19-نوفمبر-2022
gettyimages

من توافد جماهير بطولة كأس العالم إلى قطر (Getty)

استطاع الكاتب الإنكليزي روديارد كيبلينغ Rudyard Kipling أن يقدّم مرجعيّة عامّة، وقد تكون أزليّة في علاقة الشّرق مع الغرب، حين قالَ مقولته:" الشّرْقُ هُو الشّرْقُ، والغَرْبُ هُو الغَرْبُ، ولَنْ يلتقيا أبَدًا". كانت هذه المقولة حجّةً لعدد من المنظّرين الّذين نظّروا لفرضيّة القطيعة الأزليّة بينَ الشّرق والغرب، وكأنّ سحر الشّرق لا يوجد إلا في أساطيرِ بابلَ، وحكايات ألف ليلة، ولا يمكن لهؤلاء الشرقيين أن يصحوا من أحلامهم، ومن لياليهم؛ فالقصورُ والحدائقُ هما تخيّلات الوهم الشرقيّ، إنّما الحقيقة في الغرب المتحضّر عقلًا وإنسانيّةً.

بعْدَ أكثرِ من مئةِ عامٍ من مقولة كيبلينغ تأتي دولة قطر حاملةً أحلام الشّرق وسحرِه

وبعْدَ أكثرِ من مئةِ عامٍ من مقولة كيبلينغ تأتي دولة قطر حاملةً أحلام الشّرق وسحرِه، مؤكّدةً أنّ الشّرق هو الشّرق بتطوره العمرانيّ، والفكريّ، والإنسانيّ. وأنه لا يمكن لهذا الشرّق أن يكون مُستهلِكًا لمخلّفات الحضارة الغربيّة، لا بل إنّه مُنتِجٌ لحضارةٍ تُعيد أمجادَ الشّرقِ وسحرِه. لقد أخرجت قطر أحلامَنا بوصفنا عَرَبًا نعيشُ في أروقة واحة في صحراءَ جافّة، نضعُ غُترةً تقينا لهيب شمس السّماء، ولا نعيشُ إلا لنبقى في نومتنا الطّويلة، وفق ما صُوِّر للغرب حالَنا. وأنّنا قُساةٌ جُفاةٌ نُرهِبُ من يتطوّرُ، ويخدمُ البشريّة.

إنّ الوعد حقّ، والحُلم يبقى في سباته على سرائر النسيان؛ وإنّما الأمرُ في أن تجعلَ الأحلامَ حقيقةً. وهنا استطاعت قطر أن تجمع عموميّة الكونِ ووحدتهم في الرّياضة، تلك الرّياضة الّتي وُجدَت لتوحِّد الشّعوب، وتُبعدهم عن ويلاتِ الحروب، ومكارهها، وكأنّ لسان حالِ قطر بلسان حال العرَبِ، والشّرق: نحنُ نستطيع إذا جردتمونا من ويلات أسلحتكم الفتّاكة، وإرهاب ألسنتكم القاطِعة.   

استطاعت قطر أنْ تحيدَ عقول الغربيين عن البحث في التاريخ إلى البحث في أصالة الحاضر قائلةً للغرْب: أزيحُوا فوّهات مدافعكم، وصَلْياتِ أسلحتكم، وانظرُونَا نقتبس من نور المعرفة، مؤسّسينَ لحضارةٍ عربيّة شرقيّة تكون كونيّةً للبشر أجمعين. فما كان إلّا عِدّةٌ من سنوات قِلال أنشأت فيها قطر صُروحًا رياضيّة، وأروقة من حضارة تُبهر الناظرين، بعد أن عاش الغرب مئات السنين يولّي من الشّرق فرارًا، ويملَأُ منه رّعبا.

gettyimages
ملعب 974 المبني كاملًا من حاويات النقل (Getty)

يمكن الحديث عن ثمانية ملاعب شكّلت تراث الشّرق العربيّ وخليجه، وشكّلت حاضرًا لتاريخ المكانِ والزّمان، فالأنظارُ ستتجه نحو البيت العربيّ وخيمة الكرم والعز والإباء، وسيشرب الجمهور قهوةَ الضّيافة وعزّ الكرم في ملعب البيت في مدينة الخور الشماليّة. بعد أن ينفُضَ الزائر غبار الكثبان الرّملية في ملعب أحمد بن علي المستوحى من تموّجاتِ كثبان الصحراء. ولكي تنعمَ بكرم الضّيافة لا بدّ لك أن تلبسَ القُحفيّة وهي لباسٌ للرأس في ملعب الثّمامَة المستوحَى من شكل القُحفية بزركشاتها الجميلة، فمركب جولتك في شطآن الخليج في مدينة الوكرة الجنوبية يحتاج ذاك اللباس؛ فهناك ملعبُ الجنوب المستوحى من شكل مركب الصيد الشراعيّ. وأجملُ ما في هذا الملعب أنّه من تصميم ابنة العراق زُها حديد. 

بعد سيْـرِكَ في الكثبان الرّمليّة وشُربِك القهوة العربيّة، ولباسك للقحفية، وجولتك في المركب الشّراعيّ كان لا بدّ أن تصطادَ المحار ببصرك على أقل تقدير عند وصولك إلى ملعب خليفة الدوليّ؛ ففيه العراقة، والحداثة، والاستدامة. وبعد جولتك في التاريخ مكانًا وزمانًا تنزلُ للراحة في زركشات الفن الإسلامي العربيّ في الفنار العربيّ وتتطيب بالأدوات العربيّة الإسلامية عبر الأزمنة، إنه ملعب لوسيل في مدينة لوسيل الحديثة المستوحى من الفنار العربيّ والزركشات الإسلامية عبر مرّ العصور، هذا الملعب الذي يستضيف المباراة النهائية لهذا الحدث الكونيّ. أمّا الحداثةُ فحاضرةٌ في ملعب المدينة التعليميّة الذي يضمُّ جانبه عشرات المؤسسات العلمية في المجالات المعرفيّة المتنوعة؛ فتصميمُ هذا الملعب مستوحى من هذه العلوم والمعارف" حيث تلتقي كرة القدم بالعلم والمعرفة"، كذلك شكلُ الملعبِ، وأبعادُه البصريّة يحيلك إلى شكل الماسّة في وسط الصحراء. أما التواصل ما بين العالم فيكون من خلال حاويات الشحن؛ "استهلاك ما عندك، واستهلاك ما عندي" ليكتمل تراسل الحاجيات في بقعة ملعب 974 المصنوع كاملًا من حاويات الشّحن، وكأنّنا أمام عنفوان "الفنّ الفقير"، والعمارة الراديكالية؛ وبعد المونديال سيعود استخدام الحاويات، وبناء واجهة بحرية نفعيّة للناس.

هذه الأيقونات تشكّلت في دولة نهضت بمواطنيها، ومن يقيم فيها؛ فمن شهد منكم كأس العالم فليشهد على حضارة علميّة

إنّ هذه الأيقونات تشكّلت في دولة نهضت بمواطنيها، ومن يقيم فيها؛ فمن شهد منكم كأس العالم فليشهد على حضارة علميّة، وليأتِ قطرَ ينظر إلى عين الشرق، ويريح بصره بعبق الحضارة الجديدة، وليس بمحاكاة الغرب وحده. وعندما لا يجد الحاقد العنصريّ في الكمال عيبا يبحثُ عن نتوشات الأخلاق وثقافة المكان والزمان ليؤسس عنصريته المقيتة عليها. نعم يا سيّد كيبلينغ الشرق هو الشرق بسحره الجديد، وحضارته المتجددة، والغرب هو الغرب بعنصريته الرجعيّة. لكن اقترب الوعدُ وسيكون لسانُ حال من تفقه في الحقد: حاشا للهِ مـا هَـــذا شَــرْقـــا.