14-يونيو-2019

تسعى بروكسل إلى وقف اختراق اليمين المتطرف للقارة (Getty)

من المتغيرات الأبرز التي شهدها الاتحاد الأوروبي، بعد محطته الانتخابية الأخيرة، اختراق اليمين الشعبوي سدته. هذه المرة بقوة أكبر، وعزم أكثر على تنزيل سياساته المعادية للاتحاد من داخل هياكله. في مستجد كان متوقعًا إلى حد ما، ارتباطًا بما تفتقت عنه سنة أوروبا الأخيرة.

في وقت كان يحتفي فيه ماتيو سالفيني بانتصاره، أو بـ"المهمة التاريخية"، على حد تعبيره، التي كلفت بها رابطة الشمال والتي ستدفع أوروبا إلى التغيير، حذرت لجنة الاتحاد روما من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، و بارتدادات زيادة حجم مديونيتها

والحصيلة، كما رصدناها حصاد مهم لقوى اليمين الشعبوي تضمن سيطرة تامة في خمس دول؛ بولندا، المجر، إيطاليا، فرنسا وبريطانيا. في حصيلة مجتمعة للائتلافات اليمينية الثلاث بـ 155 مقعدًا، صحيح تفرقها اختلافات شاسعة، لكن يوحدها الاتحاد، في نموذجه الاقتصادي وقيمه المعلنة.

اقرأ/ي أيضًا: انتخابات البرلمان الأوروبي.. هل يهدم اليمين قصر بروكسل بأدوات بروكسل؟

في مستجد أخير، منحت بروكسل النائب البريطاني نايجل فاراج، زعيم حزب بريكسيت، مهلة لتفسير ملابسات تمويل مالي تلقاه سنة 2017 من بنك آرون، والذي لم يصرح به النائب المذكور في الجرد المفروض على النواب تقديمه مفتتح كل ولاية. إذ واجه  فاراج احتمال تجميد عضويته في البرلمان ، غير أنه ليس اليميني الوحيد الذي يعيش صدامًا مع هياكل الاتحاد، بل لم تكن إلا أيام عن الاقتراع الأوروبي حتى انفجرت قضايا مماثلة، قد تختلف في تفاصيلها، غير أنها تمثل حربًا ضروس قائمة بين هذه القوى المستجدة والاتحاد القاري، ما يجعل المراقب يطرح السؤال: هل فعّلت أوروبا دفاعاتها ضد اليمين المتطرف؟

من أين لك بالـ 450 ألف جنيه؟

سنة بعد استفتاء البريكسيت تلقى فاراج نايجل، الذي كان زعيم حزب UKip وقتها وبعد استقالته من ذات الحزب، دعمًا سخيًا من بنك آرون. احتوى التمويل شقة مفروشة في حي تشيلسي الراقي بالعاصمة لندن بقيمة 4.4 مليون جنيه إسترليني، ومكتب بقيمة 20 ألف جنيه للشهر، وسيارة لاند روفر بسائق خاص بقيمة 30 ألف جنيه. كل هذا إضافة إلى راتبه الشهري كنائب أوروبي الذي يعادل 90 ألف جنيه استرليني سنويًا. في وقت بقيت حوالة مالية أخرى بعيدة عن التفسير، بقيمة 450 ألف هي موضوع المساءلة التي تلحق النائب البريطاني.

اعتبرت لجنة البرلمان الأوروبي لمكافحة الاحتيال الأمر مدعاة للشكوك، هذا ما جعلها تطلق تحقيقًا في هذا الصدد، بعد أن كان أول من كشف هذه التقديرات القناة الرابعة الإنجليزية. فيما أوكلت مهمة تحقيق ما كشفته القناة المذكورة من أرقام إلى وكالة متخصصة فرنسية تدعى "أولاف".

في تصريح له لصحيفة الغارديان البريطانية، أقر الناطق الرسمي باسم أولاف أن "الوكالة واعية بأنها تتعامل مع قضية رأي عام، وكم الرهانات التي تحملها إعلاميًا. لكن من خلال الكشف الإعلامي كان عزمها أن تطلق تحقيقها فيها". وأضاف أن الوكالة تأخذ عادة شهرين لتحقيق تقديرات من هذا النوع، والإقرار إذا كانت نشاطات النائب الأوروبي تخرق قوانين الاتحاد، أو تتعلق بحالة فساد أو رشوة.

كما أورد مقال الغارديان تصريحات للناطق الرسمي باسم فريق نايجل فاراج، والذي استنكر اتهامات الاتحاد، واصفًا إياها بـ “الهجوم السياسي” و "الحملة الانتقامية" على النواب المتشككين في المشروع الأوروبي.

هذا ونفى نايجل فاراج بالقطع تلقيه تمويلًا خاصًا بأهداف سياسية، قائلًا "إنه كان من الأفضل لهذه اللجنة أن تكرس جهدها للتحقيق في قضايا إهدار المال العام من طرف نواب معروفين". واصفًا التحقيق معه بـ "السخيف"، صب فاراج انتقاده على هيئة الاتحاد، معتبرًا محاولة تجميد عضويته بالديكتاتورية.

إيطاليا تواجه عقوبات أوروبية

إيطاليا بلد آخر تصدَّر انتخاباته الأوروبية حزب يميني، حزب رابطة الشمال بـ 29 مقعدًا، إضافة إلى حزب آخر لا يقل تشكيكًا في الاتحاد حلَّ ثالثًا، وهو حركة النجوم الخمسة بـ 14 مقعدًا. الحزبان، وهما المكونان للتحالف الحاكم بالبلد، يواجهان خطر عقوبات أوروبية صارمة لإقرارهما مشروع ميزانية يخرق قوانين الاتحاد بالنسبة للدول المستدينة.

في وقت كان يحتفي فيه ماتيو سالفيني بانتصاره، أو بـ"المهمة التاريخية"، على حد تعبيره، التي كلفت بها رابطة الشمال والتي ستدفع أوروبا إلى التغيير، حذرت لجنة الاتحاد روما من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، و بارتدادات زيادة حجم مديونيتها. بعد أن تعدى سقف 2.6 تريليون يورو، والذي يشكل 132.2% من الناتج الداخلي الخام للبلد متخطيًا بمعدل 60% العتبة المحددة من الاتحاد. تحرك بروكسل الأخير يهدف إلى كبح السياسة الاقتصادية التي تنهجها الحكومة الإيطالية، والتي حسب اللجنة الأوروبية ستدخل البلد في مسار عسير، قد يضعها في عجز يفوق الثلاث مليارات يورو. هذا تزامنًا وإعلان اللجنة الأوروبية إسبانيا رسميًا خارج الأزمة المالية.

ردًا على ذلك وعد جيوفاني تريا، وزير الاقتصاد الإيطالي، بأن بلاده ستتخذ الإجراءات اللازمة لتخفيف أزمة المديونية، كما تأمل في التوصل إلى حل يرضي كلَّ الأطراف، وينأى بالبلاد عن غضبة اليورو المرتقبة. فيما خالفه وزير داخليته، سالفيني الذي قرأ في التحرك الأوروبي عقابًا لإيطاليا على تصويتها لصالح حزبه، وتعهد بعدم الانحناء للضغط قائلًا: "سأقول لبروكسل: دعونا نفعل ما يرديه منا الشعب الإيطالي أن نفعله: ضرائب أقل ووظائف أكثر. إن رفضوا ذلك، سنرى حينها من منا أكثر عنادًا؛ أنا أم هم!".

هل فعَّلت بروكسيل دفاعاتها ضد اليمين المتطرف؟

هكذا تجمع قوى اليمين الشعبوي على كون انفجار هذه القضايا في هذا الوقت بالذات ليس إلا مؤامرة لكسر جناحها داخل مجلس النواب الأوروبي، والقارة ككل. لكن هذا الخطاب قد يصدق، حيث يمكن القراءة في هذه الضغوط محاولة ترويض الوحش، مرورًا بقياس مدى صموده، وصلابة العناد الذي لا جواب إلاه عند هذه القوى في المرحلة الحالية.

اقرأ/ي أيضًا: حصاد انتخابات البرلمان الأوروبي: ماذا تغير على القارة العجوز؟

في وقت تعيش فيه بروكسيل وقع  ما أفرزته الانتخابات الأخيرة، والذي قد يوسم بالانخفاض الطفيف في تمثيلية الأحزاب اليمينية داخل المجلس، مقابل تكتل سيادتها في نقط مجالية تعد قلب القارة النابض؛ فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، بولندا والمجر، قد تبقى احتمالية الخطر وفعالية نبوءة لوبان عندما علقت على البريكسيت، قائلة: "التحرك نحو نهاية الاتحاد الأوروبي قد بدأ، ولن يتوقف حتى إكمال مهمته!". هكذا تعلن حرب باردة داخل ردهات الاتحاد، تخاض فيها معارك على جبهات عدة؛ منها معاداة الإسلام والمهاجرين. فيما يدافع الجانب الآخر، الوسط الليبرالي المتسيد، عن هذه القيم التي يعتبرها وجودية للتكتل القاري. وهذا لا يناقض واقع الحال، إذ إن موضوعات عداء اليمين المتطرف نواة النموذج الاقتصادي الذي يؤسس له الاتحاد، كما يتفسر ذلك في قبول ألمانيا أسراب اللاجئين كقوة منتجة قليلة التكلفة، ويفسره كذلك نهم ماكرون على أموال الخليج الاستثمارية.

في مستجد أخير، منحت بروكسل النائب البريطاني نايجل فاراج، زعيم حزب بريكسيت، مهلة لتفسير ملابسات تمويل مالي تلقاه سنة 2017 من بنك آرون، والذي لم يصرح به النائب المذكور في الجرد المفروض على النواب 

كما أن حالة الحرب هذه متوقعة، حيث تورد تقارير سابقة للاقتراع الشتات الذي كان يعرفه الرأي العام الأوروبي، لدرجة كان فيها التصور لأوروبا التي سيؤول إليها السباق الانتخابي ضبابيًا. هكذا تكتمل معالم لعبة شد وجذب الحبل التي يعيشها الاتحاد، بين تمركز مجالي (محلي/وطني) لقوى اليمين المتطرف، والتي تسعفها اللحظة التاريخية لتكريس تمركزها ذاك (احتجاجات الشارع الفرنسي، فشل التوصل إلى اتفاق بشأن البريكسيت، أزمة المديونية الإيطالية…). وبين تحالف رأس المال الأوروبي وقوى الوسط الليبرالي الذي يمتلك وسائل الضغط السياسية والبيروقراطية، يطبق سيادته على الهياكل القارية، ضاغطًا غرمائه في اللعبة كما تبرزه الأحداث المذكورة أعلاه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هواجس الانهيار ترسم خارطة الاتحاد الأوروبي المستقبلية

ما هو الجديد في الليبرالية الجديدة؟