حجر رشيد والأبجدية المقدسة.. كيف تمّكن شاملبيون من فك طلاسم الهيروغليفية؟
16 أكتوبر 2025
يدعونا حدث افتتاح المتحف المصري الكبير إلى الرجوع إلى حدث فارق، فتح الباب على مصاريعه لإعادة النظر في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، بل وإعادة اكتشافها من جديد. هناك صُدفة قادت لتغيير تاريخ مصر للأبد، وأضافت عشرات الأسطر لتاريخ العالم بعدما فكّت الطلاسم المنقوشة على الحجارة، وفتحت قلب أقدم حضارة في الدنيا أمام العالم.إنها لحظة اكتشاف حجر رشيد، والتي لم تكن عادية. فقد كانت بداية لظهور ما سيُعرف لاحقًا بالقومية المصرية المستقلة والتي استمدّ فيها شعبها رغبته في الاستقلال عبر السير على خُطى أجداده الذين أقاموا إمبراطورية منذ آلاف السنين. فكيف عجز أحفادهم عن أداء المهمة ذاتها في القرن الحديث؟
لم يكن لكل هذا أن يقع لولا جهود العالم الفرنسي جان شامبليون، الذي أتى بما لم يستطعه الأوائل وحلّ اللغز الفرعوني الذي استعصى على كبار علماء المصريات.
الصلة الواهنة بين اللغات
في الأول آب/أغسطس 1799، وأثناء قيام الجيش الفرنسي بأعمال توسعة لقلعة سان جوليان القديمة التي تعود لعصر المماليك الجراكسة وتقع على بُعد أميال عدة من مدينة رشيد، عثر الضابط الفرنسي بيير بوشار (Pierre‑François Bouchard) على حجر يحمل نقوشًا قديمة، وعلى الفور بدا لبوشار أن ذلك الحجر مختلفًا عن غيره فانتشله بحذر وأخرجه من موقع البناء.
نُقل الحجر البازلتي بعد تغطيته بالقماش والحصير إلى منزل الجنرال مينو، قائد الجنود الفرنسيين بالإسكندرية، حيث نُظف بعناية لكي لا يتعرّض لأي خدش، بعدها نُقل إلى المعهد العلمي المصري بالقاهرة لدراسته على أيدي العلماء الفرنسيين الذين كانوا أول مَن أطلقوا عليه اسم (Pierre de Rosette) أي "حجر رشيد"، حيث جاوَر القطع الأثرية الأخرى التي عُثر عليها طيلة عمل الحملة في مصر. كما صُنعت نسخ من النقوش المرسومة عليه وأُرسلتْ على الفور إلى معهد باريس القومي.
بحسب التقديرات الأولية، فإن ذلك الحجر أُزيل من معبد فرعوني نُصب فيه واستُخدم في بناء الجدار الذي دمّره الفرنسيون لاحقًا، وهو سلوك شاع في مصر قديمًا باستخدام الآثار الفرعونية لبناء مساجد أو جدران أو قلاع أو كنائس.
لم يغب عن العلماء الفرنسيين مدى أهمية هذا الحجر، فمجرد مطالعة أي شخص يجيد اليونانية لهذا الحجر سيُدرك فورًّا أنه أمام "أثر نفيس" بسبب عبارته الأخيرة التي جاء فيها "يُدون هذا المرسوم على لوحة بالحروف المقدسة (الهيروغليفية) والحروف الوطنية (الديموطيقية) وبخط الأيونيين (اليونانية)".
هذا يعني أن الحجر يمنح ناظريه فرصة فريدة لقراءة نصٍّ واحد بثلاث لغات مختلفة؛ واحدة منهما معروفة – اليونانية - ما يفتح الباب لفهم اللغتين الأخرتين.
أما النصّ نفسه، فهو عبارة عن مرسوم أصدره كهنة مصر خلال مؤتمرٍ عام في منف عقدوه لتكريم الملك بطليموس بمناسبة الاحتفال بعام تتويجه التاسع، وتشيد بإنجازات الملك في إعادة بناء المعابد وخفض الضرائب، لهذا أصدر الكهنة هذا المرسوم تعبيرًا عن شُكرهم للملك على أن يُعلّق لاحقًا في المعابد.
في أيلول/سبتمبر 1799 نُشرت معلومات عن الحجر لأول مرة في جريدة Courrier d’Égypte لسان حال الحملة الفرنسية في مصر.
الطابع الفرنسي ظلَّ يُلاحق تلك القطعة الأثرية التي عُرفت في كتب التاريخ بِاسم "حجر روزيتا"، و"روزيتا" هي الاسم الذي منحه العلماء الفرنسيون للمدينة كتحريف للكلمة العربية "رشيد" عند بعض المؤرخين، أو كترجمة حرفية لكلمة "الوردية" عند غيرهم، دون أن يوضحوا لنا سببًا مقنعًا دفع العلماء الفرنسيون لإطلاق صفة الوردية على مدينة رشيد.
ذلك الحجر أُزيل من معبد فرعوني نُصب فيه واستُخدم في بناء الجدار الذي دمّره الفرنسيون لاحقًا، وهو سلوك شاع في مصر قديمًا باستخدام الآثار الفرعونية لبناء مساجد أو جدران أو قلاع أو كنائس
بعد ذلك، فُرضت التعقيدات السياسية والعسكرية، وألا يعود الفرنسيون بالحجر إلى بلادهم، ففي عام 1801 وبعدما حاصر الإنجليز قواته في مصر وقّع الجنرال مينو معاهدة تسليم نصّت على تسليم بريطانيا الآثار التي عثر عليها علماء الحملة الفرنسية.
من بين تلك الآثار كان حجر رشيد الذي نُقل إلى لندن في شباط/فبراير 1802. أودع الحجر في الجمعية الأثرية في لندن ثم نُقل إلى المتحف البريطاني في نهاية 1802 بأمر من الملك الإنجليزي جورج الثالث، ولا يزال معروضًا فيه حتى الآن.
فور امتلاك المتحف للحجر وزّع نسخًا منه على المعاهد والجامعات بأوروبا وأمريكا لمساعدة العلماء المهتمين بالمصريات على المساهمة في حل النقوش.
وفي شهادة الضابط البريطاني هـ. تايلور (H. Taylor) عن كواليس نقل الحجر في خطاب أرسله إلى نيكولاس كارليزل (Nicholas Carlisle) أمين سر جمعية لندن لدراسة الآثار وصفه بأنه "قطعة أثرية نفيسة إلى أقصى حد، هو الصلة الواهنة لكنها الوحيدة المكتشفة حتى الآن بين اللغة المصرية واللغات المعروفة، وتذكار يبعث على الفخر لقوة بريطانيا، لم يُسرق من سكان بلا حول ولا قوة بل أُحرز بشرف كغنيمة حرب".
ما قبل شامبليون
فور شيوع خبر العثور على الحجر المكتوب بـ 3 كتابات؛ الهيروغليفية (القديمة المقدسة)، والديموطيقية (الحديثة العامية) والإغريقية (لغة الحاكم المُتغلب)، شبّهه علماء الآثار "بنقش بهستون" القديم المُحرر بثلاث لغات، هي: الفارسية والإيلامية والأكدية البابلية لتسجيل آثار الملك الأخميني داريوس الأول، ساهم ذلك الاكتشاف في فك رموز الكتابة المسمارية.
لهذا مثّل حجر رشيد فرصة لا تُقدر بثمن لحل رموز اللغة المصرية القديمة، فالإغريقية كانت معروفة للكثيرين الذين يستطيعون فهم الكلام المنقوش بسهولة، لكن الأمر يختلف كثيرًا تجاه الديموطيقية والهيروغليفية التي لم يكن يعرفهما أحد.
فور استقرار الحجر، بدأت جهود ترجمة نصوصه، على أمل أن تكون مفتاح فهم التاريخ المصري القديم.
في باريس، وما أن وصلت نُسخ النقوش ثارت ضجة عامرة بعدما نشرت الصحف بعضًا من محتواه، وأنه سيكون مفتاح حل شفرة اللغة المصرية القديمة وكشف أسرار حضارتها العصيّة على العقل الغربي منذ سنوات.
تفسّر هذه الضجة عمليات البحث السريعة والمحمومة التي لاحقت النصوص المصرية فور وصولها أوروبا؛ في تشرين الثاني/نوفمبر 1802 ترجم الإنجليزي سيتفون وستون النصّ الإغريقي على الحجر وقرأ الترجمة البريطانية في جمعية الآثار المصرية في لندن، خطوة فعلها أيضًا الأستاذ الفرنسي هاينه Heyne من جامعة جوتنجن Gottingenl وكانت ترجمة الاثنين شديدة القُرب من بعضهما في المحتوى، لاحقًا وُضعت ترجمات ألمانية وإيطالية للنقوش.
في كانون الأول/ديسمبر 1802 أعدّ العالم تيلور كومب Taylor Combe دراسة محكمة عن محتوى النقش، بعدها حاول الفرنسي سلفستر دي ساسي (S. de sacy) إجراء مقارنات بين النصّ الديموطيقي والإغريقي، واستطاع فك طريقة كتابة أسماء بطليموس والإسكندر والإسكندرية بالنصّ الديموطيقي.
استكمل هذه الجهود الدبلوماسي السويدي جون أكربلاد Akerblad John الذي نجح في التعرف على نصف حروف هجاء الديموطيقية، واستنتج المزيد من أسماء الأعلام والضمائر، رغم تلك الجهود فإن الحجر بقي مطلسمًا عصيًّا على الفهم بشكلٍ كامل وواضح أمام الباحثين.
البداية الحقيقية: توماس يونج
لم تظهر القيمة الحقيقة لهذا الحجر إلا بعد 20 سنة على اكتشافه عن طريق العالم الإنجليزي توماس يونج T. Young الذي توصل إلى أن أسماء الملوك الهيروغليفية تُكتب داخل إطار مستطيل ملفوف الأركان يُسمّى "خرطوشة"، أيضًا اكتشف أن وجود صورة أنثى لتعيين أنها مؤنث والكثير من القيم الصوتية الصحيحة للعلامات الهيروغليفية فقد أتقن يونج في عُمر مبكر العديد من اللغات وحقق اكتشافات علمية جعلته عضوًا في الجمعية الملكية.
في 1814 بدأ دراسة النقوش الموجودة على حجر رشيد، وبعدما اطلع على نتائج أعمال دكتور ساسي وأكربلاد بدأ العمل بطريقته الخاصة، وبعد 4 سنوات من العمل نشر مقالات عدة اعتُبرت فتحًا كبيرًا لفك غموض الهيروغليفية.
صحيح أنه نجح في التعرّف على بعض كلمات النصّ الديموطيقي إلا أنه لم يستطع قراءة أيٍّ من النصين الديموطيقي أو الهيروغليفي بالكامل لأنه لم يدرك أن الكلمة الواحدة فيهما قد تتكوّن من علامة واحدة وأخرى قد تتكوّن من علامتين أو أكثر. اعتبر أن مفتاح حل اللغز هو أسماء الحكام الأجانب، الذين لابد وأن جرت كتابتهم فرعونيًّا بما يكافئ نُطقه في اللغة اليونانية، لذا بدأ بكلمة بطليموس الذي كُتب 13 مرة في النصّ الديموطيقي و4 مرات في النص الهيروغليفي - بسبب تحطم بعض أجزائه - فاستخرج مفردات اسم الملك الذي كُتب في خرطوشة بالديموطيقية والهيروغليفية وقارنها باليونانية.
رغم ذلك فإن يونج وقع في خطأ كبير لأنه لم يُدرك أن النقشين المصريين هما إعادة صياغة للنصّ الإغريقي وليستا ترجمة حرفية له، الأمر الذي أوقعه في العديد من الأخطاء رغم ريادته في تلك المهمة العسيرة.
الباب مفتوح لشامبليون
مّهدت جهود يونج الطريق أمام شامبليون والذي كان أكثر معرفة منه باللغة القبطية واللغات الشرقية الأخرى، فمنذ طفولته أظهر براعة في إتقان اللغات. فأتقن اللاتينية والعربية والكلدانية والسريانية والقبطية.
مثل أخيه الأكبر برع جان فرانسوا شامبليون في دراسات التاريخ القديم لذا ميّز العلماء بينهما بالترتيب، فمنحوا جاك (Jacques-Joseph Champollion) اسم "شامبليون الأكبر"، بينما الأصغر - وهو الذي يخصنا هنا - عُرف بـ "شامبليون الصغير".
عام 1805 اصطحب جاك شقيقه الأصغر جان إلى باريس وألحقه بمدرسة للغات الشرقية وعرّفه بدكتور ساسي - صاحب محاولات فك الشيفرة الرشيدية - وسريعًا أظهر الشاب الصغير رغبته في العمل على الحجر.
في 27 أيلول/سبتمبر 1822 ألقى خطابه الشهير في الأكاديمية الفرنسية بشأن نجاحه في التوصل لأساس مبدئي للأبجدية المصرية القديمة
كتب دكتور ساسي إلى جاك يطلب منه ألا يدع أخيه الصغير يغرق في تلك المهمة الصعبة، فقال: "إن النجاح في هذا النوع من الأبحاث نتيجة توليفة موفقة من الظروف أكثر من كونه نتيجة للعمل الشاق، الأمر الذي يجعلك في بعض الأحيان في حالة من الأخذ ببعض الأوهام بدلاً من الحقائق".
عام 1812 أصبح شامبليون أستاذًا للتاريخ القديم في كلية الآداب في جامعة جرينوبل Grenoble، واستكمل جهوده لفك اللغز الفرعوني، وفي هذا المجال استفاد كثيرًا من جهود سابقيه وبنى عليه. فسار على خطى "طريقة يونج" في الاعتماد بشكل أوّلي على أسماء الأعلام مثل كليوباترا وفيليب والإسكندر وبرنيس وغيرها، التي قارن فيها النصّوص ببعضها ومنها تمكّن من استنتاج القيمة اللغوية لعددٍ من العلامات المصرية القديمة.
لاحقًا قادته الدراسة ليميّز بين حروفٍ قد يكون لها دلالة صوتية وأخرى لها دلالة مقطعية، كأن تعبّر عن حرفين معًا ككلمة "من" مثلًا، وأخرى توضيحية لإيضاح المعنى دون تغيير بنيته اللغوية كرسم صورة رجل للدلالة على أن تلك الكلمة تشير إلى رجل وهكذا. لدعم هذه المحاولات فحص شامبليون نصًا آخر منقوشًا في مسلة "فيلة" التي تزين أحد ميادين إنجلترا والذي كُتب باللغتين الهيروغليفية والإغريقية، مما منحه مساحة أكبر لإجراء المقاربات اللغوية والتي اعتبرها المفتاح الرئيسي لحل تلك الألغاز القديمة.
وفي 27 أيلول/سبتمبر 1822 ألقى خطابه الشهير في الأكاديمية الفرنسية بشأن نجاحه في التوصل لأساس مبدئي للأبجدية المصرية القديمة. بعدها بعامين نشر شامبليون كتاب "موجز النظام الهيروغليفي" والذي تضمّن المزيد من جهوده لفك لوغاريتمات الأبجدية المصرية القديمة.
بعدها سافر إلى إيطاليا بين عامي 1824 و1826 حيث ظلَّ يفتش في تورينو ونابولي وروما لدراسة البرديات المصرية المحفوظة بها وينسخ نصوصها ويضيف الكلمات الجديدة إلى مُعجمه، فتعمّقت معرفته بالهيروغليفية حتى عُين عام 1826 أمينًا للآثار المصرية بمتحف اللوفر.
في 1828 أرسلته الحكومة الفرنسية لينسخ نقوش المقابر والمعابد، فجمع مادة ضخمة زادت من معارفه بشأن اللغة المصرية القديمة. طيلة عامين جاب الرجل آثار مصر ومعابدها واطلع على المزيد من النقوش. فعاد من هذه الرحلة بكتابٍ ضخم أطلق عليه اسم "آثار مصر والنوبة" في أربعة أجزاء، ومخطوط لمذكراته لم يٌنشر إلا بعد وفاته.
خلال زيارته لمصر جمع شامبليون مادة ضخمة أراد تبويبها في مجلدات عدة أخرى، لكنه مات فجأة في آذار/مارس 1832، وهُنا لعب شقيقه الأكبر دورًا بارزًا في ترتيب المادة الأدبية التي خلّفها وراءه. ونشر كتاب "قواعد اللغة المصرية" في باريس عام 1836 ثم كتاب "قاموس اللغة المصرية" عام 1843 بعد رحيله.