17-ديسمبر-2020

لوحة لـ روبرت هاميلتون/ أيرلندا

 سموم الحرّ تتراكم عرقًا وأنفاسًا ضجرة، والنوم يهجرني ليس فقط بسبب ذلك. تتملكني رغبة في المشي. كثيرًا ما أذرع البيت ليلًا. أبتسم وأنا جالسة على طرف السرير أستعد للنهوض على مراحل. يعبرني مظهر علامات الخوف والرعشة في كلمات جارتي المهووسة بأخبار العوالم السفلى، وهي تطرق بابي ذات صباح شاحبة الوجه، خطيرة التقاسيم:

ـ اسمعي يا أنتِ.. بيتك تسكنه الجن.. اللهم حننهم علينا يا رب وأبعد غضبهم عنا.

كل ليلة أسمع صوت خطى تذرع الغرف والرواق جيئة وذهابًا.

ركنت لحظتها ابتسامة لئيمة ولبستُ شيئا من شقاوتي وعلّقتُ عليها بكثير من الجدّ المفتعل:

ـ أعرف ذلك. هي جنية واحدة فقط. ألمح طيفها أحيانًا.

ـ يا ساتر "مْسَلْمِين ومْكتَفين*".

تكاد تفر مني قهقهة وأنا أذكر ركض الجارة في السلالم مولية وهي تستعيذ بالله من الشياطين.

آدمي.. أنهض من السرير برفق وأسقط خطاياي في حجرك، أراك تلملمني بقايا حلم وتبتسم حتى تغويني صفرة أسنانك، ورائحة سجاير الرويال التي أخمن أنك عشقتها يوم صنع العالم أول سيجارة لهلاكه.

يتملكني الدوارُ كعادتي كلما فارقتُ فراشي، وكأن بين السرير وبقية أشيائي ثلاثمائة وستون درجة.. أينك يا غاليلي لتفسر لي سرّ ذلك؟ بل أينك يا آدم لتُغير شيئًا من ذلك؟

تنهض المرأة/الجنية التي أناها لتُباشر الدّوار. الدوران عادة ورثتها عن أمي الأرض.

الأرض المسكينة تدور حول نفسها وتدور حول الشمس.

يوما ما ستتقيؤنا الأرض جميعا، سيحدث ذلك حتمًا، هو ردّ فعلٍ طبيعي لكلّ هذا اللّف.

أنا أيضًا مثلها يا آدم.

لم أتعلم كيف يكون المشي في اتجاه منكسر، بدا لي الخط مستقيمًا دائمًا رغم أن الطريق يدور ويدور، ليعيدني إلى نقطة انطلاقي بويضة غير ملقحة، إلى أول حالاتي.. شيئًا ينتظر شيئًا في رحم أمي وقد ينتهي بي الانتظار إلى التلاشي كبقايا دنس.

أذرع الرواق، أدخلُ غرف البيت، أشعل أضواءها. أفتش كل غرفة على حده كأنني أبحث عن شيء فقدته.

تصورت كلما هممت بإشعال نور أي غرفة يسكنها ظلام الليل الدامس، تصورتُ أن أجد شيخًا يلبس الأبيض جالسًا في اتجاه القبلة فوق حصير، يدير لي ظهره ويُسبِّح. يُسبِح. يتهجد الليل في غرفي لربه. كان منظر ذلك الشيخ/الولي أو الملاك أو الجنيّ فقط.. لا أعلم. يسكن تصوري منذ الطفولة.. لعلّه شيء من إرهاصات السنين الأولى أو شيء من تخاريف جدتي.. لا أذكر.

كل الذي أذكره أن الليل كان يحمل لي أشباحًا وشياطين وأرقًا وكوابيس.

كنتُ أختلس السمع إلى قصص جدتي وهي تخوض في أحاديث مخلوقات تسميها "ذوكْ النّاس*" تفاديًا لتسميتهم جنًّا، وتردفُ ذكرهم بعبارات تتمتم بها بصوت خفيض، ثم تطابق بين ذراعيها قابضة على يديها بإشارات تصرف بلاءهم عنّا جميعًا.

كانت الجنّ في قصص جدتي مخلوقات رهيبة. تصورتُها تمامًا في هيئة مصاص الدماء الذي أراه في التلفاز بابتسامة خبيثة ومخالب وأنياب.

وكانت الجنّ في قصص جدتي وحكايات صديقاتي تؤذي الناس، وتسكن الأجساد ووتجرد البشر من إرادتهم.. تفعلُ الأفاعيل!

هي مخلوقات الليل ولأجل هذا كنت أكرهه وأسأل أمي بشيء من التوسل والبكاء كلما حلّ الغروب:

ـ لماذا يأتي الليل؟

فكيف بعد هذا العمر تسألني طفلتي المخبأة في ركن القلب، الذي تكبر فيه شجرتك يا آدم والتي ترسل ظلال أعرافها مرطبة جفاف روحي:

ـ لماذا يرحل الليل؟

كم نتغير.. كم نتغير.

لم يعد يهمّني أن يشغل الجنّ أبدان البشر وقد تيقنت أن الطبيعة تنفر الفراغ، وأن الجسد الفارغ لا بد سيملؤه شيء ما.. فليكن جنيًّا أو أي شكلٍ من أشكال الطاقة الأخرى. لم يعد يهمني حديث الشياطين، تلك المخلوقات التي تصورت لعمر أنها لا تقاوم إلا بالهروب.

ما زال الليل في أوله وما زال ذكرك آدمي يحملني إلى أحاديث الطفولة موازية لصوت الصمت في غرف البيت والشارع، وما زال نبش الجرذان لكيس القمامة يثير نباح الجراء، وما زلتُ أنتظرُ التعويذة التي تفتح المغارة السحرية على انبثاقك بعد استكمال خلقك.. وما زال في حلقي شيء يشبه المرار، وفي رأسي دوار دوار!

سأحكي لك طبعًا ما الذي حدث في اليوم الموالي في رسالة قادمة قديمة..

 

هوامش:

  • عبارة يرددها الناس كلما جاءوا على ذكر الجن.
  • هؤلاء الناس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحيَّات الحارسات

قصيدة ابتهال