24-نوفمبر-2015

احتجاج على مشكلة القمامة في بيروت، الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 (Getty)

قامت الدنيا ولم تقعد في كل البلدان المحيطة، وثارت الشعوب على الأنظمة وحكّامها، إلا في لبنان لم يَثر ولم يتحرك أحد، لم يلفحنا نسيم ثورات ولا تظاهرات. ولشدة الهدوء الضارب، يخيّل لغير العارفين بهذا البلد بأنه بلد مثالي ولا تشوبه شائبة. 

في لبنان، ندفع الضريبة التي تُدفع في العالم من أجل الخدمات، لكننا لا نحصل على شيء في المقابل

لا يعلمون مثلًا أن هناك مشكلة كهرباء أزلية، لم تستطع أي من الحكومات المتعاقبة إلى حد الآن حلّها. انتهى الأمر باللبنانيين إلى دفع فاتورتين، فاتورة كهرباء "الدولة" الّتي بالكاد تُرى، وفاتورة كهرباء "المافيات"، مافيات الموّلدات الذين يتحكّمون بالمواطنين دون حسيب ولا رقيب، بالرغم من محاولات بعض البلديات ضبط الموضوع. أمّا المياه فهي العجيبة الحقيقية لهذا البلد، إذ مع نسبة معدّل الأمطار التي يتلقاها في كل سنة وعدد الأنهار والينابيع المتواجدة بكثرة، يصعب استيعاب فكرة شح المياه وانقطاعها الدائم، هذا عدا عن ارتباطها التقني بالكهرباء التي لا تأتي. إضافة لكل هذا هناك الغلاء المعيشي وضريبة الـ "تي في آ" الّتي على ما أذكر في حينها مرّت مرور الكرام، باستثناء عدد من التظاهرات التي قامت لإلغائها ولم تفلح طبعًا.

لا يوجد نظام صحي في هذه البلاد. مات ويموت الناس على باب المستشفيات بالمعنى الدقيق للكلمة. ومع هذا لا تجد من يعترض. ندفع الضريبة التي تدفع في بلاد العالم من أجل الحصول على خدمات، إلّا في هذا البلد ندفعها دون الحصول على شيء في المقابل. أما التعليم الذي هو الأساس، فهو طامّة أخرى إذ إنّ فشل التعليم الرّسمي في غالبية المدارس الحكومية، يدفع الأهالي إلى تسجيل أولادهم في المدارس الخاصة التي قد يصل قسط الولد الواحد فيها في المرحلة الابتدائية إلى خمسة آلاف دولار وأكثر، في بلد الحد الأدنى للأجور فيه لا يتجاوز أربعمائة دولار.

فرص العمل المنقرضة التي لا يحلم بها خريجو الجامعات إلا إذا كان لهم معارف، أو انتموا إلى جهة حزبية معينة، خلاف ذلك لا يحلم الخريج العادي الذي لا يمتلك غير شهادته، لا يجرؤ على التأمّل خيرًا بأية وظيفة يعلم أنه بحاجة لفانوس علاء الدين للحصول عليها. ولذلك يفضّل تعبئة طلبات الفيزا إلى أي بلد آخر، على أن يضيع وقته في التقديم على وظائف يعلم أنه لن يحصل عليها.

السياسة في هذا البلد هي العهر بعينه، يمارس سياسيّوه الوقاحة والازدواجية ويطالبون بالتغيير والإصلاح ويشتكون من الفساد ومن الطبقة الحاكمة التي هم جزء منها، ويطلّون إعلاميًّا في مناظرات أخلاقية ويتفرج هذا الشعب المسكين الذي قرر مسبقًا أنه "لا حول له ولا قوّة".

مشكلة الزبالة كانت على الدّوام مشكلة أساسية، ولطالما أُخذت المناطق الفقيرة مطامرَ لنفايات الوطن بأسره، ولم نصدّق أعيننا عندما تظاهر الناس في الناعمة ونجحوا في إبعاد النفايات عن بلدتهم بعد حراكات عديدة فشلت على مر السنين بتحقيق هذا الأمر، بسبب التدخلات السياسية الممسكة برقاب المناطق. وأتى اليوم الذي "فحّشت" به السياسة بحق وأغرقت البلاد في نفايات على مدّ النظر. بيروت "سويسرا الشرق"، ولبنان الّذي هو "قطعة سما"، تحوّلا بين ليلة وضحاها إلى مزبلة كبيرة بالمعنى الدقيق للكلمة.

السياسة في لبنان هي العهر بعينه، يمارس سياسيّوه الوقاحة والازدواجية ويطالبون بالتغيير والإصلاح

لكن بَرْجا، الضيعة المنسيّة الصغيرة في إقليم التفاح، أبت أن تكون مزبلة على غرار العاصمة، أو حتّى مكبًا لنفاياتها. فبرجا الّتي لم تتذكّرها الدولة إلّا بعدما ضاقت بها المطامر فقرّرت تصديرها إلى خارج هذه الضيعة، أثبتت شجاعة موصوفة للوقوف في وجه الجميع ورفض طمر النفايات في أراضيها. قالت برجا كلمتها وكان شبابها هم من وضعوا حجر الأساس في الحراك الشعبي البعيد عن أي فرز حزبي أو طائفي، ونجحوا بإبعاد النفايات عن بلدتهم وبذلك كانوا مثالًا وبرهانًا لقوة الحراك الشعبي.

على الأثر، ومع تفاقم مشكلة الزبالة في بيروت التي "طلعت ريحتها" حرفيًّا، قام بعض الشباب بتشكيل حراك شعبي جميل ضجت به بيروت، حيث قامت تظاهرات شعبية غير فئوية أو حزبية لمطالبة المسؤولين بحل أزمة الزبالة. أجمل ما في الحراك أنه كان شعبيًا وطنيًا نقيًا بعيدًا عن زواريب السياسة وأحزابها. مع العلم، بأن الحراك اقتصر بدايةً على شباب الجامعات والسوشيال ميديا، إلا أنّه مع الوقت بدأ يتنوع ليشمل فئات عمريّة أكبر بخلفيات متنوعة. إلّا أن هذا التنوع لم يعجب الكثيرين الّذين فرّقوا بين "الثائر الراقي والثّائر "الزقاقي"، وتنصّل منظّمو الحراك ممّن اعتبروهم "مندسّين" مخرّبين لا سلميين كأفضالهم. وعليه فإنّ هؤلاء دخلاء على حراكهم "الكلاس" وسوف يودون "بثورتهم" إلى شغب مرفوض، لا يمكن لفئة الثوّار الراقية أن تقبل به وأن تحذو حذوه.

بالغوا في التوصيف واعتبروا حراكهم ثورة، وأرادوا لهذه "الثورة" أن تبقى في حدود السلميّة والابتعاد عن المشاغبة، على اعتبار أنّ هذا ما ينصّ عليه ربّما كاتالوج الثورات في العالم. غاب عن أذهانهم أنّ الشغب هو جزء من أي حراك، ولكي تكون هذه الثورة ثورة بحق يجب أن تشمل جميع الفئات من بيئات وخلفيات مختلفة، وعليه ليس بالضرورة أن تكون الكلمة هي الطريقة الوحيدة للتعبير. بعض عنف لا بدّ منه خصوصًا بمواجهة العنف الأمني. لكن لا فحرّاس الثورة" هم أرقى من ذلك.

جوبه الحراك الشعبي بعنف من قبل السلطة، تمثّل برش المياه "التي لا يحلم المواطن برؤيتها بهذا الكم الهائل في منزله"، وبالغاز المسيّل للدموع، بالإضافة إلى إقامة جدار فصل بين المتظاهرين ومبنى الحكومة. هذا عدا عن اعتقال بعض الشبان المشاركين في التظاهر. 

لكن لم تكتف وزارة الداخلية بهذه الإجراءات العنيفة، فقد أصدرت قرارًا، عادت عنه فيما بعد بإجراء فحص البول لجميع المعتقلين على اعتبار أن الشعب المشارك هو شعب "محبحب" ويتعاطى. طبعًا فأي مواطن سوي ينزل إلى الشارع الذي أغرقته النفايات ليطالب المسؤولين بأبسط حقوقه؟! وتمادت التصرفات القمعية لتشمل اعتقالات بالجملة لناشطين وناشطات والمطالبة بمحاكمتهم محاكمات عسكرية.

مع الوقت، ألهت السلطة الشعب بهذه الممارسات القمعية الّتي لم نعتد عليها، نجحت ببث الخوف في النفوس، وللأسف مرّت أسابيع وأشهر دون أن تدعو أيًا من الحركات للنزول إلى الشارع. ملّ الناس منهم، من اختار أن ينزل بشكل فردي لأن المشكلة لم تحل، وبيروت مازالت غارقة في النفايات. ومنهم من أرهبتهم فعلًا تصرفات السلطة القمعية، ومنهم من آثر تشكيل تحركات داخل التحركات، فانبثق الكثير من الحركات و"عجقت" في الحراك اللبناني، ولا نتائج ملموسة حد الآن. لكن بكل الأحوال، قد تكون هذه الحراكات أفضل من تكتيف الأيدي، لكن للأسف كل هذه الحراكات حتى الآن حركة بلا بركة.

اقرأ/ي أيضًا:

عاشت بيروت حلوة و"رخّوصة"

بيروت إذ خلعت رداء الطوائف