حضور باهت وتهميش إجباري.. المعارضة المصرية إلى أين؟
21 يوليو 2025
تلعب المعارضة دورًا أساسيًا في أي نظام ديمقراطي من خلال مراقبة أداء الحكومة وتمثيل مصالح المواطنين. فهي تساهم في ضمان التوازن بين السلطات، والدفاع عن الحقوق المدنية والحريات العامة، وتعد طرفًا فاعلًا في حماية العدالة السياسية والاجتماعية.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية المصرية تتجه أنظار المواطن، لاسيما متوسطي ومحدودي الدخل، صوب المعارضة وفرصها العملية في تحقيق نتائج إيجابية في هذا الماراثون حتى لو اعتبره البعض محسوم النتائج قبل أن ينطلق، فهي الأمل الذي يراهن عليه الكثيرون في منع انفراد السلطة واسترداد ولو جزء بسيط من الحقوق المسلوبة على مدار عقود طويلة.
مرت المعارضة في مصر بتحولات كبيرة عبر العقود، تراوحت بين فترات من الحضور السياسي القوي وأخرى من التراجع والتهميش. وفي السنوات الأخيرة، وصلت إلى واحدة من أضعف مراحلها، بعدما تراجعت قدرتها على التأثير، وتآكل حضورها في المشهد العام. فقد خضعت بعض أطرافها لسياسات الاحتواء أو التدجين، واكتفى بعضها بدور شكلي لا يتجاوز سقف السلطة، ما جعلها عاجزة عن لعب دور فاعل في الحياة السياسية أو تمثيل مطالب الشارع.
مرت المعارضة في مصر بتحولات كبيرة عبر العقود، تراوحت بين فترات من الحضور السياسي القوي وأخرى من التراجع والتهميش. وفي السنوات الأخيرة، وصلت إلى واحدة من أضعف مراحلها
تمثيل باهت
بدأت استعدادات الأحزاب المصرية لانتخابات مجلس الشيوخ المزمع إجرائها يومي 1 و 2 آب/أغسطس المقبل بالنسبة للمصريين المقيمين بالخارج، بينما تُجرى في الداخل يومي 4 و5 من الشهر ذاته، فيما تُعلَن النتائج الرسمية في 12 من الشهر، على أن تُعلَن النتائج النهائية، بعد تقديم الطعون والبت فيها، وتُنشر في الجريدة الرسمية يوم 4 أيلول/سبتمبر المقبل.
وبعيدًا عن جدوى تلك الانتخابات وما يثار بشأن قيمة وأهمية مجلس الشيوخ في الحياة السياسية، إلا أنه لم يترشح لخوضها سوى قائمة واحدة فقط تضم 12 حزبًا، تسيطر أحزاب السلطة فيها على نحو 83 مقعدًا من إجمالي 100 مقعد يتم التنافس عليها ( هناك 100 مقعد أخر يتم تعيينهم عن طريق رئيس الجمهورية و100 أخرين يختارون بالتصويت بالنظام الفردي).
وهناك خمسة أحزاب محسوبة بشكل رسمي على السلطة تتصدر تلك القائمة هي: مستقبل وطن، حماة الوطن، الجبهة الوطنية، الشعب الجمهوري، المؤتمر، وثلاثة من الداعمين للنظام، الوفد، الحرية وإرادة جيل، فيما هناك 4 أخرين تُصنف كمعارضة مستأنسة وهي: المصري الديمقراطي، الإصلاح والتنمية، العدل والتجمع، بالإضافة إلى كيان "تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين" غير الحزبي والمحسوب هو الأخر على النظام.
أما الأحزاب المحسوبة على المعارضة فارتضت وبالتنسيق مع أحزاب السلطة الاكتفاء بـ 17 مقعدًا فقط، حيث حصل حزب "المصري الديمقراطي الاجتماعي" على 5 مقاعد ضمن القائمة، بينما كان نصيب كل من حزب "الإصلاح والتنمية" الذي يترأسه محمد أنور السادات نجل شقيق الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وحزب "العدل" أربعة مقاعد لكل منهما، ثم حزب "التجمع" اليساري الذي اكتفى بمقعدين فقط، وهو ذات النصيب الذي حصل عليه حزب الوفد ذو التاريخ العريق، الأمر الذي أثار الكثير من الجدل، داخل الحزب وخارجه.
تهميش المعارضة في تلك الانتخابات، وتقليص فرصها في المقاعد التي تم توزيعها عبر أحزاب السلطة، كشف عن الحجم الفعلي لهذا التيار داخل المشهد السياسي. فقد بدا واضحًا أنه تحول إلى طرف تابع، محدود التأثير، ومنفصل عن الشارع. وبدون الحصة الرمزية التي مُنحت له عبر القوائم المرتبة مسبقًا، لما تمكن من دخول البرلمان. هكذا تواصل المعارضة المصرية تراجعها، بعد أن كانت في فترات سابقة حاضرة بقوة، ومعبّرة عن نبض الشارع وصاحبة تأثير ملموس في الحياة السياسية.
خارطة المعارضة
يٌعد النظام السياسي المصري أحد أقدم الأنظمة في المنطقة، وتشكل المعارضة ضلعًا أساسيًا فيه على مر التاريخ، بل كانت في وقت من الأوقات ذات نفوذ وتأثير في الشارع يفوق الحكومة وممثليها بمسافات كبيرة، غير أنه ومع استراتيجيات التدجين والاستقطاب سقطت الكثير من أحزاب هذا التيار في تلك الفخاخ لتفقد بريقها عامًا تلو الأخر.
ومن الكيانات القديمة ذات التاريخ السياسي الطويل، والأحزاب حديثة النشأة التي وٌلدت بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011، دٌشنت خارطة المعارضة المصرية التي تتسم بالتنوع العددي فيما لم تتجاوز ما هو مرسوم من خطوط ومسافات تحدد قدراتها وإمكانياتها ومن ثم تحركاتها ونشاطها، ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
الأول: الأحزاب المعارضة الحقيقية، وإن كانت بفاعلية محدودة، مثل حزب "الكرامة"، ذو التوجه الناصري، وحزب "التحالف الشعبي الاشتراكي" الذي يتقاطع مع الحكومة في كثير من الملفات خاصة الحريات وحقوق الإنسان، بجانب الحزب الليبرالي "المصري الديمقراطي الاجتماعي، وحزب "الدستور" الذي أسسه محمد البرادعي، والحزب الاشتراكي تحت التأسيس "العيش والحرية".
وهناك كيانات محسوبة على المعارضة لكنها تمارس نشاطها من خارج مصر وبصفة غير قانونية، مثل "التحالف الوطني لدعم الشرعية" والذي يضم جماعة الإخوان المسلمين، المصنفة كجماعة إرهابية في مصر، بجانب بعض المنصات الإعلامية التي تقوم بالدور ذاته في الخارج.
الثاني: الأحزاب المدجنة، وهي الأحزاب التي تنتمي اسمًا لتيار المعارضة لكنها أقرب للتماهي مع السلطة والانصياع لها، وعلى رأسها حزب "الوفد" أقدم الأحزاب المصرية وأكثرها تأثيرًا في محطات تاريخية سابقة، كذلك حزب "التجمع الوطني التقدمي الوحدوي"، الذي رغم تاريخه اليساري لكنه في العقود الأخيرة انبطح بشكل مثير للجدل أمام السلطة منذ عهد مبارك وحتى اليوم.
انحدار وغياب.. ما الأسباب؟
تواجه المعارضة المصرية قائمة مطولة من التحديات والعراقيل التي قادتها في النهاية إلى هذا المستوى المنحدر من التواجد في المشهد السياسي، والتي دفعتها لأن تكتفي بالمشاهدة من مقاعد المتفرجين دون أن يكون لها دورًا في الملعب الداخلي، على رأسها البيئة القانونية غير الملائمة.
حيث فرضت السلطة العديد من القوانين التي قيدت الحراك السياسي لكافة الكيانات الحزبية والاعتبارية، وأبعدتها نسبيًا عن الساحة، أبرزها قانون التظاهر، ومكافحة الإرهاب، وتعديلات قوانين الجمعيات الأهلية، ما أدى إلى فرض قيد حاد على الفعاليات السياسية والجماهيرية، وهي القوانين التي عززت من قبضة الدولة على الأجواء السياسية وأضعفت بالتبعية قدرة أي معارضة على العمل بحرية.
كما أن سيطرة السلطة على الإعلام بشتى أنواعه، واستقطابها للسواد الأعظم منه، وتوظيفها له في خدمة مصالحها دون غيرها، أغلق الباب تمامًا أمام المعارضة في التواصل مع الجمهور، خاصة بعد القيود المفروضة على النشاط الشعبي الميداني، هذا بخلاف حملات الشيطنة التي تتبناها تلك الوسائل بين الحين والأخر إذا ما غرد أيًا من المنتسبين للمعارضة عن السرب وتجاوز الخطوط الحمراء.
وفي المقابل لا يمكن إعفاء المعارضة من المسؤولية إزاء ما وصلت إليه من تراجع وتهميش، فالانقسامات التي تعاني منها وغياب الكوادر والنظرة الأنوية البرغماتية التي سيطرت على بعض قادتها، كما افتقاد المشروع الوطني وغياب الرؤية المستقبلية، ساعد في اتساع الشروخ في جدرانها حتى باتت أوهن من بيت العنكبوت وأصبحت هشة في مواجهة أي معارك مع الحكومة وهي المعارك المحسومة سلفًا لصالح السلطة في ظل فارق القدرات والإمكانيات الهائل التي ساعدت المعارضة في اتساعه.
ونتيجة منطقية لهذا المشهد وما أفرزه من مناخ عام مٌحبط، عزف الشارع عن المشاركة السياسية وتراجع اهتمامه بالشأن العام، مما منح الأحزاب السلطوية الأريحية الكاملة في تنفيذ أجنداتها وتحقيق أهدافها، فيما وقفت المعارضة -التي كان يفترض أن تعول على الشارع- في موقف المتفرج، في انتظار ما يٌلقي إليها من فٌتات للانخراط في الصورة من باب إكمال الديكور السياسي لا أكثر.
محطات تاريخية
مرت المعارضة المصرية عبر تاريخها بالعديد من المحطات التي ساهمت بشكل أو بأخر في تكوينها وتموضعها على الخارطة السياسية، يتوقف ذلك على طبيعة النظام الحاكم والسلطة المهيمنة على المشهد ومدى تقبلها لفكرة المعارضة والسقف المحدد لها، هذا بخلاف الظرفية السياسية والزمنية التي لعبت دورًا محوريًا في تشكيل هوية المعارضة.
العهد الملكي
اتسمت المعارضة المصرية خلال العهد الملكي (1922 – 1952) بالتواجد الفعال على الساحة، وتصدر المشهد حينها حزب "الوفد"، الذي لعب دورًا مهمًا في مقاومة الاستعمار البريطاني، وقاد الشارع المصري حينها نحو الاستقلال، هذا بجانب كيانات حزبية أخرى مثل الحزب السعدي والحزب الوطني والذي كانا لهما دورهما في تأجيج روح الثورة رغم القيود التي فرضها القصر والاحتلال البريطاني.
عهد عبد الناصر
مع دخول الحقبة الناصرية عقب ثورة 1952 دخلت الدولة المصرية مرحلة جديدة من الحكم الشمولي، حيث حُلت الأحزاب في العام التالي للثورة مباشرة، فيما أٌسس كيان واحد فقط هو الاتحاد الاشتراكي العربي، لتصبح المعارضة لا وجود لها، مقتصرة على بعض الأصوات الفردية في الداخل والخارج والتي لم يكن لها حضورها المؤثر في الشارع.
عهدي السادات ومبارك
بعد رحيل عبدالناصر شرع أنور السادات في تدشين مرحلة جديدة من التعددية الحزبية، حيث سمح بتشكيل الأحزاب مرة أخرى عام 1976، لكن في إطار محدود وعبر خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، فيما مٌنح الحزب الوطني الأريحية الكاملة في الهيمنة على المشهد بعدما بات الحزب الحاكم الممثل للسلطة.
الأمر ذاته استمر في عهد حسني مبارك، حيث هيمنة الحزب الواحد مع منح هامش ضئيل من المعارضة من خلال ترك بعض الأحزاب الأخرى للعمل في أضيق الحدود، مٌقيدة بسلاسل التضييق والتهميش والحصار، وتجفيف منابع التمويل، مثل العربي الناصر والتجمع والوفد الجديد، والتي تعرضت لمحاولات استقطاب وتدجين من السلطة.
شكلت ثورة يناير نقطة تحول فارقة في المشهد السياسي المصري، حيث أعادت تشكيل وهندسة الساحة بعدما فتحت المجال لتشكيل أحزاب جديدة، لتتنوع ولأول مرة خارطة المعارضة ما بين إسلاميين، ليبراليين، ويساريين
في تلك الأثناء برزت جماعة الإخوان ككيان معارض وإن كان خارج الإطار القانوني، حيث استطاعت بما لديها من استراتيجيات تعزف على أوتار الدين والعمل الخيري أن تحظى بتعاطف ودعم أكبر قدر ممكن من متوسطي ومحدودي الدخل، ليتفوق حضورها على الكثير من الأحزاب السياسية، ولتحتل المرتبة الثانية في خارطة السياسة بعد الحزب الوطني.
بعد ثورة كانون الثاني/ يناير 2011
شكلت ثورة يناير نقطة تحول فارقة في المشهد السياسي المصري، حيث أعادت تشكيل وهندسة الساحة بعدما فتحت المجال لتشكيل أحزاب جديدة، لتتنوع ولأول مرة خارطة المعارضة ما بين إسلاميين، ليبراليين، ويساريين، حيث خرج للنور العديد من الكيانات الحزبية الجديدة التي ارتدت ثوب المعارضة منها حزب المصريين الأحرار، والدستور، والتيار الشعبي، والحرية والعدالة (الذراع السياسي للإخوان)
وما أن تولى الإخوان الحكم في عام 2012 حتى شهدت الساحة انقسامات حادة بين أحزاب المعارضة، وصولًا إلى الاحتجاجات التي شهدتها الدولة في حزيران/يونيو 2013 والتي قادت إلى إسقاط حكم الجماعة بعد عام واحد فقط من السلطة، لتدخل المعارضة مرحلة جديدة يغيب فيها الإسلاميون، أبرز الحضور قديمًا، بشكل لافت، خاصة بعد تصنيف الإخوان كتنظيم إرهابي، فيما خرج السلفيون ممثلين في حزب النور عن المسرح تمامًا في ظل تراجع شعبيتهم وفقدان ثقة الشارع فيهم.
وعامًا تلو الأخر بدأت المعارضة تفقد بريقها شيئًا فشيئَا، ويٌسحب البساط من تحت أقدامها خطوة بخطوة، حتى وصلت إلى هذه المرحلة التي عليها الآن، غياب شبه تام، وحضور منعدم، والاكتفاء بالتمثيل المشرف، فيما لم يتبقى منها سوى بعض الأصوات في الخارج، كيانات وأفراد، ذو تأثير شبه منعدم في الداخل المصري، مٌصنف معظمهم كإرهابيين وملاحقين أمنيًا وقضائيًا.
أما من تبقى من معارضة الداخل فاكتفت بالقيام بدورها السياسي الرمزي، بعيدًا عن التأثير الفعلي الميداني في الشارع، مثل حزب الكرامة، والحركة المدنية الديمقراطية، وحزب الدستور، ورغم أنها تناور بين الحين والأخر لكن ما تعاني منه من هشاشة داخلية فضلا عن القيود الملجمة لها خارجيًا، قلل من حضورها وأفقدها تأثيرها المنشود، خاصة بعدما دخلت معظم الكيانات السياسية المعارضة حظيرة التدجين بقوة الأمر الواقع.
مأزق كبير تعاني منه المعارضة المصرية هذه الفترة، مرحلة حساسة وشديدة الصعوبة، ما بين مطرقة الهشاشة والانقسام الداخلي وسندان القيود المفروضة عليها سلطويًا والافتقار للحريات السياسية، اختبار مصيري تواجهه الدولة بكامل أطيافها وتياراتها، يستلزم إعادة حضور المعارضة مجددًا من خلال بيئة قانونية وتشريعية وأمنية وحقوقية مؤهلة، إيمانًا بأن التوازن بين السلطة والمعارضة هو الضامن الأهم لأي استقرار طويل الأمد، وهو ما تحتاجه مصر بشدة في هذه المرحلة التاريخية حيث التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي تواجهها وتدفعها نحو إعادة النظر في المشهد بأكمله.