07-أغسطس-2020

جرد نصرالله انفجار بيروت من سياقه (تويتر)

في أول خطاب له بعد انفجار بيروت، أطل أمين عام حزب الله حسن نصرالله ليدلي بدلوه كما هي العادة في لبنان. تحدث عن التضامن الشعبي بين اللبنانيين، وعلق على التضامن الدولي وانتقل بعدها للحديث عن المساعدات الدولية التي تشكل برأيه "فرصة". وفي رأيه فإنه من رحم المأساة تولد الفرص. لكن عن أي فرص يمكن الحديث؟ تلك الفرص التي لا تأت إلا على جثث اللبنانيين وجراحاتهم وبعد أن تتكرر المأساة عشرات المرات ويتذوق معها اللبنانيون الذل والمهانة. فهل المطلوب تفجير مدينة في كل مرة كي تسنح لنا الفرص للتغيير ومحاسبة الفاسدين والمجرمين؟

يجرد نصرالله كارثة بيروت من سياقها ويطرح أمام اللبنانيين خطابًا أشبه بخطابات المحللين السياسيين، عارضًا نفسه كمتفرج من خارج الدولة لا قدرة له على الحل والربط

خرج نصرالله بكل هدوء للحديث عن الكارثة وما بعدها، وخلفه شعار "بيروت قلب لبنان"، بيروت ذاتها التي انتهك حرمتها في 7 أيار/مايو من العام 2008، وبيروت التي انتشر فيها أصحاب القمصان السود لتوجيه رسائل سياسية بواسطة فائض القوة التي يمتلكها حزب الله.

اقرأ/ي أيضًا: فوق ركام مرفأ بيروت

أطل نصرالله بعد كارثة العاصمة مرتديًا زي القديس مستفيدًا من الهالة الدينية ومن اللغة الخطابية واللغة الجسدية ليوصل رسائله ويضع نفسه موضع "المظلوم والمغبون" من قبل الكاذبين والمنافقين كما أسماهم. هذه المرة خرج ولم يرفع اصبعه بل لعب دور النعجة المسالمة التي تتعرض لهجمات الذئب في كل مرة، دون أن يكون لها ذنب فيما حصل ويحصل.

بخطابه، يجرد نصرالله كارثة بيروت من سياقها ويطرح أمام اللبنانيين خطابًا أشبه بخطابات المحللين السياسيين، عارضًا نفسه كمتفرج من خارج الدولة لا قدرة له على الحل والربط، لكأنه يقول "لا طاعة لمن لا يطاع" بينما الجميع يعلم أن طاعة حارة حريك وأوامرها لا يمكن أن يقف في وجهها أي طرف سياسي. والجميع يعلم أن حزب الله يحل الأمور العالقة والمشاكل السياسية بين المتخاصمين من حلفائه ويضع النقاط على الحروف.

ولكأنها لحظة إلهام نادرة، لحظة تشبه هطول الوحي على فكره مما أنار طريقه فاكتشف المجهول الغائب عن عامة الناس. اليوم، في خطابه اكتشف حسن نصرالله أن هناك "أزمة نظام وأزمة دولة وأزمة كيان". صح النوم! وكأن حناجر مئات آلاف اللبنانيين الذين هتفوا في الساحات منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 لم يصل صداها إلى مسامعه. لكنها وصلت وتغاضى عنها وحاربها واصفًا إياها بالارتهان والتمويل من الخارج. وهي، أي أصوات شبان وشابات 17 تشرين التي كانت تنادي بإلغاء الطائفية السياسية والمطالبة بدولة العدالة الاجتماعية، لم تكن تعني بالنسبة لنصرالله أكثر من أوهام وسراب كما وصف خصومه السياسيين.

لا بل ذهب الحزب أكثر من ذلك في التهجم على ثوار الانتفاضة ومارس ضدهم أبشع الحملات الإعلامية في بيروت وصور والبقاع وغيرها من المناطق. ولا زال جسر الرينغ يشهد بذلك، ولو كان بالإمكان أن يتحول الجسر إلى لسان ناطق لهتف بالقول "لو صحت الأسطورة، وبالكذب تطول الأنوف، لكنت بالرابية تصلي وأنفك بالضاحية يطوف".

اليوم يطالعنا نصرالله بخطاب فارغ المضامين، اللهم إلا من تكرار المظلومية، وهي عادة ما انفك يمارسها. يطالعنا نصرالله بصورة المغبون من الحملات الإعلامية ضده! لكن ألا يشاهد الرجل نفسه قناة المنار؟ وقنواته العديدة وقنوات حلفائه؟ ألا يشاهد نصرالله كيف أن كل ما يقوله تقوم قنواته بفعل عكسه، والأمثلة بالعشرات والمئات حول التجييش الإعلامي الذي تمارسه هذه القنوات والصحف والأقلام التي تدور في فلك محور الممانعة. اليوم، لم تعد ترض حزب الله حرية الرأي والتعبير والحريات الإعلامية في لبنان طالما أنها لا تستخدم لصالحه.

صحيح، هناك تفلت غير أخلاقي في الإعلام، لكن من غالبية الأطراف وقنوات الحزب في مقدمتهم وذلك ما يتغاضى عنه حسن نصرالله، فقبل أن ترى الخشبة في عيني عليك أن ترى الخشبة في عينيك. بدا نصرالله وكأنه قديس، فإن ضربته على خده الأيمن أدار لك الأيسر! لكن هل هذا هو سلوك حزب الله منذ عام 2006 وحتى اليوم؟ وهنا تكمن المأساة الكبرى، في أن هذا "القديس" في كل ما يقوله يستتبع بأفعال مناقضة من إعلامه وحزبه وجمهوره. لكأنه فعلًا ذلك القديس الذي يحول الخمر إلى دماء.

اليوم، اكتشف نصرالله، بعد أن فجرت بيروت، أن هناك عطب جوهري في النظام. لكن من هو عراب النظام ومن هو رأس النظام ومن يشكل العامود الفقري للنظام وبمن يحتمي النظام؟ سواء على الصعيد النيابي والحكومي ورئاسة الجمهورية وداخل مؤسسات الدولة كما قال أي في الدولة العميقة. ويريدنا أن نبلع مقولة غريبة جدًا مفادها "أنا لا أعرف ماذا يوجد في داري، لكني أعرف ما يوجد في دار جيراني!". وهي ربما مقولة أو معادلة عسكرية جديدة اخترعها نصرالله ارتجاليًا أو ربما فعلًا يقتنع بها. إنها مقولة ستشكل، بسخرية، نظرية جديدة في علم العسكر والمخابرات والأمن، وهذه المقولة هي أن المقاومة المسلحة لا تعرف أرضها جيدًا لكنها تعرف أرض الأعداء. يعرف نصرالله طريق القدس التي تمر من سوريا والعراق واليمن ومصر وألمانيا وتجوب العالم، لكنه يجهل ما في بيته الداخلي! هذا التناقض الفج كيف يمكن تفسيره أو كيف يمكن الركون إليه؟

وحين يضع نصرالله الجيش بمواجهة الشعب، فيطلب من القوى السياسية والشعب اللبناني أن يثق بالجيش اللبناني للبدء بالتحقيق الأمني والجنائي، عندها يحق لنا أن نسأله: هل يثق حزب الله بالجيش اللبناني؟ إن كان يثق حزب الله بالجيش اللبناني فهل كان هناك داع لأن يشن حملة عسكرية ضد خصومه لتأمين خط اتصالاته أم أنه شعر بالخوف وعدم الثقة؟ هل يثق حزب الله بالمحكمة العسكرية التي قال يومًا عنها بأنها أخطأت بإخراج العميل عامر الفاخوري وبأنها خطوة غير مشرفة. وهل يثق حسن نصرالله بالقوى الأمنية والمخابراتية كفرع المعلومات أو غيره من الفروع حين يشن الهجمات المتتالية عليه وعلى رئيسه وسام الحسن الذي تم اغتياله في بيروت؟ عن أي ثقة يتحدث حسن نصرالله؟

ثم يتحدث الأمين العام عن الاستغلال السياسي لحادثة بيروت. فجرت المدينة ويطالبنا أن لا نستغل الحادثة في السياسة. يقول لنا "اصمتوا" ولا تتحدثوا عن الإهمال والتقصير. فكيف لنا أن نسكت وأن لا نستغل الحادثة سياسيًا (وهذا حق لنا) وذلك من أجل التصويب على هذه الحكومة الفاشلة وعلى هذا الائتلاف النيابي الفاشل الذي فشل في إدارة الأزمات كافة. يريدنا نصرالله أن نخرس فيما يطغى فريقه وحلفاؤه في السياسة والاقتصاد والأمن، وهنا يجب أن نسأله عن ملفات مثل الكهرباء والنفط والتهريب إلى سوريا ومعمل سلعاتا والأزمة المالية وغيرها وغيرها. يحق لنا أن نسأله عن الإنجازات التي حققتها حكومته؟ لكن الجميع يعلم أن هذا الفريق السياسي يقضم نفسه بنفسه ويأكل كل حزب من أطرافه حصة الآخر داهسًا المواطنين والمصلحة الوطنية بين أقدامه.