء اللاعبين النجوم أثناء موسم الانتقالات لإبقائهم بعيدًا عن أعين الأندية المنافسة للزمالك

في العام ذاته، نشبت أزمة طالت آثارها صورة الملك لسنوات لاحقة، عندما قرر رئيس نادي الفروسية محمد طاهر باشا رفض قبول "الفلاحين" المصريين كأعضاء بالنادي الأرستقراطي، لتبدأ حملة صحفية قادها مصطفى أمين على النادي وأصحابه من أمراء العائلة الملكية، ما تطلّب تدخل الملك فاروق بنفسه لحل المشكلة. ووفقًا لشهادة مصطفى أمين في كتابه "ليالي فاروق"، فقد وقف الملك هذه المرة إلى جانب المصريين وأمر بسحب إعانة الحكومة الموجهة للنادي، لأنه "لن يسمح بوجود مثل هذه النبرة في نادٍ يريد أن يحظى بالرعاية الملكية".

وبعيدًا عن الأسباب الحقيقية لموقف الملك، فالمؤكد أن زيادة عدد الأندية الراغبة في رعاية الملك كان دليلًا على تحول الاهتمام السياسي بالرياضة إلى قنطرة يستغلها رؤساء الأندية من أجل إضفاء الوجاهة وكسب النفوذ، وهو ما يبدو أن فاروق انتبه له، فصار حريصًا في اختياراته للأندية التي تحظى برعايته.

الملك فاروق يسلم كأس الفروسية لأحمد مظهر

اقرأ/ي أيضًا: حكام مصر بين القصور والملاعب.. القصة الكاملة (1-2)

وفي ظل الفرضية التي ترجح أن غاية الملك من اهتمامه بالرياضة هي اكتساب الشعبية وحب المصريين، يمكن تفهُّم موقفه في أزمة نادي الفروسية، وأيضًا موافقته على رعاية نادي طنطا، من دون أن يحمل اسمه. وكان نادي طنطا، الذي تأسس عام 1934، واحدًا من أكبر الأندية في ذلك الوقت، وتقدّمت إدارته بطلب للملك لرعاية النادي، ولكن المشكلة بالنسبة للملك أنه نادٍ يقع خارج العاصمة ولا يمتلك الشعبية التي يسعى إليها، لذلك لم يمنحه اسمه وطلب من إدارة النادي تسميته على اسم والده الراحل الملك فؤاد الأول.

الملك فاروق في المقصورة الرئيسية لنادي الصيد

الجماهيرية والشعبية التي يسعى إليها فاروق في النادي الذي سيمنحه اسمه جاءته من حيث لا يتوقع، حين عرض عليه محمد حيدر باشا، صاحب أطول مدة رئاسة للنادي المختلط (الزمالك حاليًا) من 1923 إلى 1952، رعاية النادي، ولكن حسابات الرجلين كانت مختلفة تمامًا. فحيدر باشا أراد استغلال علاقته القوية بالملك والاستفادة من رعايته المتوقعة لناديه الحبيب في إسباغ نوع من الوجاهة والنفوذ عليه يجعله يناطح الغريم التقليدي، النادي الأهلي، الذي نال شرف الرعاية الملكية قبل سنوات، خصوصًا أن المختلط شهد في تلك الفترة انتزاع أرضه (في وسط القاهرة حيث مقر دار القضاء العالي حاليًا) لبناء المحكمة المختلطة عليها وصار عليه الابتعاد بمقره إلى ما وراء حي الزمالك (في منطقة ميت عقبة حيث مقر نادي الزمالك حاليًا).

وليس معروفًا على وجه الدقة السبب الذي جعل فاروق يقدم على تلك الخطوة، خصوصًا وأنه اشتهر عنه حبه للنادي الأهلي، إلا أن يكون الملك أراد السيطرة على الناديين الجماهيريين الأكبر في العاصمة المصرية طمعًا في كسب أكبر شعبية ممكنة، أو أن يكون حضوره لمباراة نهائي الكأس بين الزمالك والأهلي، التي فاز فيها الزمالك بنتيجة 6-0، هو ما جعله يوافق على طلب حيدر باشا لإلحاق نادي المختلط برعايته.

المهم أن الجماهير المصرية فوجئت فى أواخر حزيران/يونيو 1944 بمرسوم ملكي يقضي بأن يتحوّل اسم نادي المختلط إلى نادي فاروق واستحداث منصب جديد لنائب رئيس النادي يتولّاه إسماعيل بك شيرين، زوج الأميرة فوزية شقيقة الملك. وحينها خرجت جريدة الأهرام لتؤكد أهمية الخطوة التاريخية في مسيرة نادي المختلط، الذي استطاع أن يكون "ناديًا ثابت الدعامة بفضل القيادة الحازمة لرئيسه حيدر باشا". والثابت، أن حيدر كان أحد الموثوقين الذين يعتمد عليهم الملك ويأتمنهم على أسراره، خدم والده الملك فؤاد بإخلاص وساهم في قمع المظاهرات المناهضة للقصر وللإنجليز، وحصل على ترقية استثنائية جعلته مديرًا لمصلحة السجون، بعدما سخَّر السجناء لاستصلاح 50 ألف فدانًا من الأراضي الخاصة بالملك فؤاد. واستمرت علاقة حيدر بالملك الابن، حتى عيّنه فاروق ياورًا شرفيًا وجعله وزيرًا للحربية في أواخر أيامه، وبقى حريصًا على ثلاثة أشياء: الملك والقصر ونادي الزمالك.

عشق حيدر باشا الزمالك لدرجة الجنون، وفي سبيل مصلحة النادي لم يمانع الرجل من استغلال منصبه الرسمي للقيام بكل ما من شأنه إفادة النادي، فاستخدم السجون مكانًا لإخفاء اللاعبين النجوم في الفرق الأخرى أثناء موسم الانتقالات لإبقائهم بعيدًا عن أعين الأندية المنافسة، ولا سيما الأهلي، وكان يبعث إليهم بالمطرب الشعبي محمد عبد المطلب، الذي كان زملكاويًا هو الآخر، للترفيه عنهم بالغناء أثناء فترة احتجازهم في أحد السجون المختارة بعناية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل كان حيدر يجتمع بلاعبي الزمالك قبل مبارياتهم المهمة ويتدخل في تشكيلة الفريق وخطة اللعب، وهو الأمر الذي سيتكرر بعد رحيل حيدر والملك ومجيء ضباط الجيش إلى حكم مصر، ولكن بصورة أكبر وأشد سوءًا.

اقرأ/ي أيضًا:  كان يا ما كان.. حكاية اسمها الأهلي والزمالك

عسكرة الرياضة المصرية

في 23 تموز/يوليو 1952، استولى ضباط الجيش على الحكم بعد نجاحهم في الإطاحة بالملك فاروق، وتغير كل شيء في مصر بعد هذا التاريخ. الرياضة المصرية لم تكن بعيدة عن التغيير الذي أحدثته "الثورة"، حيث حرص رجال الجمهورية الناشئة على استغلال الرياضة لتسويق نظامهم والتقرّب من الجماهير، ووضحت بشائر هذا النهج في أيلول/سبتمبر 1952 عندما حرصت القيادة السياسية الجديدة على حشد جماهير الكرة في ملعب كوبري القبة لحضور المباراة الافتتاحية للموسم الجديد من الدوري المصري، وكانت بين منتخب أندية القاهرة  ومنتخب القوات المسلحة، وهذا الأخير هو فاتحة تدخل الجيش في الكرة المصرية، إذ ظهر للوجود بعد قيام "الثورة" تزامنًا مع تغيير اسم اتحاد الجيش للألعاب الرياضية إلى اتحاد القوات المسلحة للألعاب الرياضية. لكن المهم هنا هو ما حدث قبل بداية المباراة، حيث تفاجأ الحضور بسيارة تدور داخل الملعب وبداخلها رئيس الجمهورية اللواء محمد نجيب يلقي بالتحية للجماهير. وبالطبع فاز منتخب القوات المسلحة في تلك المباراة على منتخب القاهرة، الذي يضم صفوة لاعبي الكرة المصرية في ذلك الوقت، بثلاثة أهداف مقابل هدفين، وهو الأمر الذي سيتكرر أمام منتخب المحلة لكرة القدم بحضور محمد نجيب، وسيتكرر أيضًا في كرة السلة. كان هذا إيذانًا بدخول مصر ورياضتها في محراب الجيش.

محمد نجيب في يلعب ضربة البداية لمباراة الأهلي ومنتخب الأندية المصرية

بعد ذلك، تكرر ظهور اللواء محمد نجيب في الملاعب المصرية، فزار النادي الأهلي بدعوة من رئيس اتحاد الكرة (الذي هو نفسه وزير الزراعة) لحضور مباراة ودية بين الأهلي ومنتخب الأندية المصرية، ونزل خصيصًا لمصافحة لاعبي الفريقين قبل المباراة. واستمر ذلك الحرص الرئاسي على حضور المباريات، مهما كانت أهميتها، حتى أنه حضر الحفل السنوي لنادي المعادي في السباحة، حيث كان على موعد مع وصلة من الترحيب والاحتفاء بقيادة طاهر اللوزي رئيس نادي المعادي، والذي عرض على الرئيس قبول العضوية العاملة المجانية بالنادي. وبقبول اللواء نجيب العضوية المجانية بنادي المعادي، فتح المجال واسعًا أمام قاعدة لا تزال سارية إلى الآن في أغلب الأندية المصرية الكبرى، التي تحرص على منح عضويتها بالمجان لكبار المسؤولين لخطب ودّهم و"رضاهم السامي".

تحرص أغلب الأندية المصرية الكبرى إلى اليوم على منح عضويتها بالمجان لكبار المسؤولين لخطب ودّهم و"رضاهم السامي"

لم يكن اللواء نجيب وحده من أبدى اهتمامًا زائدًا بالرياضة من بين رجال الثورة، بل إن أغلبهم طمعوا في الظفر بنصيب من الكعكة واستثمار شعبية الرياضة بين المصريين، حتى جاء وقت على مصر أصبح المشهد الرياضي مرآة مصغّرة لأحوالها تحت حكم رجال الجيش الذين اقتسموا فيما بينهم الكعكة الكبيرة: صلاح الدسوقي أصبح رئيسًا لاتحاد السلاح، وأنور السادات رئيسًا لاتحاد تنس الطاولة، وحسين الشافعي رئيسًا لاتحاد الفروسية، وعلي صبري رئيسًا لاتحاد السباحة، وعبد المحسن أبو النور رئيسًا لاتحاد كرة السلة، والفريق أول صدقي محمود رئيسًا لاتحاد الإسكواش، وزكريا محيي الدين رئيسًا لاتحاد التجديف، وخالد محيي الدين رئيسًا لاتحاد الأندية الريفية، وكمال الدين حسين رئيسًا لاتحاد الرماية إلى جانب رئاسته للمجلس الأعلى للشباب والرياضة، واللواء عبد الله رفعت رئيسًا لاتحاد الكرة الطائرة، والفريق أول عبد المحسن كامل مرتجى رئيسًا لاتحاد المصارعة، ومجدي حسنين رئيسًا لاتحاد التنس. أما المشير عبد الحكيم عامر فكانت له حكايات لا تنتهي مع كرة القدم واتحادها أو مع نادي الزمالك، لا يتسع المجال لذكرها هنا، ولكن يكفي القول إنه كان يتدخل شخصيًا من أجل مساعدة ناديه المفضل الزمالك للفوز بالمباريات والبطولات، وفي سبيل ذلك لم يدع أي شيء يقف عائقًا أمامه.

باختصار، قرر الجيش السيطرة على الرياضة والتحكم فيها، حتى أنه صدرت توجيهات بعد الإطاحة بفاروق مباشرة بألا يلعب أفراد القوات المسلحة المصرية للأندية الأخرى المدنية، وصار على جميع الأندية المصرية التخلي عن لاعبيها ممن يخدمون في الجيش. وامتد القرار إلى وزارة الداخلية التي قامت بدورها بإنشاء نادي البوليس، ليضم جميع الأفراد العاملين بالوزارة من ضباط وجنود وموظفين، على ألا يسمح لهم باللعب لأي نادٍ آخر داخل مصر.

وهكذا، طيّف رجال الجيش الكرة المصرية، وأصبح هناك أندية للعسكر وأندية أخرى لغيرهم من المصريين. حدودٌ أوجدها رجال السلطة الناشئة، ستظهر آثارها الكارثية بعد عقود طويلة حين يصبح هناك 5 أندية عسكرية مختلفة تلعب في الدوري المصري المكون من 18 ناديًا، ثلاثة للجيش واثنان للداخلية، ويكون هناك حالة مستشرية من الفساد الرياضي وعدم المساواة ترعاها الدولة وقوانينها مخالفة لأبسط قواعد الاتحاد الدولي لكرة القدم. ووفقًا لإحصائيات رسمية، تمتلك المؤسسة العسكرية المصرية حاليًا 9 ملاعب على الأقل، في الوقت الذي لا تمتلك فيه الأندية العامة والجماهيرية ملعبًا واحداً للتباري عليه وخوض المنافسات الرسمية، فالأهلي النادي الأكبر في مصر لا يمتلك شبرًا في أرض الجزيرة، ويتخذها بغرض الانتفاع مقابل الإيجار من محافظة القاهرة منذ أربعينات القرن المنصرم، والأمر مشابه مع نادي الزمالك، لتظل النتيجة المؤكدة حاليًا، في ظل قرار منع أداء المباريات على ستاد القاهرة، أن يظل الفريقان الأكبر في مصر بلا ملعب رسمي، ليخوضا مبارياتهما الرسمية على ملاعب الجيش!

طيّف رجال الجيش الكرة المصرية وأصبح هناك أندية للعسكر وأندية أخرى لغيرهم من المصريين وهو ما كانت له نتائج كارثية على واقع الكرة المصرية

عبد الناصر.. الرياضة كأداة سياسية

أما جمال عبد الناصر فلم يكن شغوفًا بكرة القدم ولكنه حرص على استغلالها مثل سلفه، وبعيدًا عن الجدل التاريخي حول صحة تلك المعلومة التي تؤكد ميله للنادي الأهلي، فقد عرف عبد الناصر مبكرًا ما يريده من اللعبة الشعبية الأولى في مصر. في عام 1955، رأى عبد الناصر أن بإمكان كرة القدم توفير جزء من المال اللازم لتمويل صفقة تسليح للجيش المصري، فتوجه لاتحاد الكرة بالفكرة، وبدوره استجاب الاتحاد للطلب، وبالطبع تسابقت الأندية المصرية على تنفيذ فكرة "قائد التحول الاشتراكي"، فكانت البداية تخصيص إيرادات المباراة التي جمعت بين قطبي الكرة المصرية، الأهلي والزمالك، لصالح تسليح الجيش المصري، وحضر عبد الناصر المباراة التي انتهت بتعادل الفريقين بهدفين لكل منهما.

وإذا كان عبد الناصر اكتفى بذلك القدر من احتواء الرياضة و"استخدامها"، فإن صديقه عبد الحكيم عامر اختار أن يضع لمسته الخاصة على الأمر، فقرر أنه يتعيّن على الجيش المصري نشر الوعي الرياضي في الريف المصري، معتبرًا ذلك الهدف مهمة وطنية كبرى يلتزم بها الجيش. بالطبع فشلت الفكرة فشلًا ذريعًا، ولكن ظلَّ الاستخدام السياسي لكرة القدم يحوم حولها، ولم يتوقف عند حدود مصر. فقد توجّه عبد الناصر بأهدافه إلى القارة الإفريقية من أجل تعميق علاقات مصر مع جيرانها، وهداه تفكيره إلى ضرورة وأهمية استخدام كرة القدم في تحقيق هدفه، فظهرت النتيجة بعد 4 شهور من دعوته متمثلةً في استحداث بطولة كأس الأمم الأفريقية التي أقيمت أولى دوراتها في السودان عام 1957، بمشاركة ثلاث دول فقط، مصر والسودان وإثيوبيا، وفازت بها مصر.

بعد عامين، أقيمت الدورة الثانية من البطولة في القاهرة بمشاركة نفس الفرق الثلاثة، وتقررت المواجهة النهائية بين مصر والسودان على كأس البطولة، ودخلت السياسة على الخط، عندما حضر مدير مكتب عبد الحكيم عامر إلى معسكر المنتخب المصري طالبًا من اللاعبين حسم اللقب لصالحهم، لأن سيادة المشير كان في زيارة للسفارة السودانية بمصر وعلم أن الأفراح انطلقت في الخرطوم لثقة السودانيين في فوزهم على مصر والعودة من القاهرة بكأس البطولة، واختتم رجل المشير حديثه بتهديد الجميع أن عقابًا قاسيًا سيكون بانتظارهم في حالة الهزيمة، وبالأخص لاعبي المنتخب علاء الحامولي وعصام بهيج لأنهما ضابطين في الجيش المصري!

عشق عبد الحكيم عامر كرة القدم على عكس صديقه عبد الناصر الذي لم تتغيّر قناعته في اللعبة وظلَّ يراها ترفيهًا يجب إيقافه وقت الضرورة، وهكذا لم تشارك مصر في بطولة كأس الأمم الأفريقية في تونس 1965 بسبب خلافات عبد الناصر السياسية مع الحبيب بورقيبة، أما البطولة التالية في إثيوبيا 1968 فكان مستحيلًا أن تشارك فيها مصر الخارجة لتوها من هزيمة عسكرية قاسية في حرب الخامس من حزيران/يونيو.

لم تشارك مصر في بطولة كأس الأمم الأفريقية في تونس 1965 بسبب خلافات عبد الناصر السياسية مع الحبيب بورقيبة

السادات.. غير المهتم

لم يُعرف عن الرئيس الثالث لمصر اهتمامًا خاصًا بكرة القدم أو الرياضة عمومًا، غير أنه كان حريصًا على ممارسة الرياضة بانتظام حفاظًا على صحته ولياقته، وربما تكون زوجته جيهان السادات هي السبب وراء الحكايات التي تربطه بتشجيع النادي الأهلي، حيث ذكر ابنهما جمال السادات أن والدته أرغمت فريق الكرة بالنادي الأهلي على زيارتها في بيتها للاحتفال معها بكل بطولة أو انتصار كروي، وهو أمر ليس بغريب ولا مستبعد على "السيدة الأولى" التي عبّرت أسوأ تعبير عن ذلك المنصب/اللقب في فترة رئاسة زوجها، قبل أن تأتي خليفتها سوزان مبارك وتدشّن حدودًا جديدة لما يمكن أن تفعله السيدة الأولى بمصر.

اهتم "كبير العائلة المصرية" بالصحافة والفن، وربما جاء ذلك التوجه متوافقًا مع فقدان الكرة المصرية لبريقها وألقها الأفريقي في عهده، حيث لم تستطع مصر الفوز مطلقًا ببطولة كأس الأمم الأفريقية في مرتين اشتركت فيهما بالبطولة خلال فترة السبعينات، فضلًا عن فشلها في التأهل مرتين لأول وآخر بطولتين في عهد السادات، بطولة الكاميرون 1972 وبطولة غانا 1978، وكأن القدر أراد معاقبة السادات على عدم اهتمامه بكرة القدم.

مبارك.. المجرم

أصبحت كرة القدم في عهد مبارك ساحة خلفية لعمليات غسيل الأموال وبابًا ذهبيًا لجمع الملايين والاستحواذ على السلطات

أما الرئيس الرابع لمصر فقد شهدت فترة حكمه التي قاربت الـ 30 عامًا اهتمامًا رسميًا غير مسبوق بالرياضة، تجلّى بشكل خاص في السنوات الأخيرة له في الحكم، حيث اعتمد نظام مبارك على تقديم الدعم والرعاية للمنتخب الوطني لكرة القدم كجزء من مشروع توريث الحكم لابنه جمال وإكسابه الشعبية لدى الجماهير المصرية العاشقة لكرة القدم. الابن الآخر لمبارك، علاء، استهوته الرياضة كلعبة ممتعة، ولكن الأمر لم يخل من استغلال وفساد وامتيازات حصل عليها المقرّبون بفضل علاقتهم بنجلي الرئيس، حتى أصبحت كرة القدم في مصر بمثابة ساحة خلفية لعمليات غسيل الأموال وبابًا ذهبيًا لجمع الملايين والاستحواذ على السلطات.

وإذا كان مبارك قد أفلت من جميع التهم الموجهة إليه عقب ثورة 25 يناير، فإن نظرة أخرى إلى ملفات الفساد والإفساد الرياضي في عهده كافية لبيان حجم الجرائم التي ارتكبها بحق الرياضة المصرية والمصريين. فلم يكتف نظام مبارك باستخدام الرياضة كأسلافه بحثًا عن جماهيرية وشعبية، ولم يكتف باستغلال كرة القدم كأحد مصادر التعبئة الوطنية واستقطاب الجماهير خارج المجال السياسي، بل قرر تجميل الفساد بكرة القدم. تحوّلت رياضة مثل الجولف قناعًا يغطي جرائم الاستيلاء على مساحات هائلة من الأراضي، وتحوّلت كافة الأنشطة الرياضية في مصر إلى ستار تدار من ورائه عمليات فساد ونهب أراضٍ وتلاعب بمصائر الناس وحقوقهم، ودخل في تلك "اللعبة الحرام" الكثير من المسؤولين و"الحبايب" المستقويين بعلاقاتهم الوطيدة بالنظام ورجاله.

أحب مبارك كرة القدم فعلًا، تابع مبارياتها وارتبط بنجومها وكان لديه فريق يشجعه، ولكن ذلك الحب دفع كثيرين للتقرب من الرئيس بالإسراف في نفاقه، ثم تحوّل الأمر إلى بوابة لشروع الدولة نفسها في تنفيذ مشروعات رياضية وتأسيس نوادٍ كاملة تلعب باسمها. أندية لشركات البترول والاتصالات والكهرباء والمياه والسماد والغزل والسكك الحديدية، تسبب وجودها في الإضرار بحال الكرة المصرية وإفقاد اللعبة جانبًا مهمًا من متعتها، الجماهير. ولكن الجريمة الكبرى لهذا التوجه الغريب للدولة تبقى متمثلة في إهدار المال العام على أندية لا لزوم لها ولا مبرر لوجودها، يجد مسؤولوها، وهم غالبًا من الوزراء وكبار المسؤولين الحكوميين، في صعودها وتحقيقها البطولات وفوزها في كل مباراة مصدر فخر واعتزاز ودليلًا على الكفاءة والمهنية من جانب، ومصدرًا للثراء وعقد الصفقات الجانبية واللعب بالأرقام من جانب آخر. هكذا، دخلت الرياضة في قائمة الجرائم الاقتصادية والسياسية المرتبطة بعصر مبارك، ولكنه للأسف لم يحاكم على تسببه في قتل آلاف المتظاهرين وبالتالي لا فائدة ترجى من المطالبة الآن بمحاسبته على جرائمه الرياضية.

نقطة التحول الأبرز في علاقة مبارك بالرياضة جاءت في عام 2006، مع احتضان مصر لبطولة الأمم الأفريقية وفوزها بها، حيث شهد المصريون وجوهًا جديدة في المدرجات وارتفعت أعلام مصر بكثافة في البيوت وفي الشوارع وبدا من الواضح للجميع أن كرة القدم والمنتخب الوطني هما فقط ما يمكنهما جمع المصريين على قلب واحد. أدرك نظام مبارك تلك الحقيقة، فسعى بكل قوة لاستخدام الكرة جسرًا يعبر منه إلى المصريين بعد 25 عامًا في الحكم. ولكن في أثناء ذلك السعي المحموم تناسى رجال النظام الاهتمام بالحاجيات الأساسية للشعب المصري، من تعليم وصحة وطعام وسكن وأمان اجتماعي، وتناسى مبارك نفسه الحزن الذي أحاط بمصر عقب غرق أكثر من 1000 واحد من أبنائها في عبّارة يملكها رجل الأعمال الفاسد ممدوح إسماعيل، ووقف الرئيس العجوز وسط جماهير ستاد القاهرة للاحتفال بفوز مصر بكأس الأمم الأفريقية. كان مشهدًا وقحًا أن يحتفل الرئيس دون إبداء أي نوع من الاحترام لمشاعر أهالي الضحايا الذين لم "يربعنوا" بعد، ولكنه كشف عن أولويات مبارك والطريقة التي يتعامل بها المسؤولون مع الدم المصري "الرخيص للغاية".

وهكذا، أدمن مبارك كرة القدم وظن أن اهتمامه المبالغ فيه باللعبة من الدهاء السياسي، فيما أهمل القضايا الملحة المتعلقة باحتياجات ملايين المصريين وتطلعهم إلى التغيير، فصار طبيعيًا أن تتحدث الصحف المصرية عن اهتمام الرئيس شخصيًا بأزمة حارس المرمى عصام الحضري وقصة هروبه واحترافه في سويسرا، في مقابل التجاهل الرسمي التام لمحاسبة المتورطين في مقتل المصريين في حوادث القطارات والانهيارات الصخرية في أحياء القاهرة المهمشة. الغريب أن نجلي مبارك لا يزالان يحملان ذلك اليقين بأهمية التواجد وسط جماهير كرة القدم، حتى بعد ذهاب أحلام التوريث والحكم، حيث حرص الثنائي على الظهور وسط جمهور ستاد القاهرة الدولي في المباراة الودية التي جمعت المنتخبين المصري والتونسي بداية العام الحالي، وذلك بعد إخلاء سبيلهما العام الماضي على ذمة إحدى قضايا الفساد.

محمد مرسي.. لقطة يتيمة

خامس رؤساء مصر أكمل عامًا بالكاد على كرسي الرئاسة، قبل أن يطيح به الجيش في منتصف 2013، ما يعني أن الفرصة لم تأته لإبراز اهتمام خاص بالرياضة، لكنه عُرف بتشجيعه لنادي الزمالك واستهواه لعب كرة القدم صغيرًا وكبيرًا. لم يحضر مرسي أي مباراة رياضية ولكنه اختار ستاد القاهرة ليكون مكانًا لمؤتمر ضخم دعا إليه أنصاره، "مؤتمر نصرة الثورة السورية"، وفي الصالة المغطاة باستاد القاهرة وقف مرسي وقال خطابه الشهير الذي أعلن فيه قطع العلاقات تمامًا مع النظام السوري وإغلاق سفارة النظام السوري بالقاهرة وسحب القائم بأعمال السفير المصري من دمشق، وهو ممسك بعلم الثورة السورية.

هذه اللحظة تحديدًا مثّلت مسمارًا في نعش حكم محمد مرسي لأن أجهزة الدولة لم ترض على تلك الطريقة في اتخاذ القرارات، رغم أن التاريخ يفاجئنا بعد 3 سنوات بالضبط من تلك اللحظة بمشهد مماثل وأشدّ فداحة سيكون بطله الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي الذي وقّع اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، دون الرجوع لأجهزة الدولة بل أدخلها في مهزلة قضائية وسياسية سيتوقف عندها المؤرخون مستقبلًا.

المهم، وبعيدًا عن السياسة ومتاهاتها، اقتصرت علاقة مرسي بالرياضة على تهنئة روتينية قدّمها للمنتخب المصري لكرة القدم عقب فوزه على غينيا في تصفيات مونديال البرازيل 2014، رغم أن الحزب الذي ترأسه، حزب الحرية والعدالة، اشتمل برنامجه على رؤية عامة للرياضة ودورها في عشر نقاط أساسية، من بينها تطوير المنشآت الرياضية وتوسيع قاعدة الممارسة ومراقبة النوادي إداريًا وماليًا وضرورة أن تكون الرياضة جزءًا أساسيًا من المنهج التعليمي. إذًا، لم يهتم مرسي بالرياضة إلا في إطار بروتوكولي بحت، ولكنه حفظ لنفسه مكانًا في سجل التصريحات الرياضية المثيرة والغريبة، عندما أعلن حرصه على استئناف النشاط الرياضي والكروي (توقف بعد مذبحة ستاد بورسعيد في الأول من شباط/فبراير 2012) أثناء استقباله لأعضاء بعثة مصر المشاركة في أولمبياد لندن 2012 بقصر الاتحادية، حيث قال: "الدوري بدون جمهور زي الزواج بدون شهود".

السيسي.. نار الحب

أما الرئيس السادس لمصر فأبى إلا أن يكون عهده حافلًا بالاستغلال السياسي للرياضة، مثله في ذلك مثل جميع الأشياء والأدوات التي تقع تحت يديه فيحاول الاستفادة منها قدر الإمكان وكافة الطرق لتحسين شعبيته وإلهاء المواطنين عن أزماتهم الاقتصادية والاجتماعية. ورغم البداية الكارثية للرياضة المصرية في عهد السيسي، إذ ضاع حلم الوصول للمونديال بعد خسارة مذلة أمام غانا في كوماسي بنتيجة 6-1 بعد 3 شهور تقريبًا من وصول الجنرال السابق إلى الحكم؛ إلا أن النظام لم يفوّت الفرصة لتعويض تلك البداية حين شاركت مصر أخيرًا في بطولة كأس الأمم الإفريقية لكرة القدم 2017 بالجابون، واستطاعت تحقيق المركز الثاني بعد خسارتها أمام منتخب الكاميرون في المباراة النهائية بهدفين مقابل هدف.

حرص السيسي على استقبال أفراد بعثة منتخب كرة القدم المصري في مطار القاهرة الدولي عند عودتهم من الجابون، وبثّت القنوات التلفزيونية المصرية حديثه إلى اللاعبين، الذي شكرهم فيه وطيّب خاطرهم بعد ما حققوه، حيث كانت بطولة الجابون هي أول بطولة قارية يشارك فيها المنتخب المصري بعد تخلّفه لثلاث دورات متتالية لم يتمكّن من اجتياز التصفيات المؤهّلة لها منذ فوزه بكأس البطولة عام 2010. ولكن مشهد المطار لم يكن هو الوحيد الذي أثبت حرص النظام على تسويق وصول المنتخب المصري للبطولة الأفريقية، بل سبقه تناقل وسائل الإعلام المصرية لأخبار تفيد بأن السيسي حرص على مشاهدة مباراة المنتخب المصري مع نظيره الغاني، ضمن مباريات دور المجموعات من الكأس، وسط مجموعة من الشباب في أحد فنادق محافظة أسوان في 25 كانون الثاني/يناير، حيث يُعقد "مؤتمر الشباب" السنوي تحت رعايته. أما المشهد الثاني فكان عندما وجّه رسالة تهنئة إلى المنتخب المصري عقب فوزه على نظيره البوركيني في مباراة نصف النهائي.

الغريب في الأمر هو سماح النظام بفتح الساحات الشعبية ومراكز الشباب أمام الجماهير المصرية لمتابعة مباريات المنتخب الوطني في البطولة القارية، والسماح بالتجمهر والاحتفال في الشوارع بفوز المنتخب، في الوقت الذي لا يتوانى عن خنق المجال السياسي وسدّ كل الطرق الممكنة أمام الأفراد والكيانات السياسية لتنظيم أي نوع من التجمهر أو التظاهر من خلال بعض القوانين المكبلة كقانون التظاهر وقانون التجمهر.

عديد الدلائل تشير إلى محاباة اتحاد كرة القدم المصري للأندية العسكرية، تقرّبًا إلى الرئيس السيسي

على صعيد آخر، تزايد نفوذ المؤسسة العسكرية التي يعتمد عليها الرئيس المصري في كل كبيرة وصغيرة، حتى وصل إلى الرياضة، فهناك بعض الدلائل تشير إلى محاباة اتحاد كرة القدم المصري للأندية العسكرية، تقرّبًا إلى الرئيس السيسي، أبرزها ما حدث في أواخر الموسم الكروي 2013/2014 عندما كانت الأندية العسكرية الثلاث المشاركة بالدوري، الإنتاج الحربي وحرس الحدود والداخلية، مهددة بالهبوط إلى دوري الدرجة الثانية، وخرج إسماعيل فايد نائب رئيس مجلس إدارة نادي سموحة ليعلن أن لجنة الأندية تتعرض لضغوط عسكرية لإلغاء الهبوط هذا الموسم بتحريض مرتضى منصور رئيس اللجنة على طرح الأمر في اجتماع الأعضاء الممثلين للأندية وتقديمه لاتحاد الكرة للموافقة عليه، وقال فايد إن منصور علّق على ذلك بأنه جزء من "رد الجميل" للجيش ولدوره في 30 يونيو.

وفي الشأن ذاته، تُفرض العديد من المحاذير والمعوقات في وجه أي محاولة من الأجهزة الرقابية أو القضائية للاطلاع على البيانات المالية والإدارية للأندية العسكرية، وهو ما جعل المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، يطالب رئاسة الجمهورية بضرورة إخضاع أندية الشرطة لرقابة الجهاز، بعد أن خاطب وزير الداخلية أكثر من مرة بذات الطلب، ولم يرد الأخير إلا ببيانات متناقضة، قال في إحداها إن أندية الشرطة خاضعة بالفعل لرقابة الجهاز، ورفض الرقابة على وزارته. أما رئاسة الجمهورية فتجاهلت طلب المسؤول الرقابي لتظهر نتائج ذلك لاحقًا مع موافقة الرئيس على مشروع قانون الضريبة العقارية، الذي أعفى أندية وفنادق القوات المسلحة من تسديد الضرائب القانونية، دون الأخذ بملاحظات قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة على أن هذا القانون به عوار دستوري لأنها أندية ربحية، وهو ما يسقطها من قائمة الجهات المعفاة بنص القانون المصري.

أخيرًا، لا يمكن إغلاق القوس دون الإشارة إلى تلك اللقطة في حفل افتتاح بطولة العالم لكرة السلة للشباب تحت 19 سنة التي أقيمت مؤخرًا في مصر (من 1- 9 تموز/يوليو الجاري)، حين ظهر الرئيس السيسي وهو يمسح أنفه أو عرقه بمنديل ورقي ثم "يدفسه" في كمّ سترته، وهي اللقطة التي أثارت موجة عارمة من السخرية والاستياء بين أوساط المعارضين والموالين على السواء، لتكون هذه اللحظة تلخيصًا لحال نظام السيسي في محاولات تجميل صورته مستعينًا بالرياضة لتصدير صورة مزيّفة للعالم يقول فيها إن "كُلّه تمام"، فواقع الأمور يقول إن في مصر السيسي لا شيء على ما يرام أبدًا، حتى الرياضة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مصر.. سياسة في المستطيل الأخضر

أهداف قليلة.. لعنة كوبر تصيب الدوري المصري