05-ديسمبر-2016

معاناة المصريين في شراء السكر (Getty)

رغم أني لست متخصصًا في اقتصاديات الإدارة ولست خبيرًا اقتصاديًا، إلا أنني لست غبيًا حتى أفهم أن أغلب الأزمات التي نزلت وستنزل بنا هي صناعة حكومية بامتياز، طبخة مُعَدّة سلفًا من أصحاب خيال لا ينظر لما هو أبعد مما تحت قدميه (وستشهد الأيام القادمة على ذلك). فلم يعد خافيًا على أحد من المصريين خطة الحكومة في التخلص تمامًا ونهائيًا من فاتورة الدعم، الذي تراه مبالغًا فيه وفضفاضًا للغاية ويستغله عدد كبير من أبناء الطبقة المتوسطة.

 وفي حين لا تستطيع الحكومة المجاهرة برغبتها في شفط ما في جيوب المواطنين غصبًا واقتدارًا؛ تلجأ إلى إحداث أزمة في السلع المدعومة ورعاية تلك الأزمة حتى يتعوّد الناس على الحصول عليها بأسعار جديدة مبالغ فيها، طبقًا لمزاج السوق السوداء.

لم يعد خافيًا على أحد من المصريين خطة الحكومة في التخلص تمامًا ونهائيًا من فاتورة الدعم، الذي تراه مبالغًا فيه وفضفاضًا

على هذا المنوال، تسير خطة رفع الأسعار مع تأكيد المسؤولين، كل في موقعه، على أن نفض الدولة يدها من ملف الدعم لا علاقة له باشتراطات الحصول على قرض صندوق النقد الدولي.

اقرأ/ي أيضًا: خصخصة المرافق العامة في مصر.. طحن ما تبقى

 لن يأخذ المرء وقتًا طويلًا في البحث حتى تقع تحت يديه حفنة من التصريحات الصحفية والإعلامية لخبراء محسوبين على الدولة ومسؤولين رسميين يخبرونه بأن "الدعم يمثّل عبئًا كبيرًا على الدولة"، قبل أن يستكملوا الحديث عن "ضرورة تحديث بيانات مستحقي الدعم بعد تحرير سعر الصرف"، من دون أن ينسوا إنهاء حديثهم بالتأكيد على أن "هذه الإجراءات تهدف بالأساس إلى ضمان وصول الدعم إلى مستحقيه".

أرقام كثيرة يسمعها ويقرأها المواطن المصري تخبره بحقيقة واحدة: الدعم يلتهم موازنة الدولة. ومن أجل تخفيف ذلك "العبء" الذي تتحمله الموازنة لا تجد الحكومة أمامها سوى رفع الأسعار، أسعار كل شيء.

على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى "أزمة السكر" التي لا تزال تضرب الأسواق المصرية، ولا يزال الحصول على كيلو سكر بمثابة مغامرة بالنسبة لكثيرين. ما الذي حدث في تلك الأزمة المصطنعة؟ ببساطة، الحكومة المصرية قامت بـ"تعطيش" السوق من توريدات السكر، وفي الوقت ذاته انخفضت قيمة الجنية مقابل الدولار، وهو ما ساهم في توقف عمليات استيراد السكر. وبعد استفحال أزمة غيابه واختفائه قسريًا وتأكد الحكومة من جاهزية المواطنين لدفع أي سعر مقابل الحصول على كيلو سكر واحد، تنفرج الأزمة قليلًا ويظهر السكر في الأسواق من جديد ولكن بسعر أعلى. حينها من المفترض أن يحمد الناس ربّهم ويشكرون حكومتهم على ذلك!

أرقام كثيرة يسمعها ويقرأها المواطن المصري تخبره بحقيقة واحدة: الدعم يلتهم موازنة الدولة

المشكلة نفسها تتكرر بتنويعات مختلفة في"أزمات" أخرى، ليس آخرها أزمة الدولار. في الحقيقة، كمواطن مصري عادي لا أستطيع ابتلاع الفكرة القائلة بأن الحكومة المصرية الذكية الرشيدة العاقلة تركت الدولار يقفز ويشطح أمام عينيها من دون أن تملك القدرة على كبح جماح ذلك الصعود المريب والغريب لقيمته (أو بالأحرى ذلك الهبوط المزري لقيمة الجنيه).

لم تحاول الحكومة التعامل بشكل صحيح مع الأزمة المستجدة، بل على العكس عملت على زيادة المشكلة، باستمرارها في تثبيت سعر الصرف أكثر من مرة، حتى وصلنا إلى مرحلة "الشرخ الكبير" بين سعر الدولار الرسمي/الحكومي وسعره السوقي (بعد المضاربات واستغلال تجار العملة لحاجة العملاء للدولار). ثم تأتي الحكومة إياها بعد تأكدها من أن "الناس خلاص جابت آخرها" وأصبحوا مهيّئين نفسيًا واقتصاديًا لتخطي الدولار حاجز العشرين جنيهًا، لتخرج في ليل الخميس أيضًا وتعلن "تعويم الجنيه"، ليصبح الدولار بعدها يلعب في منطقة سعرية تتراوح بين 14 و18 جنيهًا. حينها من المفترض أيضًا أن يحمد الناس ربّهم ويشكرون حكومتهم على ذلك!

اقرأ/ي أيضًا: مصر..قروض كبيرة وبرلمان غائب وأزمة دستورية

لذا لا يجد الاستغراب محلًا له حين صدر قرار جمهوري مساء الخميس الماضي، كعادة النظام في اختيار توقيت القرارات الاقتصادية الصعبة، بزيادة التعرفة الجمركية على قائمة هائلة من السلع، التي أشارت إليها الصحف الحكومية بـ "الاستفزازية.

يريد النظام معاقبة المصريين لأنهم يملكون أموالًا ويرفضون إيداعها في مشروعاته التي ستجعل مصر "قد الدنيا"

هذا فصل جديد من مسلسل إشغال المواطنين بالأزمة تلو الأخرى، لأن النظام يدرك أنهم سيلتهون في تبعات القرار الجديد بدلًا من استكمال الأسئلة حول القرارات القديمة. ولسبب في نفس النظام، لديه قناعة تامة بأن أغلب المصريين يمتلكون أموالًا "قد كده" على قلبهم، لا يتأخرون في دفعها في عقارات وسيارت وسلع، ولكنهم يبخلون على الدولة بالجنيه وبـ"الفكّة".

يريد النظام معاقبة المصريين لأنهم يملكون أموالًا (رغم أن نسبة هؤلاء ليست كبيرة على أية حال) يرفضون إيداعها في مشروعاته التي ستجعل مصر "قد الدنيا"، بينما يرى أنهم يستحلّون موارد الدولة (الدولة التي يحتكر النظام تمثيلها وحده) والدعم الذي تقدمه في سلع وخدمات يستفيدون منها. لذا لن يكون مستغربًا مع توالي الضرائب الغاشمة على رؤوس المصريين واستقبال تلك القرارات بالصمت، أن نستيقظ في يومٍ -يبدو قريبًا للغاية- تخبرنا فيه الحكومة بأنها قرّرت إلغاء الدعم "حفاظًا على مصلحة محدودي الدخل"!

اقرأ/ي أيضًا:
ماذا بعد تعويم الجنيه؟.. إجراءات و"ثورة"؟
لماذا لن يحل تعويم الجنيه الأزمة في مصر؟