18-مارس-2025
لوحة للرسام النرويجي إدوارد مونش

لوحة للرسام النرويجي إدوارد مونش (فيسبوك)

الليل البهيم

جاؤوه واحدًا تلو الآخر، والمصائب رافقتهم مثنى وثلاث ورباع، الحُدْبُ حاصروه ورموه في حفرة ضيقة. سمع صوت الرفش، يهيلون التراب من فوقه بتوترٍ عال. 

أظلمَ المكان من حوله، وبعد مدة حَلِك. غادروا بعد أن دفنوه، لكن ضوضاءهم بقيت، صخبٌ يدوي، وكلما ارتفعت الجلجلة زاد غضبه وتفاقم استياؤه والخوف شلّه.

الغضب سكين ترميها على الآخرين فتنغرز بك، والاستياء سكين تغرزها في نفسك كي تفني الآخر، والخوف سكين تقذف بها المستقبل فتقطع طريقك. 

ذهب الحُدْبُ منذ زمن، فمن أين تأتي الجلبة؟ 

"يا الله لماذا تمتحنني بما لا طاقة لي به؟ إني أتفسخ، وهذه جثتي".  

صمتٌ طويل

صَمَتَ فأدرك!

في الليل البهيم زُرع، فنبت أخضرَ حيًا.    

 

أصابع الاتهام

جارتي في الطابق الرابع قالت: "أنتم الغرباء مخيفون" ثم قفلت بابها بثلاثة أقفال. 

صديقتي ذات الجمال الطبيعي عبّرت بثقة: "يعني تضع كيلو من المساحيق وتصبغ شعرها بالأشقر!" واستغربت أيّما استغراب. 

صديقتي المتأنقة علّقت: "لتهتم بأناقتها قليلًا، تقدير الذات عندها صفر"، ثم سحبت نفسًا من سيجارتها ونفثته مطولًا.

فتاة تضع الحجاب تفحصت ملابسي الرياضية الضيقة في المتنزه من فوق لتحت، ومن تحت لفوق، لم تقل شيئًا لكن عيناها بصقتا.

خالتي التي تعيش في كندا أكدّت: "الأجانب وسخون، يقفزون على بعضهم مثل الحيوانات"، وتخاف على مستقبل بناتها.

أما عمتي فقد أردفت قائلة في سهرة عائلية عن سعاد حسني التي أحب بشدة: "أصابها ما أصابها لأنها لم تتب إلى الله، هدول فلتانات".

وعمي كان يؤمن: "إننّا أشرف ملة خُلقت" ثم يشحذ سكينه ويفرم بقية الملل فرمًا ناعمًا.

ودون ذكر صلته كان يعيد تكرارًا بأن: "مشكلتهم دينهم، مشكلتهم عرقهم الدساس" ولعله يفكر بأن مشكلتهم حتى الهواء الذي يتنفسونه. 

جارنا الشاب الذي التجأ إلى ألمانيا أرسل رسالة صوتية: "ما عندهم إنسانية يا أختي"، ثم لعن النظام الذي جعله يفرُّ هاربًا من بلده.  

واليوم تحديدًا قرأت هذا التعليق على اليوتيوب "لا أصدق من تضعن الوشوم ولو فسرتن القرآن". 

في لقاء بمكسيكو، قال بحيرة الجبل، رجل من سكان أمريكا الأصليين، لكارل يونغ بأن الرجل الأبيض مجنون لأنه يفكر بعقله لا بقلبه!

 

رسائل نايلونية

اشتقت لحضوره ولا نية لي باستباق الاعتراف أبدًا، فطلبتُ منه كتابًا ورقيًا. جاءني به، لفتني الكيس الذي وضعه فيه، كان أزرقَ داكنًا وكُتب عليه القمر الفضي. 

أعدت له رواية هرمان هسه، والحق يُقال لم أستسغها. أخذت له كتابين أحدهما لإليف شفق والآخر ليوسف زيدان، وضعتهما في كيس طُبع عليه طائره المفضل البوم يقف على صخرة كبيرة بثبات.

ندمت لأنني أعرته كتابين إذ استغرقه إعادتهما مدة ضاقت بي، أكدت له أن يجلب لي كتابًا واحدًا، فأحضر مجموعة من الأشعار لتميم البرغوثي في كيس طُبع عليه رمان وكرز وعنب. 

أعرته قصائد روبندرونات طاغور في كيس بطبعة ساعات حائطية تدق جميعها عند الساعة 10:10. 

جاءني بكتاب عن العبادات القديمة في كيس عليه صورة شجرة مقدسة مزينة بشرائط ملونة. 

أخذت له كتاب التاو  بكيس عليه طبعة عقدة الحب السلتية. 

وفجأة اختفى، راقبت غيابه صامتة. بعد أشهر جاءني بمجموعة قصصية لكتاب من أمريكا اللاتينية في كيس سادة.

قرأتها على مهل، وأعدتها من خلال صديقة مشتركة ودون كيس. 

 

حديث الأخضر

من الجائز أن تقف تحت شجرة صفصافة كبيرة وساكنة، فتهتز أوراقها بغتة، ويبادرك الحفيف أطراف الحديث بحفاوة. 

قد يحدث وأن تجلس على مقعد خشبي فيحط إلى جانبك عصفور صغير في غاية الظُرف، ينظر إليك بزرين سوداوين، يعتريه الفضول إزاء شخصك العملاق.

من الممكن أيضًا أن تذهب في رحلة إلى منطقة تسكنها الجبال، تطلق صوتًا عاليًا فلا يتردد صدى وحسب، وإنما دويتو تشارك فيه الجبال نوتتها الموسيقية الرخيمة. 

وقد تقف بالقرب من نهرٍ وتصغي إلى رحلته الصاخبة، تطلب منه مشورة أو أية إشارة لسؤال يؤرقك، فيضع حجرًا وردي اللون له شكل قلب بين قدميك. 

يجوز أن تدخل في أرض مزروعة بأشجار التفاح المزهرة ربيعًا، يلفحك عطرٌ ناعم، تدور عيناك بثمالة في تكوينات الأغصان المدهشة. تشعر روحك بالخفة ويطمئن قلبك، فتتساءل ما الذي دفع بالإنسان إلى نقل معابده الخارجية إلى معابدٍ داخلية!