08-أغسطس-2019

فادي يازجي/ سوريا

مائدة الوقت. ترّهات كثيرة تنذر نفسها للحقيقة، ويقين يجرّ أثوابه البالية نحو تلك الطاولة المستديرة البائسة، أشياء كثيرة تقال حول زواياها المنكسرة، كل واحد منهم يطلق حبائل الساعات، لتنطلق نحو ألسنة الأمواج التي ابتلعتهم ذات نهار حزين، حين غادروا أرض سوريا، ميممين شطر بحر تركي أضاع هويتهم، وأضاعهم معهم، في تفاصيل حرب دائرة، أكلت وجوههم المعفّرة بالتراب، ورائحة العرق والدم..

وجوههم الفاقدة ملامحها مثلهم، تستجدي خيوط ذاكرة متعبة، وترسم خلفها ظلالًا كثيرة، غدت أشباحًا تلامس شفاه الوقت لتمضي مسرعة في رحلة مجنونة.

الشمس مركبهم، والعيون مصابيح تشعل قناديل الليل ليضيء البحر، وتتمكن القافلة من عبور المسافات التي شاخت من شرب نبيذ الأجساد التي حملت علامات الدهشة، وسطا الموت عليها في وداع مسكون بدموع الأطفال، وقصائد لابسة ثوب قدر أحمق، أحكم رتاجات الأبواب، وغدا الطريق هامسًا يدندن أناشيده، ويترك على الساحل أصداءه المتشحة بثوب المساء.

أطلقوا كلماتهم لتهرول معهم نحو بالون ببطن منتفخ، ولسان مقطوع، لحظة السير الأبدي، ليتخذوا من الغرب قبلةً لهم في حنين طفولي، مزاحم أحلام الشرق التعس، ويشعل أشواق الغد التي لن تنطفئ، ويمضي بهم منفاخهم الى حيث الحتف الأخير، لتكون النهاية منمنمة بريش الغد، وتكهّنات الفرّيسين.

صرخات تعالت، أخنقها الماء، نداءات بخواتيم مستعجلة، أياد ترتفع لتشكل مع الموج سارية تلامس أكفّ السماء، فيجرّها البحر بلعنته البلهاء، أمهات... أطفال... رجال، عبروا المنظر بأرواحهم التي توسّدت بعد تلك اللحظات قاع البحر.

وحدهم من بقوا، وحدهم من نجوا من سفينة الغياب، وخلدوا إلى نوم عميق، ليجدوا أنفسهم حول طاولة مستديرة، في غربة نهشت أرواحهم، فيعيدوا إلى الذاكرة ماضيها المنسي، ويلقوا حبال الساعات مخلّدين الحادثة بترّهات لا تنتهي، عن ذاكرة صارت حطامًا، عندما أدارت للشرق السوري ظهرها، لتعبد الغرب في صلاة لا خشوع فيها، وأرض تشبع من أجسادهم الغارقة في الدمار، لتحولها إلى كتل هلامية، تبحث عن ظلالها مع كلّ دفقة ريح تبرق نحو مدنهم الخاوية على عروشها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كأنّي عطر لزهرة الوقت

نبوءة حنا