أذكر أنه خلال السنوات الممتدة بين عامي 2013 و2017، كادت المدينة تخلو من الشباب الذكور، بسبب كثرة الاعتقالات والحواجز المنتشرة بكثافة الثابتة والطيارة، والخوف المشتعل من الاقتياد لأعمال السخرة، والتخلف عن الخدمة الإلزامية، وتشابه الأسماء، والتوقيفات لغاية الابتزاز أو لمجرد الإذلال.
كان من الملاحظ حينها أن الشوارع امتلأت بالنساء، الأمهات على وجه التحديد، حيث استلمن زمام أمور العائلة، وصرنا ربّات الأسر، بعد غياب الأزواج قسرًا، أو اختبائهم خيفة.
كانت أمي في تلك السنوات تقف في طوابير تبديل اسطوانات الغاز، وعلى طوابير الخبز، وتؤمن احتياجات البيت من الأسواق، رغم كل أمراضها، مثلها مثل كثير من الأمهات الأخريات، لذات الأسباب، ومنهن أيضًا من قمن بدور الأب والأم معًا في البيت وخارجه.
بطبيعة الحال، يركز الإعلام وكتب التاريخ كثيرًا على عدادات القتلى في الحروب على جانبي الحرب، وعلى الخسائر الاقتصادية، وعلى الاصطفافات، والمواقف الدولية.
بينما على ضفة أخرى، حيث لا عدادات للدموع، ولا إحصائيات يهتمون بها للقهر، تقف الأمهات.
لا تتعلق التغييرات التي طرأت على حياة الأمهات السوريات بعد انطلاق الثورة السورية بمجرد تغير بالأدوار الجندرية، إنما تغيير أظهره مدى مشاركتهن بالثورة والتي كانت في حيزها الأكبر لكونهن أكثر الفئات التي تجرعت قهرًا ومعاناة ومرارة.
فبالإضافة لتحملهن مسؤولية التربية والإنفاق في ظل غياب المعيل، واضطرار العديد منهن للعمل في ظروف قاسية لتأمين احتياجات الأسر.
فقد تحملن فقدان الأحبة، زوج وأبناء سواء كانوا مدنيين أو مقاتلين، ومع ذلك استمررن بالكفاح والانتظار.
انتظار أي خبر عن زوج أو ابن مفقود. بدأ بأمل حياتهم وتحول لاحقًا لحلم بإيجاد الرفاة.
فكانت مأساة الأمهات في جزء كبير منها، أنهن صرن خلال سنوات كثيرة وحتى الآن، ينتظرن ظهور وثيقة تثبت وفاة، أو مكان قبر، حتى يقمن حدادًا، حاولن الابتعاد عنه طويلًا.
عندما سقط نظام الطاغية بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، كان يفترض أن يكون هذا التاريخ بداية جديدة لبلاد لا مزيد فيها من دموع الأمهات بسبب قهر، لكن الأحداث التي تلت ذلك، سيما التي شهدها الساحل السوري، بعد استشهاد عدد كبير من رجال الأمن العام، وبعد مجازر كثيرة ألحقت بالمدنيين الأبرياء في الساحل، ظهر أن هذا الافتراض ليس صحيحًا، وأن الآلام تستمر.
فمن صورة لاستقبال أمهات شباب الأمن العام لجثامين أبنائهن بالدموع، إلى مشهد مبك لأم تقف فوق جثامين أبنائها الذين أعدموا بغير ذنب، مع تلذذ للقاتل بمصابها، "فشرتوا" هي الكلمة التي قالتها الأم حينها، ولم تكن تمثلها وحدها، إنما تمثل صرخة لأمهات سوريا في وجه كل من استهتر بدماء أحبابهن ودموعهن النفيسة عليهم.
ومن غير المستغرب أن "مكسورات القلوب والخواطر" كنّ دائمًا، وفي كل مرة، وبالرغم من مصابهن، أكثر من يدعو للسلم والمحبة بين أبناء الشعب والواحد، في حين سقط الكثير ممن يحسبون على النخب في فخ التحريض على القتل، وسهولة تبريره.
يصادف اليوم 21 من شهر آذار عيد الأم، وهو يوم سيكون قاسيًا على كل أم خسرت أحد أفراد أسرتها، أو كان لديها أمل بلقاء جديد بعد فتح السجون في يوم التحرير.
قاس لدرجة أن كلّ "كل عام وأنت بخير" لن تكفيها لو قالها العالم أجمع، طالما أن فقيدها لم يقلها.
مدينون نحن للأمهات السوريات البطلات، مدينون لهن في كل حالة مررن بها، بقوتهن وضعفهن، بحزنهن وفرحهن.
وأي انتصار يحكى عنه لا بدّ أن يرد بكثير منه لهن.
وأول قضاء لهذا الدين، أن نخجل من دمع الأمهات، ونفكر فيه مليًا قبل أن نتسبب فيه من جديد، فسوريا لن تنتصر بعد من دون أمهات يبتسمن باستمرار، إذا غادرن تظل فكرة البلاد خارجة عن معناها المرجو حتى يعدن، وإذا ضحكن ضحكت البلاد وضحك كل من فيها.