30-نوفمبر-2019

اعتبر جيمس بالدوين إسرائيل حركة استعمار تدافع عن مصالح الإمبريالية (Getty)

في المقالة أدناه، المترجمة عن موقع mondoweiss، توضيح لأفكار جيمس بالدوين، واحد من أهم الروائيين والمناضلين الأفروأمريكيين، حول إسرائيل وعلاقتها باليهود والفلسطينيين، وهو من اعتبر أنها لم تكن دولة من أجل حماية اليهود، وإنما لحفظ وتحقيق المصالح الإمبريالية في المنطقة.


بالنسبة لجيمس بالدوين، لم يبدأ شيء أو ينتهي عند حدود الولايات المتحدة، فرؤاه حول الخلافات بين السود واليهود في بلد نشأته لم تقتصر على الشأن المحلي، بل اتخذت أبعادًا عالمية، فقدم فكرًا غير تقليدي حول علاقات العرق المحلية، والشؤون الدولية، والصراع في الشرق الأوسط.

لم يكن بالدوين متعمقًا في شؤون السياسة، لكن وكما يفترض برجل في مكانته، قد قدم آراءه بانتظام حول القضايا المعاصرة ذات الاهتمام العالمي

لم يكن بالدوين متعمقًا في شؤون السياسة، لكن وكما يفترض برجل في مكانته، قد قدم آراءه بانتظام حول القضايا المعاصرة ذات الاهتمام العالمي. لا تهرب الشخصيات العامة عادة من الإجابة على الأسئلة التي تدور حول فلسطين وإسرائيل، ولم يكن بالدوين استثناء في هذا الصدد. تكشف المرات القليلة التي تحدث فيها عن المنطقة، عن خطيب مفوه ومفكر ذي بصيرة فذة، لا يدع لمستمعيه مجالًا للراحة.

صدرت أكثر آرائه تجاه الصهيونية وإسرائيل تميزًا، في سياق الجدل الذي ثار عام 1984 حول الحملة الانتخابية للمرشح الديمقراطي حينها جيسي جاكسون، والتي مثلت علامة فارقة في مسيرة السود والسياسات التقدمية. استخدم جاكسون حينها لفظ "Hymietown" والذي يعني مدينة اليهود، واصفًا نيويورك (Hymie هي سبة معادية لليهود) في حوار مع صحفي ظن أنه غير مسجل. حين صدرت التقارير بشأن هذا الوصف، تحول الأمر إلى فضيحة.

شارك بالدوين الذي ادعى أن جيسي يتعرض للهجوم لأسباب معينة، في هذا الجدل المثار حينها، عبر محاضرة في جامعة ماساتشوستس بمدينة أمهرست، نشرت في كتاب بعنوان صليب الخلاص، الذي يضم مجموعة من المحاضرات والمقالات والمراجعات (كان بالدوين مراجعًا صارمًا وغير متسامح في بعض الأحيان). وبفضل تدوين الأسئلة والأجوبة حظينا بفرصة لمشاهدة بالدوين وهو يتحدث مرتجلًا دون تحضير مسبق.

هذه وثيقة مميزة، بسبب الجمهور الذي يبدو أنه لا يدرك مرام بالدوين. فبدلًا من ابتذال مقولات حول الصراع والسلام، عرف بالدوين الصهيونية باعتبارها شأنًا إمبرياليًا غربيًا.

متى ما ذكرت إسرائيل، يصبح المرء مطالبًا، كما يبدو لي في بعض الأحيان، بالتزام صمت ورع. حسنًا، لماذا؟ إسرائيل دولة مثل أية دولة أخرى. وقد ولدت بطريقة شاذة وغريبة. لكنها لم تصبح دولة لأن الأشخاص الذين كتبوا وعد بلفور أو ونستون تشرشل أو أي شخص في أوروبا أو العالم الغربي، اهتموا حقًا بمصير اليهود. كان بودي أن أقول غير ذلك، لكني سأكذب إن فعلت ذلك، فقد ولدت إسرائيل كوسيلة لحماية المصالح الغربية عند بوابة الشرق الأوسط.

يؤكد بالدوين على هذه النقطة عندما سأله أحد الحاضرين عن مدى مصداقية القول بأن إسرائيل "صنعت خصيصًا لحماية مصالح النفط في المنطقة". يجيب بالدوين قائلًا "قلت لحماية المصالح الحيوية للغرب ولم أقصد التهكم أو السخرية، لكني سأكذب عليكم وعلى نفسي إن قلت إن الأوروبيين، الإنجليز والألمان والهولنديين والفرنسيين، لديهم أي اهتمام حقيقي بمصير اليهود". ويعود إلى الفكرة القائلة بأن الشعب اليهودي إما تم التخلص منه أو استخدم أداة في سياق التقاليد الرأسمالية الغربية.

بالنسبة لبالدوين، ليست الصهوينة مرجعية ثقافية أو سمة دينية، بل بلورة حديثة لمنطق استعماري دام عصورًا. ويشير قائلًا "ليس عليك أن تحب اليهود لتكون صهيونيًا. فأنا أعرف بعض الصهاينة المعادين للسامية". تفند هذه النقطة بعض أهم المقولات الصهيونية، أن إسرائيل تجسد اليهودية، وأن إسرائيل ضرورية لرد شرور معاداة السامية، وأن إسرائيل تقدم نموذجًا طوباويًا عن الأمة القومية. و تظهر هذه الأيديولوجيا الضرورة التي تنبع منها فكرة الفصل بين البشر الذين يحتلون أرضًا ما والمنافع الاقتصادية التي تحققها الدولة القومية التي توجد باسمهم، في الفكر الاستعماري الكوني.

ما الذي يعنيه أن تكون صهيونيًا معاديًا للسامية؟ (بالدوين محق بالمناسبة، فقادة المسيحيين الإنجيليين وقادة الدول الغربية وأثرياء الخليج العربي كلهم ينطبق عليهم الوصف بطريقة أو أخرى). يُظهر هذا الوصف في المقام الأول، أن الصهيونية عاجزة عن الوفاء بوعدها بضمان سلامة الشعب اليهودي في كل أنحاء العالم. فهي في المقام الأول والأخير مجرد دولة، وبالتالي هي ملزمة بطبيعتها بتحقيق مصالح النخبة المحلية.

والأدهى من ذلك، أن مجرد إمكان وجود صهيونية معادية للسامية يسلط الضوء على أن الدولة الموعودة ليست ملاذًا دينيًا روحانيًا، بل كيانًا متورطًا في نفس العنف الذي تدعي أنها تسعى لتخفيفه. وهو تناقض يسهل تبادل المنفعة بين مشروع استعماري كولونيالي والرأسمالية العالمية: اخلط شعبًا ما بدولة، التي هي كيان مخصص لتحقيق مساع غير إنسانية، ولن يرقى الشعب لمستوى أي نوع من أنواع الأفكار المثالية عنه. الدولة عاجزة وغير مهتمة بتخفيف المأساة.

الصهيونية المعادية للسامية ممكنة لأن إسرائيل تحقق مصالح طبقة حاكمة شوفينية. لا يهتم أفراد تلك الطبقة مطلقًا بصحة ساكني الدولة. في الحقيقة وبالنظر إلى ظروف العنف وتراكم الثورة في الإمبراطورية، يصبح حب إسرائيل وكراهية اليهود منطقيًا. فلم يختر اليمين المتطرف إسرائيل نموذجًا لإدارة الدولة من فراغ.

لم يكن بالدوين متفردًا في تحليله هذا، فقد اتهم المفكرون الفلسطينيون وعدد كبير من الأصوات المعادية للاستعمار، لأكثر من قرن الصهيونية باعتناق القومية العرقية. لم يكن بالدوين بحاجة للتخصص في أحوال المنطقة أو الارتباط بتاريخ شخصي بها، ليكون قادرًا على تقديم نقد مستبصر للصهيونية. ويبدو أن لديه فهم حسي فطري لعنف إسرائيل الخاص والمميز، ولمَ لا وقد أدرك مساوئ الرأسمالية والكولونيالية والإمبريالية، وأدرك عقيدة الخلاص والاستثناء، وفهم العنصرية الأمريكية.

والمتعقب الدقيق لفكر بالدوين بإمكانه توقع مقاربته هذه. فقد عبر عن عدم رضاه بالصهيونية وتجسيدها لعقيدة سيادة البيض قبل محاضرة جامعة ماساشوستس. فكره عن علاقات السود واليهود أعقد من أن تشمله مقالة واحدة (أو أن يحيط به فهمي الخاص)، لكن إذا كان بالإمكان تلخيصه فالسطر التالي يؤدي المهمة: "لا يتمنى المرء أن يخبره يهودي أمريكي أنه يعاني بقدر معاناة أمرسكي أسود. هي ليست كذلك والمرء يعرف أنها ليست كذلك من مجرد اللهجة التي يؤكد بها هذا اليهودي على أنها كذلك".

يكشف هذا السطر عن رجل ضجر لكنه لا ينثني عن موقفه، ولم يقصد به تخصيص تراتيبة للمعاناة تحقق أحقية عرقية. في مقالة في مجلة Nation عام 1979، يرى بالدوين أن الانتماء للبيض لا يخضع للشرط الجسدي الجيني بل يكمن في العلاقات الاجتماعية، فيقول "اليهودي في أمريكا هو رجل أبيض. يجب عليه أنيكون كذلك، بما أنني أنا رجل أسود، وبما أنه يفترض أن هذا هو طريقه الوحيد للنجاة من المصير الذي قاده إلى أمريكا في المقام الأول".

يرى بالدوين في التطلعات اليهودية للانتماء للبيض، تسوية حمقاء مع قوى معادية بطبيعتها. يقول "لكن دولة إسرائيل لم تخلق لأجل خلاص اليهود، بل لأجل تحقيق المصالح الغربية. يزداد هذا الأمر وضوحًا يومًا بعد يوم (علي أن أقول هنا أن هذه الحقيقة لم تخف عني يومًا). يستمر الفلسطينيون في دفع ثمن سياسة فرق تسد الاستعمارية البريطانية وثمن إراحة الضمير المسيحي الأوروبي المعذب لأكثر من ثلاثين عامًا". (لاحظ أن بالدوين يؤرخ لهذا الظلم بعام 1948 وليس 1967).

الإشارة إلى الفلسطينيين مهمة، فبالدوين الذي يصف نفسه نصيرًا للعرب يرفض إقصاءهم من الحوار، مما يعني أنه يرفض وصم ما يسمى جزافًا بـ "الصراع" باعتباره مسألة تخص اليهود (وهو ما اعتاد بعض المعادين للصهيونية فعله ولو دون قصد). فهو يؤكد على هذه النقطة قائلًا:

ليس هناك أمل مطلقًا - وأكرر مطلقًا - في تحقيق السلام في المنطقة التي تسميها أوروبا بدافع من غرورها، الشرق الأوسط (كيف تعرف أوروبا ذلك؟ وقد فشلت فشلًا ذريعًا في إيجاد ممر إلى الهند) دون التعامل مع الفلسطينيين. إن سقوط الشاه في إيران لم يكشف فقط عن العمق الحقيقي لاهتمام كارتر بحقوق الإنسان، بل كشف أيضًا عمن أمد إسرائيل بالنفط ومن زودته إسرائيل بالسلاح. فقد تبين أنها في الحقيقة، جنوب أفريقيا البيضاء.

هنا يفكك بالدوين التحليل المعقد إلى أسسه البسيطة. تدعم الصهيونية البنى العالمية التي تقوم عليها سيادة البيض، لذا فإن الاستثمار الثقافي والديني في هذه الأيديولوجيا يعيق أي إمكان لوجود سياسة أخلاقية. بالطبع اتخذت إسرائيل جانب جنوب أفريقيا البيضاء. وبالبطع تسرع إسرائيل المخططات الأمريكية والأوروبية في المنطقة المسماة الشرق الأوسط. ولهذا خلقت من الأساس. فتدمير فلسطين كان تدشينًا لهذا التحالف الرجعي. 

اقرأ/ي أيضًا: ما بعد إسرائيل.. تشريح الذات الصهيونية

كشفت فيسبوك عن تدخل شركة استشارية إسرائيلية في الانتخابات في جميع أنحاء الجنوب العالمي، الذي سماه المتحدث باسم الشركة "مناطق متنوعة تنوعًا مذهلًا". لم يكن بالدوين ليندهش من هذا الخبر ولا يجدر بأحد أن يندهش. ففي النهاية إسرائيل أحد المتدخلين القدامى في الانتخابات الأمريكية. وفي عالم ينقسم جغرافيًا إلى جزء غني وآخر معدم، تمثل إسرائيل طبقة عابرة من مشعلي الحروب وشركات المرتزقة وتجار السلاح. 

بالنسبة لبالدوين، ليست الصهوينة مرجعية ثقافية أو سمة دينية، بل بلورة حديثة لمنطق استعماري دام عصورًا

يدرك بالدوين ما غفل عنه كثير من رموز اليسار الغربي، وهو أن إسرائيل ليست ناتجًا عن إعادة تدوير محيطها، وليست مثالًا حميدًا منفصلًا عن أصله، بل هي بوابة لفرض الانضباط والسيطرة على عالم غريب قابل للاستهلاك.