12-أبريل-2025
مقر حزب الوفد (منصة إكس)

مقر حزب الوفد (منصة إكس)

في تسعينات القرن الماضي كان الانتماء إلى حزب الوفد المصري حلمًا يداعب خيال الكثير من الشباب المتوهج نشاطًا وحيوية، إذ كان قلعة الباحثين عن الحضور السياسي، ومدرسة يلتحق بها التواقون لممارسة السياسة الحقيقية، ممن يتتلمذون على أيدي عمالقة النشاط السياسي في مصر المحروسة، أحفاد سعد زغلول وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد وصولًا إلى المخضرم الراحل فؤاد سراج الدين.

ومنذ تأسيسه عام 1918 كان الوفد الحزب الأكثر شعبية وتأثيرًا في المشهد السياسي المصري بداية من نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى ثورة تموز/يوليو 1952 ، فلعب دورًا محوريًا في تغيير شكل الحكم في مصر، من الأسرة الحاكمة إلى الملكية الدستورية، حيث يتولى السلطة برلمان منتخب وطنيًا، وممثل عن المصريين، هذا بخلاف حضوره الذي لا يُنكره مُنصف في مقاومة الانجليز والنضال من أجل الاستقلال عن الاستعمار.

وقطع الحزب عبر تاريخه الممتد لنحو 107 عامًا محطات عدة، انتقل خلالها من قيادة الدولة للاستقلال وتعزيز اللحمة الوطنية في مواجهة الاحتلال، وتصدر قائمة الأحزاب الأكثر حضورًا وشعبية في تاريخ مصر، إلى أسد بلا أنياب، ونسر بلا مخالب، بعدما فقد نفوذه وبريقه وتحول إلى كيان مُستأنس سلطويًا، تضرب الانقسامات كافة جدرانه، حتى بات جثة مهملة تحيا على أطلال الماضي المٌشرف فيما يعاني حاضرها من انزواء فاضح عن المشهد لا يليق بهذا الكيان الذي أطاح بحكومات وهدد عروش شتى.

منذ تأسيسه عام 1918 كان الوفد الحزب الأكثر شعبية وتأثيرًا في المشهد السياسي المصري بداية من نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى ثورة تموز/يوليو 1952 

كيف تشكل الحزب؟

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية تشرين ثان/نوفمبر عام 1918 فكر السياسي المصري سعد زغلول في تشكيل وفد من النخبة السياسية للدفاع عن قضية الاستقلال المصري عن بريطانيا، حيث دعا عدد من الساسة المصريين وعلى رأسهم عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد ومكرم عبيد واسماعيل باشا كوكب للالتقاء في أحد المساجد بالقاهرة لمناقشة هذا الأمر.

وبالفعل طلب الوفد برئاسة زغلول من دار الحماية تحديد موعد للقاء السير ونجت، المندوب السامي البريطاني في مصر، للتحدث إليه في طلب السماح لهم بالسفر إلى لندن، لعرض مطالب البلاد على الحكومة الإنجليزية، وبالفعل تم تحديد 13 تشرين ثان/نوفمبر 1918 في تمام الساعة الحادية عشرة صباحًا موعدًا لمقابلة المندوب السامي.

ودار حديث مطول بين السير ونجت والوفد المصري، إلا أنه في نهاية اللقاء ألمح المندوب السامي إلى أن هذا الوفد لا يمثل الأمة المصرية، وأن ما طٌرح من أفكار إنما تعبر عن أصحابها لا عموم المصريين، وهو ما دفع زغلول ورفاقه إلى الشروع سريعًا في تدشين حزب سياسي يحمل اسم "الوفد" نسبة إلى الوفد الذي قابل المندوب البريطاني.

وبعد ساعة واحدة من انتهاء اللقاء وضع مؤسسو "الوفد المصري" قانونًا لتأسيس هذا الكيان، وأجمعوا على اختيار سعد زغلول رئيسًا للوفد المصري واتبعوا القانون بصيغة التوكيل الأول له، لتبدأ اللبنة الأولى في تدشين هذا الحزب الوطني، الذي كان يؤمل عليه الشارع المصري في تحقيق حلم الاستقلال.

وبالفعل جمع سعد زغلول التوقيعات الشعبية اللازمة لتفويضه بالسفر رفقة علي شعراوي وعبدالعزيز فهمي للتحدث باسم مصر في مؤتمر الصلح بباريس، إلا أن طلبهم قوبل بالرفض، وبدلًا من الموافقة على السفر، اعتقلت سلطات الاحتلال زغلول ومجموعة من رفاقه ونفوا إلى مالطا في الثامن من آذار/مارس 1919 لتنفجر بعدها الثورة الشعبية الشهيرة، ثورة 1919، التي كانت من أقوى العوامل التي ساعدت في ترسيخ الحزب الجديد لأركانه في المشهد السياسي المصري، إيذانًا بميلاد كيان سياسي قوي وله حيثية مُعتبرة.

ومع أول انتخابات تشريعية حقيقية تشهدها مصر عام 1924، استطاع حزب الوفد الفوز فيها باكتساح كبير أمام منافسيه القويين آنذاك، حزب "الأحرار الدستوريين"، و"الحزب الوطني" الذي أسسه مصطفى كامل ومحمد فريد،  ليشكل أول حكومة برلمانية في البلاد، برئاسة سعد زغلول بصفته رئيس حزب الوفد، إلا أنه تقدم باستقالته بعد عدة أشهر، إثر محاولات الملك فؤاد والإنجليز لإفشاله.

وظل الوفد متربعًا على عرش الحياة الحزبية في مصر لقرابة ثلاثة عقود كاملة، حيث كان حزب الأغلبية الأكثر شعبية وجماهيرية، والمهيمن على معظم الحكومات والوزارات المشكلة، منذ عام 1924م وحتى حله بعد ثورة الضباط الأحرار في تموز/يوليو 1952.

تاريخ من النضال

فتح الحزب أبوابه لكافة التيارات السياسية الليبرالية والداعمة لفكرة الاستقلال عن بريطانيا العظمى، حيث وسع قاعدته الشعبية بصورة منحته الأفضلية بين أقرانه من الأحزاب المتواجدة في ذلك الوقت، وهو ما ساعده على تحقيق أهدافه حيث نجح في انتزاع اعتراف بريطانيا بمصر دولة مستقلة ذات سيادة وإنهاء حمايتها وإلغاء الأحكام العرفية.

بعد وفاة سعد زغلول عام 1927 خلفه في رئاسة الحزب مصطفى النحاس، الذي سار على ذات النهج، ونجح في توقيع المعاهدة المصرية البريطانية  1936 التي انهت احتلال مصر عسكريا، ونجم عنها انضمام الدولة المصرية  إلى عصبة الأمم باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة، كما أنها ألغت الامتيازات الأجنبية.

وبمقتضى تلك المعاهدة، يتوجب على بريطانيا سحب جميع قواتها من مصر باستثناء تلك اللازمة لحماية قناة السويس ومحيطها والتي يبلغ قوامها 10,000 جندي وعدد من الأفراد المساعدين، بالإضافة إلى ذلك ستزود المملكة المتحدة الجيش المصري وتدربه وتساعد في الدفاع عنه في حالة الحرب. كان من المقرر أن تستمر المعاهدة لمدة 20 عامًا.

إلا أن عدم وفاء بريطانيا بالتزاماتها تجاه الدولة المصرية بموجب تلك الاتفاقية، دفع النحاس باشا لإلغائها في تشرين أول/أكتوبر 1951، ليطلق العنان للشعب للنضال المسلح ضد القوات البريطانية في القناة، فيما كان للوفد دورًا محوريًا في مد الفدائيين بالسلاح لمهاجمة المعسكرات البريطانية.

وكان الحزب في ذلت الوقت يعمد إلى ضم العدد الأكبر من جنود الشرطة بين صفوفه وذلك لمساعدة الفدائيين، وذلك بزعامة فؤاد سراج الدين الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية وقتها، إلا أن هذا الأمر أثار حفيظة الإنجليز مما دفعهم لمحاصرة مبنى محافظة الإسماعيلية (شرق) حيث دارت الأحداث الشهيرة في 25 كانون الثاني/يناير 1952، وهو اليوم الذي اتخذته الشرطة المصرية عيدًا لها بعد ذلك.

وكان حزب الوفد قد أنشأ تنظيمًا شبه عسكريًا عام 1936، تحت مسمى "جماعة القمصان الزرقاء" حيث كان له دورًا كبيرًا في مقاومة الإنجليز الذين حاولوا أكثر من مرة حله وتسليم سلاحه، إلا أن رئيس الحزب النحاس باشا رفض تلك الضغوط، حتى هاجم عدد من أعضاء التنظيم فيلا رئيس الوزراء محمد محمود باشا عام 1937، واصطدموا بالحرس الخاص به، ما دفع الحكومة وقتها لإصدار مرسوم يمنع تشكيل التنظيمات شبه العسكرية في مصر.

ونجح الوفد في تشكيل عدد من الوزارات التي هيمنت على المشهد السياسي المصري، بعد الفوز باكتساح في الانتخابات البرلمانية التي كانت تجرى، المرة الأولى خلال الفترة بين 1924-1928 ثم الفترة الثانية من 1936 - 1937، تلتها الفترة من 1942 - 1944، وصولا إلى المحطة الأخيرة من 1950 – 1952.

عهدي ناصر والسادات.. أزمة الحل والتهميش

في كانون الثاني/يناير 1953 قرر مجلس الثورة المصري حل كل الأحزاب القائمة بما فيها حزب الوفد، باعتبارها أحزاب العهد البائد التي يجب محوها من الخارطة السياسية المصرية، الأمر لم يتوقف عند حاجز الحل وفقط، بل قُدم زعماء الحزب، مصطفى النحاس وفؤاد سراج الدين، لمحاكمات ثورية بتهمة الفساد السياسي.

وسيطر على المشهد المصري وقتها "الاتحاد الاشتراكي" الذي ظل مهيمنًا لنحو 20 عامًا تقريبًا، حتى حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 والانتصار الذي حققته مصر على الكيان المحتل، بعدها مباشرة بدأ الرئيس أنور السادات في السماح تدريجيًا بعودة التعددية الحزبية، حيث نشأ عدد من الأحزاب منها حزب "مصر العربي الاشتراكي" الذي أسّسه السادات، ليصبح الحزب الحاكم، ثم حزبا الأحرار (ليبرالي)، والتجمع الوطني (يساري) عام 1976،

وفي بدايات عام 1978 شكّل الرئيس المصري "الحزب الوطني الديمقراطي" الذي احتل مكان حزب "العربي الاشتراكي" ، وفي تلك الأثناء تقدم حزب الوفد بطلب لاعتماده من جديد والسماح له بالعودة وممارسة الحياة السياسية، وهو ما أغضب السلطات حينها التي شنت حملة ممنهجة ضده سعت من خلالها لتشويهه بصفته حزب العهد البائد والفاسد، عهد ما قبل الثورة.

في 4 شباط/فبراير 1978 حصل الوفد على موافقة لجنة الأحزاب لتأسيسه لكن الحكومة واصلت تعنتها في تنفيذ قرار التأسيس، ما دفع زعيم الحزب فؤاد سراج الدين لتجميده طواعية بشكل مؤقت في الثاني من حزيران/ يونيو من نفس العام، أي بعد قرابة خمسة أشهر فقط من تأسيسه الثاني.

وامتداد لعهد عبدالناصر، واصل الساداتيون حربهم ضد الوفد، إذ لم يكن قرار التجميد شفيعًا للحزب أمام السلطة، التي قررت اعتقال رئيسه فؤاد سراج الدين، ضمن موجة الاعتقالات الشهيرة التي شهدتها الدولة في  أيلول/سبتمبر عام 1980، التي اعتقل فيها عشرات السياسيين المصريين بناء على قرار من السادات، كما تعرض العديد من القيادات الأخرى للتنكيل والضرب من بينهم مصطفي شردي وجمال بدوي الذي فوجئ ببلطجية يعتدون عليه وهو في طريقه إلي منزله بمصر الجديدة.

حزب الوفد الجديد.. العودة على استحياء

بعد اغتيال السادات في تشرين أول/أكتوبر 1981 وتولي حسني مبارك السلطة، أطلق سراح جميع المعتقلين السياسيين، بما فيهم سراج الدين وغيره من قيادات الوفد التي كانت معتقلة ضمن قرارات أيلول/سبتمبر الشهيرة، وهو ما اعتبره الوفد فرصة جيدة للعودة للمشهد مرة أخرى.

إلا أن هيئة قضايا الدولة المصرية رفعت دعوى قضائية تطالب فيها بعدم دستورية عودة الوفد للمشهد مجددًا، بدعوى أنه حل نفسه خلال عهد السادات، ولا يجوز العودة لأي حزب قام بحل نفسه طواعية، ليتقدم الحزب  بالطعن في الحكم الصادر بعدم جواز عودته، بحكم أن ما حدث كان تجميدًا وليس حلا، لتقرر محكمة القضاء الإداري عودته مرة أخرى، ليعود إلى ممارسة نشاطه السياسي بشكل رسمي عام 1984 لكن تحت مسمى "حزب الوفد الجديد".

بعد رحيل سراج الدين دخل الوفد دوامة لا تنته من الانهيارات المتتالية، بداية من عهد نعمان جمعة الذي خلف سراج الدين مرورًا بمحمود أباظة ومصطفى الطويل والسيد البدوي وبهاء الدين أبو شقة وصولًا إلى الرئيس الحالي عبد السند يمامة الذي حول الوفد من زعيم المعارضة إلى أحد الأحزاب الداعمة للسلطة

ورغم أن العودة لم تكن قوية مقارنة بما كان عليه الحزب قبل قرار الحل في 1952 إلا أنه حاول قدر الإمكان إحياء أمجاد الماضي وفرض معادلة جديدة على المشهد السياسي يصبح فيها الوفد الممثل الشرعي والقوي للمعارضة في مواجهة الحزب الوطني الحاكم، وظلت الأمور في مسارها الصحيح نسبيًا حتى وفاة زعيم الحزب فؤاد سراج الدين في 9 آب/ أغسطس 2000 لتبدأ مرحلة الانهيار المرحلي والخروج تدريجيًا من الخارطة الحزبية المؤثرة.

استئناس وانشقاقات وتهميش

بعد رحيل سراج الدين دخل الوفد دوامة لا تنته من الانهيارات المتتالية، بداية من عهد نعمان جمعة الذي خلف سراج الدين مرورًا بمحمود أباظة ومصطفى الطويل والسيد البدوي وبهاء الدين أبو شقة وصولًا إلى الرئيس الحالي عبد السند يمامة الذي حول الوفد من زعيم المعارضة إلى أحد الأحزاب الداعمة للسلطة، وهو الذي قال خلال تهنئته للرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي إن حزبه سيكون أحد الأعمدة الرئيسية في دعائم الجمهورية الجديدة.

وشهد الحزب خلال العقود الأربعة الأخيرة موجات طاحنة من المعارك الداخلية بين الطامعين في رئاسته، حيث سقط في مستنقع صراع النفوذ بين قاماته وتياراته،  افقدته الكثير من حضوره وهيبته وجعلته في مرتبة متأخرة في قائمة الأحزاب السياسية الأكثر حضورًا على الساحة المصرية.

وعامًا تلو الأخر بدأ الوفد يفقد قاعدته الجماهيرية بصورة حولته إلى حزب نخبوي لا مرتكز شعبي له، ولولا التاريخ المشرف لهذا الكيان ودوره النضالي المعروف والقامات السياسية التي تعاقبت على رئاسته، وهي التي أبقته على أجهزة التنفس الصناعي حتى اليوم،  لانزوى بعيدًا خارج الخارطة السياسية الحزبية.

أمام الوفد فرصة تاريخية لاستعادة جزءً من تاريخه الزاخر بالوطنية والعطاء، شريطة أن تتوفر الإرادة لدى القائمين عليه في استعادة المسار الذي كان عليه سعد زغلول وأحمد لطفي السيد ومصطفى النحاس وصولًا إلى  فؤاد سراج الدين، حينها فقط قد يسحب البساط من تحت الأحزاب الناشئة التي لا تساوي في حساب الزمن لحظات والتي اكتسحت المشهد بنفوذها المالي والسياسي.. فهل يستغل الحزب المخضرم سياسيًا الفرصة أم سيواصل الانزواء خلف الأحزاب الداعمة للسلطة حفاظًا على ما يُلقي له من فتات المكاسب بين الحين والأخر؟