11-مايو-2020

احتجاجات أمام مصرف لبنان المركزي أواخر 2019 (Getty)

ما يسعى إليه الفريق الحاكم في لبنان هو تقديم الاعتباطية كشكل جديد من أشكال انتاج الشرعية، هذا التناقض ليس جديداً، في مسرح التباهي بالتناقضات، خاصة إذا كان شرط القبول بهذا الشكل هو القمع، وكانت جميع أدواته متوافرة، لكن قبل الشرعية وقبل كل شيء، يتوجب الحديث عن تعريفات أساسية، أو كإجابات ضرورية على الأسئلة العالقة، من هو الفريق الحاكم في لبنان؟ ما هي الشرعية؟ ما هي التناقضات؟ إلخ.

لا يبدو أن أحداً من اللبنانيين فعلاً ينتبه للعلاقة بين حاكم المصرف وحزب الله، وإلى أين يمكن لهذه العلاقة أن تصل

بعد الحماية المطلقة، إدارياً وأمنياً وسياسياً، لمصالح الفئة التي تسيطر على رأس المال، لم يعد الحديث عن هيمنة هذه الفئة على مواقع مختلفة في اتخاذ القرار السياسي أمراً يمكن انكاره، أو استسهال تجاهله بالاتكال على جرعات متفاوتة من مكارثية منتهية الصلاحية، كذلك لم يعد ممكناً حتى في ظل الاستقطاب القديم، تجاهل تقدم مصالح حزب الله الإقليمية، وانعكاساتها في لبنان، على امتداد الفريق الذي يدور في فلكه، ضمن شروط الحزب واعتباراته، أما التناقضات، فهي كما اعتقد كثيرون، لم يبذلوا جهداً كافياً في فهم الخطاب وتفسيره، تتركز بين الفئتين: الأوليغارشية وحزب الله، لكن هل ثمة تناقض فعلاً بين الفريقين؟

للحديث عن التناقضات ربما يمكن الاستعانة ببنات أفكار كارل شميت، لا مفرّ من العودة إليه في هذه الحالة، قبل النطاق العام، بل إلى فكرته الجوهرية، في تحديد الصديق وفي تحديد العدو، إذا كان العامل الأساسي المحدد في السياسة، يكمن في القدرة على التمييز بين الصديق والعدو، كما يقول شميت، فهناك ثلاث خطوات رئيسية يمكن فهمها في الحالة اللبنانية حالياً، الأولى إشارة رياض سلامة الواضحة، إلى عدم وجود مشكلة مباشرة مع حزب الله، فهو عندما يقول، عملنا مع الحكومات السابقة، وسنعمل مع الحكومات الحالية، يعرف جيداً، أن الجميع يعرفون، أن الحكومة الحالية هي حكومة حزب الله، بهذا المعنى، فإن الترجمة العملية لعبارة "ليس لدينا مشكلة مع الحكومة الحالية"، وزجها في كلمته، تعني ببساطة، أنا حاكم مصرف لبنان "ليست لدي مشكلة مع حزب الله".

اقرأ/ي أيضًا: طرابلس تنتفض.. اللبنانيون إلى الساحات مرة أخرى

بعد يومين، أرسل حزب الله أولى الرسائل إلى حلفائه القدامى، اعتُقل ناشطين في الحزب الشيوعي اللبناني، بحجة "الاعتداء على أحد المصارف"، وذلك في طريق عودتهما من إحدى القرى الجنوبية، في قضاء صور الساحلي، ولا يعني ذلك أن الحزب طلب توقيف الناشطين، لكن تجاهل الحادثة، متبوعةً بخطاب نصر الله المروّج لخيار الاستدانة من صندوق النقد الدولي، يعني أن الحزب يعلن إعادة تموضع في المشهد اللبناني.

 أما الإشارة الثالثة، فتتمثل بتوقيف نقيب الصيارفة، محمود مراد، المحسوب على حزب الله، والذي يتهم حسب المراقبين، بأنه من المتلاعبين بسعر صرف الدولار الأميركي، وكان توقيفه مطلباً أساسياً من حاكم المصرف، الذي يحاول خلق صورة مستقلة لسعر الصرف، من دون أن يكون هذا السعر حقيقياً، الإشارة الحاسمة، لاستجابة الحزب بدعوة رياض سلامة "للعمل معاً"، تمثلت برفع الغطاء عن نقيب الصيارفة، خلال خطاب أمين عام الحزب، الذي قال: "لا علاقة لنا به". وليس غريباً أن يتم توقيفه بعد فترة قصيرة جداً من اعلان نصر الله تخليه عنه.

إذاً وحتى الآن، يمكن إعادة صياغة المشهد كالتالي: رياض سلامة يخاطب الحزب في المؤتمر الصحافي: يمكننا أن نعمل معاً، الحزب لا يتريث، تبدأ حملة توقيفات لناشطين ضدّ السلطة، بالتزامن مع ترويج أمين عام حزب الله لخيار سلامة المفضّل، وهو الاستدانة. ثم تأتي الإشارة الحاسمة، بتلبية طلب سلامة نفسه، أي رفع الغطاء عن عامل ازعاج لحاكم المصرف، وهو نقيب الصيارفة، التمييز بين الصديق، وبين العدو، كمحدد رئيسي في سياسة، يقتضي فهماً مشابهاً لتحديد ردّ الفعل.

اقرأ/ي أيضًا: مركزية في اللامركزية.. تاريخ لبنان وحاضر الانتفاضة

هذا يعني أن لبنان يشهد استقطاباً جديداً، أو على الأقل محاولة استقطاب جديد، يقوم على توازن بين مصالح الأوليغارشية التي يمثلها رياض سلامة، مقابل مصالح أمنية ــ إقليمية للفئة المسيطرة على هذه المصالح منذ 2005، وهي حزب الله، لا يعني هذا أن العلاقة كانت "فاترة" أو مقطوعة، لكن ما يعنيه، هو "صداقة" جديدة، تسمح للحزب بإدارة لبنان سياسياً، في مقابل تأمين مصالح الفئة التي يمثّل حاكم مصرف لبنان مصالحها، وهذا الواقع الذي حلّ بالطرفين، ربما يكون أبرز أسبابه، نهاية الحريرية كوسيط بينهما، أما تفاعل اللبنانيين، مع هذا المشهد، إن كان في القراءة، أو في رد الفعل، فيبدو متفاوتاً حتى الآن، التحالف بين نيوليبرالية حاكم مصرف لبنان، وممانعة الحزب بما هي استكمال لنهج البعث السوري في المواءمة بين الأمن والاقتصاد، ليس تحالفاً واضحاً بنفس الدرجة للجميع.

باستثناء استعادة العلاقة القديمة، بين حركة أمل، التي خاضت الحرب الأهلية وشاركت في الغنائم بعد الحرب، والحزب التقدمي الاشتراكي، الذي يقدّم ذاكرته في الحرب على حاضره في أحيان كثيرة، لا يبدو أن أحداً من اللبنانيين فعلاً ينتبه للعلاقة بين حاكم المصرف وحزب الله، وإلى أين يمكن لهذه العلاقة أن تصل، الناشطون في الانتفاضة اللبنانية، ولعدة أسباب، منها تراجع الزخم، ومنها سيطرة سلوكيات الطبقة الوسطى وقلة تمرسها في السياسة، تبدو بعيدة عن فهم علاقات القوة في لبنان، ويبدو خطابها أكثر انسلاخاً على الواقع، على عكس التقاء المصالح الناشئ بين سلامة وحزب الله، بانتظار عودة الحريرية ربما، كما يأمل الحزب، لكن هذا ليس سلبياً تماماً، لأن تحالفاً مثل هذا قد يكون مجرد "تهدئة"، فيشكّل الاستقطاب الجديد إمكانية إحداث اختراقات في المشهد القديم، لكن بالنظر إلى المشهد الحالي، حيث يوجد رياض سلامة وحزب الله وحدهما في مشهد واحد، ربما يجب الإجابة على سؤال أخير: متى يبدأ العرض؟ الإجابة الأوضح ستكون بعد رد صندوق النقد الدولي على طلب الحكومة اللبنانية.

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة بلا سياسة!

اليوروبوندز على الأبواب.. لبنان يدفع، لا يدفع؟