29-يناير-2025
العاصمة دمشق عقب الإعلان عن سقوط نظام الأسد (رويترز)

العاصمة دمشق عقب الإعلان عن سقوط نظام الأسد (رويترز)

 

سوريا اليوم وصلت إلى مآزق كثيرة، وكلها بحاجة إلى حلول عصرية، بمعنى ألا تكون متخلفة عما هو موجود في هذا العالم، كي تستطيع التفاهم والتفاعل مع عناصر وآليات العيش على سطح الكرة الأرضية التي أضحت قرية صغيرة. إن منع التواصل العملي والنظري، بحجج المؤامرات والخصوصيات والهويات المتمايزة، هو ممارسة فعلية لتخلف البنية المنتجة السورية، من خلال حصر أدائها تحت سقف الولاء للدولة والوطن، وهو مفهوم مرَّ بمرحلة تربوية طويلة، وصار من غير السهل التخلص منه.

سبب مآزق سوريا اليوم هو "الامتناع" عن التغيير، ويمكن تلخيصه في ثلاثة "امتناعات": الأول هو الامتناع السياسي، الثاني هو الامتناع الاقتصادي، والثالث هو الامتناع الثقافي، وهو ذاته الامتناع الحقوقي. جميعها ناتجة عن المنع المديد، لدرجة الاعتياد والرضوخ، وكذلك تم تقنينها بطريقة جائرة، بحيث يمكن تفسير القوانين بطريقة تلتف على الدستور، مما يجعل مهمة الدولة في تربية المجتمع مهمة مشوهة وغير نزيهة.

على الصعيد المستقبلي، تنتج هذه السياسة عاهات اجتماعية وأمراضًا نفسية عصبية نادراً ما نجدها في أغلب دول العالم. إن الخوف والفزع من السلطة لهما مقابل أدائي مناسب، مثل الجبن، والخساسة، والنفاق، والعنف، والتكسب غير المشروع، وغير ذلك من الاختلالات التي لا تليق بمجتمع معاصر.

سبب مآزق سوريا اليوم هو "الامتناع" عن التغيير، ويمكن تلخيصه في ثلاثة "امتناعات": الأول هو الامتناع السياسي، الثاني هو الامتناع الاقتصادي، والثالث هو الامتناع الثقافي، وهو ذاته الامتناع الحقوقي. جميعها ناتجة عن المنع المديد، لدرجة الاعتياد والرضوخ

 

الامتناع السياسي والاقتصادي والثقافي

الامتناع السياسي يجعل المواطن العادي (لا أقصد النخب) في حالة من الضياع، مما يدفعه إلى البحث عن تصنيفات ومرجعيات ما قبل الدولة. إذ أنه يعيش في "دولة" لا يأمن شرها، فهي بعبع غير مروض يمكنه التهامه في أي لحظة، حتى بالمصادفة غير السارّة. فينأى عن ممارسة أي من ضروب السياسة، خوفًا من تلك المصادفة.

الامتناع السياسي يجعل المواطن العادي في حالة من الضياع، مما يدفعه إلى البحث عن تصنيفات ومرجعيات ما قبل الدولة. إذ أنه يعيش في "دولة" لا يأمن شرها، فهي بعبع غير مروض يمكنه التهامه في أي لحظة، حتى بالمصادفة غير السارّة. فينأى عن ممارسة أي من ضروب السياسة

أما الامتناع الاقتصادي، فيمكن ملاحظته دون عناء، في طبيعة البنية الاقتصادية، التي يبدو وكأنها تقول: "امشِ قرب الحائط ويا رب السترة". ولذلك، عجّ الاقتصاد السوري بالصناعات التحويلية، والسمسرة، والمضاربة، والشركات الخدمية التي تجمع العاطلين عن الإنتاج في دورة اقتصادية وهمية متحكم بها ومراقبة. وليس هذا نتيجة تخطيط اقتصادي سليم، بل بسبب القوانين الجائرة، التي أغلقت أبواب التفكير الإبداعي والإنتاجي والتسويقي أمام المستثمرين وأصحاب الأعمال، فلم يبقَ لهم سوى (الفهلوة) والاحتيال والالتفاف على القوانين، مما أدى إلى تمركز الثروات في يد السلطة.

أما الامتناع الثقافي، وهو الأهم بين هذه الأشكال من الامتناع، فيتمثل في غياب الثقافة العامة بين المواطنين العاديين. صحيح أن هناك منتجات ثقافية وصلت إلى بعض الأوساط الشعبية، لكنها تظل في إطار الهواية والتسلية، لأن الرقابة والقمع والتنكيل بهذه المنتجات كانت دائمًا واردة. بل ربما كان هذا مطلوبًا من قبل الممتنعين عن السياسة والاقتصاد، حيث يعتبرون الثقافة غير ذات جدوى وتأثيرها عليهم معدوم، بل ربما يسخرون منها، لأنها قد تجرهم إلى حقول السياسة الملغمة.

 

الثقافة الحقوقية كضرورة مجتمعية

لا شيء يوحد المجتمع الفعّال سوى الثقافة. وهنا لا أعني الاشتراك في التراث أو الفلكلور أو الأيديولوجيا، ولا حتى اللغة، أو الآلام والآمال المشتركة، ولا التاريخ المشترك. فهذه كلها بديهيات يجب أن تكون متوفرة بحكم الاستعمال والممارسة. لكن ما يُفقد في سوريا هو الثقافة الحقوقية، التي يجب أن تكون حجر الأساس في بناء المجتمع والمواطنة والوطن نفسه. فالمواطنة تقوم على حقوق وواجبات متساوية للجميع، وإهمال هذه الثقافة يؤدي حتمًا إلى الامتناع السياسي والاقتصادي.

ما يُفقد في سوريا هو الثقافة الحقوقية، التي يجب أن تكون حجر الأساس في بناء المجتمع والمواطنة والوطن نفسه. فالمواطنة تقوم على حقوق وواجبات متساوية للجميع، وإهمال هذه الثقافة يؤدي حتمًا إلى الامتناع السياسي والاقتصادي

لقد ساهمت الأحكام العرفية (قوانين الطوارئ)، منذ عام 1958 (وحدة سوريا ومصر) وحتى يومنا هذا، في ترسيخ هذا الامتناع، حيث كانت القوانين تناسب السلطة فقط، بينما كان الشعب مضطرًا لتقديم كامل الصلاحية الحقوقية لها، مقابل وعود بأن البلاد ستستقر وستتحسن الأوضاع. ورغم أن قوانين الطوارئ لها مدد قانونية محددة، إلا أن السوريين تربوا عليها واعتبروها جزءًا من النظام القانوني، بل دافعوا عنها في كثير من الأحيان، حتى عند كل استحقاق حقوقي ضروري لضمان استمرار الحياة.

وقد أدى هذا الوضع إلى اتساع سلطات الأجهزة الأمنية، بحيث لا يُحاسَب رجال الأمن على أفعالهم، مهما بلغت من مصادرة حقوق الناس وكرامتهم.

إن الحقوق والواجبات هي معيار المصلحة البشرية في العيش بوطن، حيث يصنع فيه أفراده أسباب الحياة والاستمرار.