12-سبتمبر-2021

مجموعة "مشاهدٌ يتلوها البدوي" (ألترا صوت)

"مشاهدٌ يتلوها البدوي" (دار موزاييك، 2021)، هو عنوان المجموعة الشعرية الثانية للشاعر السوري حسين الضاهر. وفي العنوان ما يلفت الانتباه. هذا بالضبط ما سيدركه القارئ بعد انتهائه من قراءة قصائد المجموعة، التي لا تبدو "مشاهد" بالمعنى الذي تحيل إليه هذه المفردة، بقدر ما هي تفاصيل صغيرة يتداخل فيها المرئي والمتخيل ضمن مساحة ضيقة، قد لا تتجاوز حدود غرفة صغيرة بل وحتى ذاكرة.

البدوي في مجموعة الضاهر ليس البدوي الذي في مخيلتنا، بل بدويٌ آخر أعادت الحرب وما ترتب عليها من فظائع، صياغته

يضعنا العنوان الذي اختاره حسين الضاهر لمجموعته، عند الانتهاء من قراءتها، إزاء مفارقة تتمثل في أن ما يرويه البدوي، أو ما اعتاد على روايته، يتعلق، وفقًا لما هو دارج، بما شاهده خلال أسفاره، وخَبِرهُ في مغامراته ومغامرات أسلافه من قبله، وكل ما هو قابلٌ لأن يصير حكايةً تُروى، على عكس البدوي الذي نتعرف إليه في قصائد المجموعة منهمكًا في الحديث عما يحدث في داخله فقط.

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: يوميات المقاومة في اليونان

البدوي في مجموعة الضاهر ليس البدوي الذي في مخيلتنا، بل بدويٌ آخر أعادت الحرب وما ترتب عليها من فظائع، صياغته بالشكل الذي يظهر عليه داخل المجموعة. لذا، بوسعنا القول هنا إن قصائد الشاعر السوري الشاب عبارة عن محاولاتٍ في تقديم "بورتريه"، إن صح القول، لهذا البدوي الذي صاغته الحرب. أو، بجملةٍ أخرى، لمشاعره وأحلامه وهواجسه وطُرقه في الحب والعيش وتصريف الوقت الفائض في الغربة. وما ينطبق على البدوي هنا، ينطبق بدوره على آخرين كُثر يشاركونه العيش في هذه اللحظة الموغلة في الحزن والفوضى والشتات.

يبدأ حسين الضاهر مجموعته بنصٍ أقرب إلى تنويهٍ يقول في ختامه: "أكتب لأصنع كدماتٍ في وجه الفراغ". والفراغ هنا ليس سوى المكان الذي يعيش فيه، ويصف أحواله من داخله، حيث يقول: "أنا كائنٌ ضعيف وحزين/ أمي تعلم بالأمر/ وتتبرأ منه في جلساتها الدورية مع الجارات/ أبي يعلم بالأمر/ ويردد كل ما رآني: "ثلثين الولد خاله"/ أخواتي يحاولن إخفاء الأمر عن أزواجهن". ثم نقرأ في ختام القصيدة: "أنتم الآن ستعلمون/ وستكتفون بتمرير أيقونة أحزنني بيدٍ/ وتشربون الشاي باليد الأخرى" (ص 9).

لا يبدو الحزن والضعف في هذه القصيدة مجرد شعورٍ، بقدر ما هو نمط حياة يُفرض من أعلى، ويجلب لضحيته العار الذي يتسبب فية نبذه بل ونفيه من العائلة. وأكثر من ذلك، يحطّ من قيمته أيضًا. يقول هنا في وصف ما هو عليه: "أنت الحجر العالق/ في قعر حذاء الحياة/ تضايق مشيتها/ فترميك" (ص 15/ 16).

نقرأ في قصيدة أخرى مُنجزة لأجل الغاية ذاتها، ولكن في سياقاتٍ مختلفة تتعلق باللجوء، وفائض الوقت الذي يجد اللاجئ نفسه في مواجهته، وطريقته في تصريفه: "لن أذهب معكم اليوم إلى الهاوية/ ببساطة/ لا أملك جسدًا مناسبًا للخروج/ فقد أعرته لغربة قريبة/ ولم ترجعه بعد/ لذا/ سأبقى هنا عاريًا مني/ أفتش في "مقاطع اليوتيوب"/ لأصنع هاويتي المنزلية" (ص 10).

قصائد الضاهر عبارة عن محاولاتٍ في تقديم "بورتريه" لبدوي أعادت الحرب صياغته بالشكل الذي يظهر عليه داخل المجموعة

تكرار الشاعر لمفردات مثل الغربة، واللجوء، والفراغ، والحزن، بهذه النبرة التي يشوبها الأسى، ليس إلا جزءًا من محاولته في بناء "البورتريه" المذكور سابقًا. فهي، عدا عن أنها مفرداتٌ تصف أحوال المتكلم في المجموعة ومشاعره، أجزاءٌ تشكل في النهاية البدوي الذي يسعى حسين الضاهر إلى وضعنا أمامه، ذلك الذي يصف ما آلت إليه أحواله بعد الغربة بقوله: "زوجتي تتملل من صرير أسناني كل ليلة/ أمضغ الكوابيس مذ وطأت هنا: أجبتها" (ص 38). يضيف: "كل صباح أتسوّل خبرًا عاجلًا عن السلام/ وعند المساء أنام جائعًا" (ص 39).

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة محمد جبعيتي

قصيدة وراء أخرى، تتضح أكثر فأكثر ملامح بدوي المجموعة الذي أعادت الحرب صياغته، فصار: "مجرد فزاعة تهش ذباب الليل عن وجه القصيدة" (ص 77)، وبات أكثر ما يؤمن به أنه سيبقى: "بارعًا في الخوف" (ص 82). هذه هي المشاهد التي يتلوها البدوي علينا في مجموعة حسين الضاهر، وهي ليست إلا انعكاسًا لما يحدث في داخله.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قراءة الكتب بوصفها معيارًا للحكم على الإنسان

تُرجم قديمًا: الحفرة