31-ديسمبر-2022
gettyimages

بداية صعود اليسار الجديدة كانت في تشيلي ومن ثم كولومبيا حتى وصلت إلى البرازيل (Getty)

شهد العام 2022 صعودًا لليسار في أمريكا اللاتينية، فقد أدت نتائج الانتخابات الرئاسية إلى وصول عدد من قادته إلى الحكم من جديد، ليعلن عن انطلاق موجة ثانية من "المد الوردي" في القارة.

شهد العام 2022 صعودًا لليسار في أمريكا اللاتينية، فقد أدت نتائج الانتخابات الرئاسية إلى وصول عدد من قادته إلى الحكم من جديد

ففي بداية الألفية الحالية، شهدت القارة مدًا يساريًا عارمًا تمكن من الوصول إلى سدة الحكم. وانطلقت هذه الموجة مع انتخاب هوغو تشافيز رئيسًا في فنزويلا عام 1998، ومن ثم انتخاب لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في البرازيل عام 2002، ونستور كيرشنر في الأرجنتين عام 2003، وفوز إيفو موراليس عام 2005 في بوليفيا، وعودة دانيال أورتيغا إلى حكم نيكاراغوا، وفي 2008 وصل إلى حكم الأوروغواي خوسيه موجيكا المعروف باسم "بيبي"، وفي 2010 انتخبت ديلما روسيف نائبة لولا دا سيلفا رئيسةً للبرازيل، وفي عام 2013 خلف نيكولاس مادورو الرئيس هوغو تشافيز في المنصب بعد وفاته في فنزويلا. كانت تلك الفترة، انعطافًا جديدًا نحو اليسار في القارة، وأطلق عليها تعبير "المد الوردي".

تدريجيًا ومع السنوات، انحسرت الموجة اليسارية في القارة، وعاد اليمين إلى السلطة فيها، وظهرت شخصيات يمينية في الحكم مثل جابيير بولسونارو في البرازيل، وإيفان دوكي في كولومبيا، وماوريسيو ماكري بالأرجنتين، وسيباستيان بينيرا في تشيلي.

ومع بداية السنة الحالية، عاد "المد الوردي" مجددًا، مدعومًا بأفكار عن إعادة هيكلة اجتماعية عميقة، ترتكز على التضامن والحد من الفوارق الطبقية، والاهتمام بقضايا المناخ، والتوجه نحو الطاقة النظيفة.

اليسار يسقط الانقلاب بعد 50 عامًا

كانت أبرز معالم هذه الموجة وبدايتها، تولي غابرييل بوريك البالغ من العمر 36 عامًا، منصب الرئاسة في تشيلي، وجاء كأول زعيم يساري يحكم البلاد بعد نصف قرن من انقلاب عسكري بقيادة أوغستو بينوشيه مدعومًا من اليمين وأمريكا، ضد حكومة الرئيس سلفادور أليندي اليسارية.

getty

البلد الذي كان مهد انطلاق النيوليبرالية إلى العالم، أعاد رئيسًا يساريًا إلى الحكم من جديد، ومع  ذلك تعرض حكمه إلى انتكاسة مبكرة بعد رفض الناخبين محاولته لإقرار دستور جديد يتجاوز الدستور العسكري، واعتبرت تعديلاته "يسارية أكثر من اللازم" ما أضعف شعبيته، وأجبره على تقديم تنازلات، بما في ذلك تغيير بعض الشباب في حكومته بشخصيات مؤسسية أكثر خبرة.

كولومبيا.. من القتال إلى الرئاسة

كولومبيا، هي الأخرى لم تكن بعيدةً عن هذه الموجة، والتي حسمت لصالح اليسار بفارق بسيط، بعد انتخاب غوستافو بيترو في حزيران/ يونيو الماضي، وهو مقاتل سابق بحركة "إم-19" اليسارية، والتي خاضت نزاعًا مسلحًا ضد الحكومة الكولومبية.

getty

وتعهد بيترو، فور توليه منصبه بوقف حرب المخدرات، ومعالجة عدم المساواة من خلال إصلاحات نظام الضرائب والأراضي، لكن ذلك عزز من المخاوف لدى المستثمرين، خاصةً  في مجال التنقيب عن النفط والغاز.

لولا يعود

أمّا الرئيس البرازيلي المنتخب لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، والذي تغلب بفارق ضئيل على منافسه الرئيس المنتهية ولايته جاير بولسونارو في تشرين الثاني/ أكتوبر الماضي، فقد كان أول رئيس يتخلى عن الرئاسة عام 2011، بسبب مشاكل صحية، ومع ذلك فإن فضائح الفساد، وسوء الإدارة الاقتصادية في عهد خليفته ديلما روسيف لاحقت إرثه، خاصةً مع تولي اليمين الحكم وعزل روسيف، والتي انتهت بالحكم عليه بالسجن عام 2017 بتهم الفساد، ليخرج بعد عام ونصف بسبب إسقاط القضاء تلك التهم التي لاحقته، وغداة خروجه، توجه لولا إلى مقر نقابة عمال الحديد في ساو باولو التي ترأسها سابقًا، من أجل اللقاء في أنصاره.

getty

يعود لولا رئيسًا من جديد، في بلدٍ يشهد أكبر استقطاب سياسي في تاريخه، وما زال أنصار بولسونارو يرفضون التسليم بهزيمة زعيمهم، ويطالبون الجيش بالتدخل لإسقاط لولا، ومن المستبعد أن تكون ولاية لولا الحالية شبيهةً في فترته الأولى التي حصل فيها على شعبية جارفة، وقد تكون متوترةً بشكلٍ كبير.

الانعطاف يسارًا

العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى المناخية، ساهمت بالميل نحو اليسار في أمريكا اللاتينية من جديد، وبذلك أصبحت دول البرازيل والمكسيك وكولومبيا وتشيلي وهندوراس والبرازيل والأرجنتين تحكمها حكومات يسارية، بالإضافة إلى البيرو قبل شهر، إلى جانب الدول التاريخية التي يحكمها اليسار وهي كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا.

ساهم هذا الفوز، في  إعادة "تشكيل الدبلوماسية الإقليمية"، وأصبحت المقاربة السائدة هي استعادة العلاقات الودية مع هذه الدولة، فيما أصبحت إمكانية تأثير الولايات المتحدة الأمريكية على هذه العلاقات أضعف. ورغم أن  الرئيس التشيلي غابرييل بوريك  تحدث عن انتهاكات لحقوق الإنسان في عهد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، إلّا أن الرئيس الكولومبي بترو والبرازيلي لولا أظهروا حرصًا على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع كاراكاس.

getty

وتجلى التعاطف الأيديولوجي في المنطقة بشكلٍ واضح خلال الشهر الحالي عندما حاول الرئيس اليساري للبيرو بيدرو كاستيلو حلّ الكونجرس، قبل أن يتم عزله من منصبه من قبل البرلمان. فقد أدانت حكومات المكسيك وكولومبيا والأرجنتين وبوليفيا وهندوراس وتشيلي الإطاحة في بيدرو كاستيلو، بدرجات متفاوتة ما بين الدعوة للعودة إلى الحوار أو وصف الخطوة بالانقلاب، إلّا أن الرئيس البرازيلي القادم اعترف بأن الإطاحة بكاستيلو "دستورية"، لكنه لم يدين محاولته حل الهيئات التشريعية.

وما يميز "المد الوردي" الجديد في القارة صبغته "الخضراء"، حيث تبنت الحركات التقدمية الكفاح ضد التغير المناخي، في حين أن القادة اليساريين من الحرس القديم مثل الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور لا يزال يتحدى مبادرات الطاقة النظيفة، ويظهر نيته استمرار استخدام "الوقود الأحفوري"، فإن العديد من أقرانه من قادة اليسار يتبنون التوجه نحو الطاقة المتجددة والحفاظ عليها.

ففي البرازيل، دعا كبير مستشاري لولا للسياسة الخارجية، أن يقوم الرئيس البرازيلي بالدعوة إلى عقد قمة لدول غابات الأمازون في النصف الأول من عام 2023، إلى جانب الدول التقدمية المهتمة بالحفاظ عليها.

ومع ذلك، فإن موجة "المد الوردي" الثانية، ليست بعيدةً عن الاهتزازات والانكسارات، نظرًا للتوتر السياسي الكبير في البرازيل، أو عزل الرئيس البيروفي كاستيلو، الذي أطيح به بعد حوالي عام ونصف من انتخابه، كما أن الرئيس الأرجنتيني ألبرتو فرنانديز، لا يعيش في أكثر أيامه شعبيةً، ونسبة تأييده لم تتجاوز 20% قبل الانتخابات المقررة في تشرين ثاني/ أكتوبر من العام المقبل. 

يواجه قادة اليسار تحديات كبيرة في أمريكا اللاتينية، خاصةً في ظل ظروف اقتصادية خانقة إجمالًا

يواجه قادة اليسار تحديات كبيرة في أمريكا اللاتينية، خاصةً في ظل ظروف اقتصادية خانقة إجمالًا، ونظرًا لأن جزءًا مما أوصلهم للحكم يعود إلى فشل سابقيهم اقتصاديًا وليست القناعات الأيديولوجية حصرًا. مما يذكر باستمرار أن "المد الوردي" والذي يسعى لإنقاذ القارة، اقتصاديًا وطبيعيًا، ما يزال مهددًا بالانحسار سواء شعبيًا أو بالانقلابات طوال الوقت.