06-فبراير-2017

مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي (pixabay)

تعجُّ مواقع التواصل الاجتماعي بـ"الحقيقة". ثمّة من يكتب هذه "الحقيقة" بأعصاب باردة وأصابع ثابتة بلا أيّة رعشة: "سأقول لكم الحقيقة" يكتب، ومن ثمّ يكرّ مسبحة من الأخطاء التي لا يمكن لأيِّ عدّاء ماهر، في اللغة والكتابة، الردّ عليها وتفنيدها وتصحيحها في يوم واحد، وثمّة من يصدّر "حقائق" تقول كل التفسيرات الخطابيّة إن لا أحد غيره يملكها.

وأمر "الحقيقة" لدى هؤلاء لا يتعلّق بمسائل صغيرة مثل نوع الأحذية العمليّة والقمصان المريحة، وإنما بأمور شائكة أرّقت وتؤرق الفلاسفة والمفكّرين ومراكز الدراسات والكتاب والصحفيين. الحداثة وما بعدها، الوطن والحدود والمواطنة، الأيديولوجيات والفوارق فيما بينها، الإعلام وتبعيّـته واستقلاله، وبالطبع الإنسان، بوصفه عنوانًا عامًا لتنظير الجميع، حتّى لأولئك المنغمسين في وحل العنصريّة والطائفيّة الدينية.

 الإعلام، وهو المفصل الذي استشرى فيه الجهل إلى درجة أن بعض الكتاب والصحفيين يعتمدون على هؤلاء المدونين من أجل سدّ نقص معلوماتهم

أصابع تلعب على الكيبورد، ماوس بضوء أزرق أو أحمر، والكثير من الجهل. هكذا يصبُّ هؤلاء "الحقيقة". غالبها مُستقى من حوارات شفاهية، أو برامج تلفزيونية عابرة لها أغراضها السياسيّة، وينقلونها إلى جمهور متعطّش للمعلومات بسبب الكبت الذي عاشه تحت سلطة دكتاتوريات غيّبت أية معلومة لا تتعلّق بالقائد وحزبه ونظامه، وحكومات إسلام سياسي رجعيّة عملت على تزوير تلك المعلومات بشكل فاقع حتّى صارت مُضحكة.

وبطبيعة الحال، لا تنطلق غالبيّة تلك المعلومات عن قصديّة خبيثة، وإنما عن جهل، وفي غالب الأحيان عن نرجسيّة معجونة ببلاهة تصدّق أنّها تعرف. والخطير أن هذه النرجسيّات تمتلك أدوات لغوية بإمكانها تمرير المعلومات بسهولة إلى شخص جالس في منزله يقلّب الهاتف المحمول بانتظار أيّ شيء "مختلف" ليقرأه، وليصدّقه.

اقرأ/ي أيضًا: الجزائر..الانتخابات البرلمانية تبدأ من الفيسبوك

وفي العراق على وجه الخصوص أخذت هذه الظاهرة بالاتساع بشكل كبير، بهذه الحال صار لدينا مجموعة من المدونين يُستشهد بأقوالهم، ويدلّل بهم على صحّة معلومة قديمة كانت أم حديثة، تعلّقت بالواقع اليومي أو غيره، للشروع بنقاش سيكون فيه الشخص العاقل مهزومًا لأن تصحيح تلك "الحقائق القسرية" سيحتاج إلى مطاولة مضنية كما حاجته إلى جهد هائل لتفنيده.

لكن أليس هذا واقع مواقع التواصل الاجتماعي في العالم؟ بالطبع، وهو الذي حيّر كل تلك الفئات العاملة في الكتابة من أجل إيجاد حل له لا يعرّض المدونون فيه إلى الرقابة، وأيضًا لا يتعرّض لحريّتهم في التعبير، بل ويمكّنهم من وجود آلية لتقويض نرجسيّتهم، وإيجاد مسلك لتصحيح معلوماتهم الخاطئة التي يضخونها ليل نهار.

صار لدينا مجموعة من المدونين يُستشهد بأقوالهم، ويدلّل بهم على صحّة معلومة قديمة كانت أم حديثة، تعلّقت بالواقع اليومي أو غيره

وأعود إلى العراق، الذي تعاني فيه غالبيّة القطاعات من الخراب، الأمر الذي ينسحب على الإعلام، وهو المفصل الذي استشرى فيه الجهل إلى درجة أخذ بعض الكتّاب والصحفيين يعتمدون على هؤلاء المدونين من أجل سدّ نقص معلوماتهم. وهكذا صرنا في حفلة صاخبة، ضجيج المعلومات الخاطئة فيها يرطم بعضه بعضًا.

لكن الغريب في هذا كلّه، هو تكرار "ملاّك الحقيقة" هؤلاء لمقولة السياسيين عن "جهل المجتمع" و"تخلّفه" وعدم تطوره، بل وحتّى الذهاب أبعد في تحقيره، هنا حفلة أكثر صخبًا تصمُّ الآذان، فـ"التنويريون" أنفسهم يتفقون مع الساسة على أمر ما، وهو ما يعني أن مصب الخراب واحد.

اقرأ/ي أيضًا:
"منيو" الفيسبوك العراقي
الأجندة السرية لاختبارات الفيسبوك