16-سبتمبر-2015

من صفحة الكاتب على فيسبوك

ليس ضروريًا هنا أن تُحبّ أو تكره، توافق أو تدين، تصدّق أو تستنكر، تعترف أو تُنكر، افتح عينيك فقط ودع الإنسان يمثل أمامك عاريًا، هذا ما تحيلك إليه رواية "حارس حديقة المحبين" لوليد خيري (دار العين)، أنا، أنت، وغيرنا.. جميعًا تحت مجهر الحقيقة، لأجل ذلك يمكن القول إنها رواية صادمة، تحمل ما تحمل من جرأة، لكنها في المقابل ليست سوى وليدة هذا الزمن وابنة شرعية لجيل بأكمله، جيل الثورات والتمرد، الهواتف الذكية والبيتزا و"جوجل"، وأيضًا جيل التخبّطات والتمزقات بامتياز.

رواية وليد خيري ابنة شرعية لجيل الثورات والتمرد والهواتف الذكية والبيتزا وغوغل

أول ما استوقفني في الرواية، بدءاً من عنوانها، هو التفات كاتبها وتثمينه لعمل بسيط، مهمّش كأعمال أخرى كثيرة تبدو للبعض هامشية وليست ذات قيمة كبيرة؛ من انتبه مرة وهو يدخل حديقة إلى حارسها؟ ماهي حدود تخيلكم لشخصية حارس الحديقة؟ لا أظن أن أحدًا يمتلك إجابات كافية، سأمنحكم ما منحني إياه وليد خيري في رحلة مرحة امتدت ما يقارب الـ400 صفحة، لا يعوزها كثير من الأسى المبطن، من أفكار وتخيلات عن "حارس حديقة المحبين"، وأراهنك سوف لن تدخل حديقة بعد الآن دون التأمل مليا في حارسها!

الراوي هو نفسه بطل الرواية، مع أن فعل البطولة بحد ذاته يتفرّع عنه ليشمل كل شخصياته المحيطة به، ذلك أنه يوليها حقها من الظهور أو في الحكي بقدر ما يوليه لنفسه، مع هذا هو لا يقول قصصًا مكتملة قد تتشوق لنهاياتها، أو يطرح أزمة سوف تنتظر عبر القراءة انفراجها، مجرد حكي مفتوح، يبدأ ولا ينتهي، وقد يُستأنف من جديد، بلا وجهة أو تخطيط، فوضى من الأحداث والمعلومات ليست سوى نسخة أخرى مصغّرة عن فوضوية الحياة المعاصرة، حياتي.. حياتك.. حياة الجميع، كلّ هذا لن يعيق رغم ذلك تشكل مصائر شخوص هذه الرواية التي فهم كاتبها جيدًا لعبة شدّ السرد وإرخائه دون أن تغادر الخيوط يده، سوف تشعر أنك تركض مع هدير السرد، تضيع ويعرف خيري كيف ومتى يُعيدك، تطيع الكاتب صاغراً أن يحشو أذنيك وعقلك بقدر هائل من الحكايا التي قد تبدو لوهلة مألوفة ولكنها النزعة البشرية لفعل الكشف عبر التجسس على حيوات أخرى موازية، وما هذه الرواية سوى ثقب في باب حديقة عامة للعشاق، يضع الكاتب أعيننا فيه لنتجسس بدورنا على فعل تجسس حارسها.

مع بداية السرد في الرواية تنكشف هشاشة العلاقة بين العنوان والمتن، تحديدًا بين صفة البطل الرئيسية ودوره الأساسي الذي تحمل الرواية اسمه وهو الحراسة وبين الذي يقوم به، اسم على غير مسمى ذلك أن الحارس ليس حارسًا تماماً، ولا يقوم بدوره الذي تعودناه والمنوط بعهدته، رجل الأمن الذي عليه أن يقف حائلًا دون تجاوزات مرتادي الحديقة، يبارك تجاوزاتهم وينظر إليها بعين الرضا والامتنان، بل يصل به الأمر إلى مساعدتهم ومشاركتهم، يعيش قصصهم كطرف فيها عبر التلصص اليومي على العشق الذي يراه أجمل ما في الوجود، وسببًا رئيسيًا في ازدهار الحديقة بأشجارها وأزهارها عندما يقول :"أستحلفكم بالله لا تفترقوا فإن مع كل قصة حب تنتهي تموت نبتة صغيرة في الحديقة (...) يا عاشقين أتموا القصص واكتبوا لها خاتمة السعادة أجمعين حتى لا تجفّ الأشجار". 

يا عاشقين أتموا القصص، واكتبوا لها خاتمة السعادة أجمعين، حتى لا تجفّ الأشجار

إلى هذا الحد كان هذا الحارس رقيقًا، محبًّا لفعل الحبّ، إنسانيّ في تعامله مع الإنسان، يحتفل بدوام الحبّ ويبكي في الفراق، يفهم تمامًا معنى أن تكون عاشقًا في بلاد عربية تخجل من الحبّ وتتربص بالمحبين بينما تحتفي بالكراهية والحروب: "أعرف أن مدينتي تطاردكم أينما كنتم، والبوليس الذي تفرون منه، البوليس الذي يحرس النظام مترصد لكم أيها المحبون الطيبون، يراقبكم، يعدّ أنفاسكم، ويعرف اللحظة التي يقرر فيها أحدكم أن يسرق بوسة"، لن تفهم أبدًا سبب الحارس أو دوافع تجسسه، والذي لا يدخر فيه وسيلة متاحة، يراقب بعيني رأسه أو بالكاميرا، يراقبهم أينما كانوا بين أشجار الحديقة أو داخل حمامها، ويهجس بشخصياتهم ووجوههم وطرقهم المختلفة في الحبّ، يطلق عليهم أسماء هي في الواقع صفات مميزة لكل واحد فيهم، ويحتفظ بتذكارات منهم يتركونها خلفهم عن غير قصد، ولا يتصورون أن هنالك من يلتقطها ويحتفظ بها.

هكذا يجعل الكاتب من الحديقة وأبطالها وأحداثها اليومية سلكًا محوريًا للرواية ومنه تتفرع أسلاك أخرى، منها حياة الحارس بعيدًا عن الحديقة، فنحن أمام حارس مثقف حفظ القرآن في طفولته، ومع أنه لم يكمل تعليمه دأب على قراءة الكتب وأحبّ الشعر الذي كثيرًا ما لم يكن يفهمه، اتخذ شاعرًا من شعراء قصيدة النثر صديقاً مقربًا له مع أن الأخير استغل موهبته في الحفظ ليستعمله كموظف عنده، يحفظ كل قصائده ويلقيها على مسامع الآخرين مقابل زجاجة خمر عن كل قصيدة، يطوف به البيوت والمقاهي ليباهي أن أحدهم أحبّ شعره حدّ أن حفظه كله عن ظهر قلب، ويعرفه على حبيبته الفرنسية الشقراء، التي لا يرى شاعر قصيدة النثر ضيرًا أن يمارس ثلاثتهم الجنس معًا، على غرار أغلب طبقة المثقفين العجيبة حيث يشرّح الروائي واقعهم الشاذّ، ومدى الخور الأخلاقي المستشري فيهم وبينهم، والمختبئ خلف كلمة "أدب"، ثقافته المرئية تمثلت في هوسه بعالم الحيوان ومتابعته بشغف من خلال قنوات تلفزية متخصصة.

كان الحارس مؤمنًا أيضًا، يحبّ الله، يحفظ القرآن ويؤمن بكلماته ويستشهد بها، لكن يسكر ويزني ويتجسس ويستمني، يقرأ كتاب الله ويتابع بشغف قنوات البورنو، طيب صدوق يبكي أحزان الناس ويضع كاميرا في حماماتهم للتكشّف على عوراتهم، كل هذه الفوضى والتناقض في كائن واحد ليس سوى أحدنا، وصورة عنا.

ليس في الحياة من يعيش بوجه واحد ولا بشخصية واحدة، ما نخفيه عن أنفسنا أشد فظاعة بما لا يقاس بالذي نظهره، هذه الرواية مرعبة في كشف عواراتنا وعورات المجتمع، تعرية الإنسان بمتناقضاته التي تعيش فيه، ورفع غطاء الزيف عن العلاقات بين الناس، الاقتراب من المقدسات ولمسها بيد بشرية، ووضع الخطايا المخجلة في الواجهة، صدمة سوف تأخذها على جرعات لن تشعر بها إلا مع إتمام الرواية.

بلغة سلسة متخففة من أثقال البلاغة والإنشاء، تقترب في بعض مستوياتها من العامية اليومية، تداخلها عبارات رقيعة، بذيئة، وليدة مجتمع بذيء بدوره يفضّل الهروب من أن يجاهر بذلك، تتسع دائرة السخرية في هذا الكتاب لتطال كل شيء، لا تنحصر جرأة الطرح في العنف اللفظيّ والعبارات العارية فحسب، ولا في إيراد دراسة في شكل جدول لأحجام أعضاء الرجال التناسلية حسب البلدان ضمن هذه الرواية ، ولا في حوار مطول مع احدى نجمات أفلام البورنو، ولا في وصف ما يحدث داخل حمام حديقة المحبين، بل أيضًا في جرأة الصراخ في وجه مجتمع مأزوم بصوت عارٍ، يحمل قدر ما يحمله من بذاءة ومباشرة.

عن البذاءة بالبذاءة أيها العالم السيء يكتب وليد خيري أولى تجاربه في كتابة الرواية، وسأسمح لنفسي لأول مرة ضمن مراجعة كتاب أن أزعم أنها رواية العام، بل سأذهب بعيدًا في جرأتي لأدعو القارئ للبحث عنها.