26-أكتوبر-2016

ساحة بلدية مدينة بون الألمانية 1900

لا أشعر أني لاجئ أو مهاجر أو قدمت إلى مكان غريب لا أحس فيه بوجودي، لا أصدق الأوراق والبطاقات الألمانية الممنوحة لي بعيد وصولي، والتي صنفتني "إقامة استثنائية وفق قانون رقمه 22 فقرة 1". لا أصدق أيضًا أني أعيش حاليًا في مأوى مشترك مع عائلات أخرى.. أصدق فقط أني سعيد هنا، في أرض النقاء، أرض الماء.. أرض الراين، غير مكترث لأي تصنيفات إدارية وقانونية أعيش تحت مظلتها.

حكايتي مع ألمانيا قديمة جدًا، عام 1979م، كانت أولى رحلاتي إلى أوروبا، محطتي الأولى كانت بون، التي عشقتها بسبب بيتهوفن، فعندما كنت صبيًا، قرأت عدة كتيّبات صغيرة مصورة مختصرة صادرة عن دار نشر "العلم للملايين" اللبنانية، لأعلام فنية وأدبية وعلمية ورياضية، نابليون، نيوتن، شكسبير، جوته.. كان من ضمنها الموسيقار بتهوفن. لست متأكدًا أني سمعت موسيقاه، لكن قرأت عنها الكثير في الصحف والمجلات.. على فكرة تعلمت القراءة والكتابة وعمري أربع سنوات، كان جدّي الفقيه يأخذني معه إلى المدرسة الملحقة بالجامع ويعلمني مع تلاميذه، وفي الاستراحة يعطيني سندوتش تونة بزيت الزيتون.

ذات يوم في حصة التعبير كتبت موضوع إنشاء عن موسيقانا الشعبية في حي الوحيشي ببنغازي: حي شعبي يعج بالمغنيين الشعبيين المشهورين في كل ليبيا كحميده درنة وعبدالجليل الهتش والفيتوري أحمد وسعد الوس وغيرهم، وتطرقت في منتصف الإنشاء لحياة بيتهوفن العاطفية والعملية والصحية، خاصة صممه، مستمدًا المعلومات من ذاك الكتاب الصغير المصور.. مدرس اللغة العربية السوري أستاذ ربيع، لفتت نظره المقالة-الإنشاء فسألني:
- هل حقًا تعرف بيتهوفن وسمعت موسيقاه؟
- أعرفه من خلال الكتب، قرأت عن موسيقاه فقط، وأضفت: ربما أكون قد سمعتها في أحد الأفلام دون أن أعرف أنها لبيتهوفن.
- حسنًا، عظيم.

في اليوم الثاني أحضر لي شريط كاسيت به بعض سيمفونيات بيتهوفن، عدت للبيت وسمعته بشوق وحب وانتشاء أشعرني بقشعريرة مختلطة بفرح وبكاء.

عائلة قريتلية صديقة غادرت بنغازي إلى كريت، ابنهم الملقب زوربا ترك لديّ آلة كورديون: إن عدت سأستعيدها منك، وإن لم أعد فحلال عليك، اعتبرها هدية، محمد مهما أفلست لا تبعها في سوق النملة (سوق شعبي يباع فيه أي شيء).. الودائع الموسيقية لا تباع.. وداعًا محمد.. زورني في كريت انشربك أوزو.. ستقتلكم القرابة البنغازية (خمر محلي).. العائلة غادرت بسبب قوانين اشتراكية أقرها نظام القذافي بدءًا من عام 1977، انتزعت الكثير من ممتلكاتهم تأميمًا وبلطجة ووضع يد.

أعطيت الكورديون لمدرس الموسيقى المصري، المرِح معنا جدًا، حيث كنا نساعده ونشترى له بنقوده سلعًا مدعومة من الجمعيات الاستهلاكية والأسواق العامة التي أتت مع موجة المد الأيديولوجي الاشتراكي، هو بدوره يرسلها لأهله في مصر.

- أستاذ حماده حاسب حاسب أوعا تبوزه (حذاري تفسده)، دي آلة محترمة يوناني. 
- ولا يهمك يا محمد.. اليونان أجْدع ناس.. أنا من إسكندرية.. من الأنفوشي على البحر.. نعرف مزيكا كويس.. وإسكندرية بلد يوناني بامتياز.. بلد فن وفلسفة ودين وشعر.

أذكر ذات مرة أنه قرأ لنا قصيدة لكفافيس ولحن بعض أبياتها.. ها هو بعضها: "سوف تنتهي هنا دائمًا/ انسَ أي مكان آخر/ فأنت لا تملك سفينة ولا طريقًا/ والحياة التي ضيعتها هنا/ ضيعتها في أيّ مكان آخر".

ومرة أخرى حكى لنا باستفاضة عن القديس مرقص الإنجيلي والأسد الذي يرافقه وتراث مسيحي كثير، هو مسيحي، لكنْ نراه كل يوم جمعة أمام الجامع، يصافح المصلين بعد خروجهم ويتبادل معهم الأحاديث، وإن كانت هناك جنازة يلتحق بالركب إلى المقبرة أو بيت العزاء، دائمًا يقول لنا الموسيقى فرح وحزن، سرّاء وضراء، الفنان يكون في المكانين في الوقت نفسه.

عشية خريفية وصلت إلى بون -بنغازي فرانكفورت كولن جوًا- باص صغير رمى بي وسط بون، أول شيء شاهدته تمثال لبيتهوفن بردائه الشبيه بأردية الفلاسفة الإغريق، وشعره المتماوج كليل مجنون، حقيقة لم يكن تمثالًا واحدًا، كانت تماثيل كثيرة متنوعة، رأس، جسد كامل، نصف جسد، المطاعم أمامها التمثال نفسه، والحانات، وحتى بعض بيوت الناس في وسط المدينة، تجد قرب أكرة الباب نقشًا معدنيًا لبيتهوفن.

أصدقكم القول أني شعرت بالغرابة، عندما صرفت العملة الليبية في "دوتشي بنك" بمارك ألماني وواجهني على العملة نسر بجناحيه ومنقاره المعقوف وليس بيتهوفن بردائه الفخم! الفندق الذي اكتريت غرفة فيه بخمسين ماركًا اسمه سافوي، منذ 1979 لم أره، لكن مساء يوم 31-12-2015، وأنا ذاهب للاحتفال بليلة رأس السنة قرب الجسر والمسرح ونهر الراين وجدته يميني، لم يتغير في الفندق أي شيء! وقفت أمامه متطلعًا إلى الألعاب النارية المطلقة في السماء، وقلت: الزمن فعلًا يجري، معي نقود، ولا أنوي العودة للمأوى ليلًا، سألت عاملة الريسبشن، أريد غرفة.. هل لديك حجز؟، نعم. اسمك لو سمحت؟، وأخذت تتطلع إلى شاشة الكومبيوتر، رفعت رأسها مبتسمة وقالت اسمك غير مدوّن؟ عفوًا متى حجزت، منذ زمن طويل، عام 1979، عندما سكنت هنا، ضحكت.. هل أنت سكران.. لا.. طبيعي.. دفعت لها بمجلة بانيبال.. بها نص "العودة إلى بون"، أعطيتها المجلة، وأشرت إلى تطرقي إلى فندق سافوي، قرأت عدة سطور، عظيم، عظيم، تعال إلى هنا، ماذا تشرب، ماء راين، لا. لا.. ضروري شراب ليلة رأس السنة، أي شيء، نبيذ موسل ينفع معك، نعم.. لم تكن الموظفة جميلة، خاصة جسمها الذي غزته السمنة في أكثر من موضع، لكن ليلة رأس السنة ينبغي أن تقول لأي شيء أنت جميل ولطيف ورائع وممتع وسنة جديدة حلوة، إياك وإيذاء المشاعر في تلك الليلة بأي شكل كان.

عزف جيتار يصل مسامعي، عزف ناعم جدًا، ينتشلك من أي خشونة أذى، أخرجت رأسي من النافذة، فتاة تعزف على الجيتار وتمشي برشاقة، العزف ماشيًا أمر صعب، لكن هناك من يمارس حياته ماشيًا، يدخن، يفكر، يتبول، يأكل، يحلم، ينام، أيضًا يمارس الجنس إن وجد جسدًا على مقاس خطوته وطوله. أطلت النظر في الفتاة، تعزف وتمشي ببطء، كأن الموسيقى تحرك قدميها، مؤخرتها المستديرة تهتز كنغم، على ظهرها حقيبة صغيرة ومن كتفها يتدلى حزام به صندوق الجيتار، ما عدت أحتمل المشاهدة، نزلت سريعًا. لم أجدها حيث كانت تمشي، كانت قد انعطفت إلى شارع آخر، لا صوت غيتار حاليًا أسمعه، اللحن أشعر أني قد سمعته من قبل، ربما لبيتهوفن، لماذا أنزلتني الموسيقى من غرفة الفندق ثم صمتت، هل أصابها البكم، كما أصاب بيتهوفن الصمم، ما علينا .. الفنانون دائمًا حواسهم الظاهرية معطوبة، فلنواصل اقتفاء الأثر بحاسة الأمل، آه .. ربما توقفت الفتاة لإشعال سيجارة، أو شرب قهوة، لم أفقد الأمل، ولابد من اقتفاء أثر اللحن عبر صدى الخيال.

* مقطع من رواية قيد الكتابة

اقرأ/ي أيضًا:

فارس في المشهد الأخير من فيلمه الوثائقي

ولد وبنت