حسونة المصباحي: عودة إلى الذهيبات حيث كل شيء يبدأ وينتهي
8 يونيو 2025
في نهاية الطريق، لا نعود إلى البدايات فقط، بل نعود إلى ما يشبه الحقيقة. هذا ما فعله حسونة المصباحي، الكاتب الرحّال، المغترب طيلة عمره بين المدن والمكتبات، الذي ختم حياته في قرية الذهيبات، كما لو أنه كان يكتب خاتمة مفتوحة لرواية لم تنتهِ بعد.
ولد المصباحي سنة 1950 في تلك القرية الصغيرة التابعة للقيروان، حيث ترعرع بين الحقول والشمس والخيال. لم تكن الذهيبات يومًا مركزًا أدبيًا ولا مدينة للأنوار، لكنها كانت ولّادة الحنين الأول، مصدر اللغة الخام والذاكرة الأولى. من هناك انطلق، حاملاً في حقيبته هاجس الكتابة ووجع الانتماء، ليصل بعد عقود إلى مدن كبرى كميونيخ وباريس وتونس، وليجاور أسماء أدبية عالمية، قبل أن يعود إلى حيث بدأت الحكاية... إلى الذهيبات.
كتب المصباحي طوال حياته كما لو أنه يعيش على تخوم العالم، في منطقة ظلّ غير مستقرة، ما بين المنفى والبيت، بين العربية واللغات الأخرى، بين تونس و"الآخرين". وقد تجلّى هذا التوتر الخصيب في مجموعاته القصصية الأولى، مثل "حكاية جنون ابنة عمي هنية" (1986)، و"ليلة الغرباء"، و"السلحفاة"، وهي نصوص تُجسد شعور التمزق الداخلي والانجذاب نحو هوامش الحياة.
وفي الرواية، ترك بصمة قوية بأعمال مثل: "هلوسات ترشيش"، و"وداعًا روزالي"، و"نوّارة الدفلى"، و"يتيم الدهر"، و"أشواك وياسمين"، وصولًا إلى "لا نسبح في النهر مرتين" (2020)، و"على أرصفة الشتات" (2022). كل رواية من هذه الروايات كانت عتبة جديدة في استكشاف الذات والجسد والمنفى، وتوسيع أسئلته حول الحرية، والهوية، والعالم.
لم يكن المصباحي مجرد راوٍ للمآسي الصغيرة، بل كان كاتبًا يبحث عن المعنى في التفاصيل اليومية
ولم يكن المصباحي مجرد راوٍ للمآسي الصغيرة، بل كان كاتبًا يبحث عن المعنى في التفاصيل اليومية، وعن الشعر في القسوة. وقد اتخذ من الرحلة أيضًا مسارًا للكتابة، كما في كتابه "كتاب التيه"، و"الرحلة المغربية"، اللذين مزج فيهما بين السيرة والرحلة والتأمل الثقافي.
أما على مستوى المقالة الأدبية والدراسة، فقد ترك نصوصًا لافتة مثل "تجليات بورخيس"، و"ذهب العصر: سير لشعراء ومختارات من القرن العشرين"، و"أنوار الثقافة العربية"، و"إشراقات الثقافة الغربية"، وهي أعمال تُبين انفتاحه على المرجعيات العالمية، ورغبته في وصل الثقافة العربية بالثقافات الأخرى، لا على طريقة الترجمة فقط، بل من خلال القراءة العميقة والمقارنة الحيّة.
وقد مارس الترجمة أيضًا، فقدم إلى القارئ العربي أعمالًا مثل "أصوات مراكش" لإلياس كانيتي، و"قصص للأطفال" لجاك بريفير، و"الحب هو البراءة الأبدية"، وهي مختارات شعرية عالمية، كأنما أراد أن يقول إن ما ينقصنا أحيانًا ليس الإبداع بل الجسر.
عاد حسونة المصباحي إلى قريته في سنواته الأخيرة، بعد جولة طويلة في "العالم"، وكأن اللغة التي حملها معه لم تعد تجد مكانًا أفضل من تربة البداية لتُدفن فيها. هناك، في الذهيبات، وفي 4 حزيران/يونيو 2025، أسلم الروح عن عمر ناهز 75 عامًا. ولم يكن موته عاديًا، بل فصلًا أخيرًا من سيرة كاتب عاش الحياة كتابةً، ومات في بيتٍ من تراب، على مرمى حجر من زيتونة قديمة.
موته في قريته يطرح أكثر من سؤال عن الكتابة والمنفى، عن الحدود بين العالم والبيت، بين الحبر والطين. هل كل الكُتاب عائدون؟ هل تُكتب الروايات الطويلة فقط لنعثر في النهاية على طريق العودة؟ ماذا تبقّى من اللغة عندما ينطفئ الجسد؟ أسئلة لا يجيب عنها الموت، بل توحي بها نهايات الكتّاب الحقيقيين.
عاد حسونة إلى الذهيبات، لا ليموت فقط، بل ليعطي موته معنى. وكأن القرى ليست نهايات، بل بداية جديدة، حيث تستريح اللغة في الأرض، وتتحول إلى شجرة زيتون أو ظلٍ دائم في ذاكرة من عرفوه وقرأوه.
في زمنٍ تزداد فيه المسافة بين الكتابة والحياة، يذكّرنا رحيل المصباحي أن الأدب ليس فقط حرفة، بل مصير. وأن العودة إلى البداية، بعد كل المنفى، هي أعظم اعتراف يمكن أن يتركه كاتب بعد موته.