15-مارس-2020

صورة من مروحية لجيش الأسد بعد رمي برميل متفجّر على خان شيخون (تويتر)

منذ بدء الاحتلال الروسي لسوريا في أيلول/سبتمبر 2015، بدا واضحًا أن ميزان القوى رجح كثيرًا ونهائيًا باتجاه روسيا نظرًا للتفوق النوعي في الأسلحة وبخاصة الطيران، وبدا أن كل أشكال المقاومة لن تغير شيئًا على الأرض، لا مقاومة الفصائل ولا مقاومة أهالي المدن والبلدات التي شن عليها الاحتلال هجمات متلاحقة وعنيفة متخذًا في ذلك سياسة الأرض المحروقة. وحيث ذلك فقد أدركت الفصائل والمقاومون من الأهالي والناشطون والمراقبون أن مزيدًا من المقاومة تعني مزيدًا من قتلهم دون تحقيق أي تقدم فعلي على الأرض. وقد ارتفعت أصوات هنا وهناك تطلب من المقاتلين التوقف عن القتال، ومن الأهالي مغادرة البلدان والمدن التي تتعرض للهجوم. ومع ذلك لم يتوقف المقاتلون عن القتال، ولم يترك الناس بلداتهم ومدنهم بالرغم من معرفتهم النتيجة التي هي غالبًا الموت.

قام نظام الجريمة الأسدي على مدار سنوات الثورة والحرب باعتقال الكثير ممن تم إرغامهم على المصالحة أو ممن فضّلها على التهجير وعواقبه

عندما كان يسيطر الروس بشكل تام على سير المعارك وعلى الأرض كان يجري تهجير المقاتلين والأهالي إلى مناطق أخرى، وغالبًا إلى إدلب على الرغم من أنه كان بإمكانهم البقاء تحت مسمى "المصالحة" بينهم وبين النظام بـ "ضمانة" روسية! لكنهم مع ذلك كانوا يرفضون "المصالحة"، ويهاجرون تاركين بلداتهم وملكياتهم وذواكرهم وتاريخهم.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا نكتب عن سوريا؟

فلماذا  يفضلون القتال حتى الموت، ويفضلون التهجير بكل طرقاته الكارثية والخطيرة ونتائجه المدمرة على أن يبقوا تحت سيطرة النظام؟ لا يقود البحث عن أسباب ذلك إلا إلى سبب واحد لا ثاني له وهو أن لا حياة مع نظام البراميل ونبش القبور. أسّس هذا النظام الهمجي علاقته بمعارضيه على حد واحد: إما قاتل أو مقتول. وذلك منذ أن سجن حافظ الأسد رفاقه في الحزب والدولة والجيش وقتل بعضهم ليستولي على السلطة، ومنذ أن سجن معارضيه لمجرد رأي يخالف رأيه أو لمجرد انتساب لحزب سياسي معارض سنوات بلغت كحد متوسط 15 عامًا بقرارات أمنية عرفية، ومنذ أن دمّر مدينة حماه... وقد اعتبر معارضيه منذ مجيئه إلى السلطة أعداء له وليسوا خصومه السياسيين. وأكمل ابنه المسيرة من بعده وأضاف إليها قتل الناس وتهجيرهم وتهديم منازلهم ودور عبادتهم وكافة التفاصيل المرعبة التي لم نزل نعيشها يوميًا وعلى مدار الساعة... ناهيك عن تدمير المجتمع السوري وتفخيخه وإفقاره وغير ذلك من الأمور التي لا يفعلها حتى الأعداء بشعوبهم، ولا يفعلها حتى الهمج... الحقيقة لا يفعلها إلا هذا النظام حرفيًا وحصريًا، إنها من طبيعته.

قام نظام الجريمة على مدار سنوات الثورة والحرب باعتقال الكثير ممن تم إرغامهم على المصالحة أو ممن فضّلها على التهجير وعواقبه، وقد قضى بعضهم تحت التعذيب في سجونه، كما أرغم المقاتلين من الفصائل ومن أهالي البلدات والمدن الذي رضخوا للمصالحة على القتال في صفوف جيشه، وكان يضعهم في الخطوط الأمامية من المواجهات ليقاتلوا أهلهم وأهالي بلداتهم ومدنهم المهجرين من جهة، وليموتوا من جهة أخرى، وقد حصل ذلك في كافة المناطق، في الغوطة وفي درعا وغيرهما.

في هجوم الإبادة التي تشنها روسيا وميليشياتها، بما فيها ميليشيا النظام، على إدلب لم يتم تسجيل ولا حالة من هروب الناس إلى مناطق سيطرة النظام على الرغم من المصير المجهول الذي يلقاه الهاربون، وعلى الرغم من انعدام المكان الذي يمكن أن يهربوا إليه أصلًا بعد أن صارت إدلب هي مكانهم الأخير. لا تفسير لذلك أيضًا إلا أن الناس يفضلون الموت فعليًا على أن يعيشوا مع هذا النظام، فالحياة منعدمة بوجوده.

ربما لن نعثر في التاريخ الحديث على حالة من الشر المطلق يمكن الاستناد إليها لتفسير طبيعة النظام السوري، لا النازية تسعفنا ولا الفاشية، ولا حتى العصابات المنظمة، فالجرائم التي ارتكبتها مع خطورتها وكبر حجمها لم تكن في مثل طبيعة وحجم جرائم هذا النظام. لا يمكن تفسير طبيعته إلا بمقارنتها مع نفسها، لذلك لن نلجأ إلى البحث في التاريخ عن تفسير، فالتفسير يكمن في طبيعة النظام ذاتها، ولا عن تسمية إلا باسمها نفسها: الأسدية إذًا.

بـ"الأسدية" نفسر قتال السوريين حتى الموت دون أن يسلّموا أو يستسلموا، وبـ"الأسدية" نفسر هروب الناس إلى البراري والوحول والغابات والسيول والأمطار دون مناطق سيطرة النظام، نفسر هروبهم إلى/ وتفضيلهم الموت على ألا يعيشوا في ظل النظام.

في هجوم الإبادة على إدلب لم يتم تسجيل حالة من هروب الناس إلى مناطق سيطرة النظام

أسّس الأسد الأب الأسدية عبر ثلاثين عامًا من قمع الشعب السوري وإذلاله، عبر اعتباره، ليس فقط معارضيه السياسيين أعداء له فحسب، بل الشعب السوري برمته، ورأينا مرارًا تجلياتها مكثفة بمجزرة حماة، وقد أكمل الابن المهزوز تفسير الأسدية على نحو غير مسبوق منذ أن ثار عليه السوريون 2011 فظهرت دفعة واحدة المقولة الأسدية الوحيدة التي حكمت سوريا منذ العام 1970 وهي: أنا أو لا أحد، وقد أظهرها الشعار الذي يعبر عن جوهرها باختصار محكم: الأسد أو نحرق البلد.

اقرأ/ي أيضًا: السيادة الوطنية.. رخصة للقتل

الأسدية هي ذلك الشر المطلق في عصرنا.

السوريون يعيشون الآن صراعًا وجوديًا: نكون أو لا نكون. هذه هي الأسدية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السوري التائه

حملة بوتين على إدلب.. الخفايا والمآلات