جيل "زد" يربك المشهد المغربي: مطالب اجتماعية في مواجهة أولويات الدولة
29 سبتمبر 2025
منذ أسابيع، تشهد مدن مغربية عدة موجة احتجاجية غير مسبوقة من حيث تركيبتها العمرية وأدوات تنظيمها. فالمبادرة لم تأتِ من أحزاب تقليدية أو نقابات راسخة، بل من جيل شاب وُلد في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، يعرف اصطلاحًا بـ"جيل زد".
عبر هواتفهم الذكية ومنصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام" و"ديسكورد"، تحوّل هؤلاء الشباب إلى فاعل سياسي واجتماعي جديد على الساحة، قادر على حشد الآلاف في الشارع خلال ساعات قليلة، وطرح أجندة مغايرة لأولويات الحكومة.
مشهد غير مألوف في الشارع المغربي
شهدت الدار البيضاء، الرباط، مراكش، طنجة ومدن أخرى تظاهرات متفرقة شارك فيها مئات إلى آلاف الشبان والشابات. ورغم الطابع السلمي العام للحراك، لم تخلُ المشاهد من مواجهات مع قوات الأمن التي لجأت إلى تفريق التجمّعات واعتقال عشرات المشاركين. الصحافة المحلية وصفت هذه التحركات بأنها "الأكبر منذ سنوات" من حيث الحضور الشبابي والانتشار الجغرافي.
هوية رقمية بدل القيادات التقليدية
على عكس الحركات الاجتماعية السابقة التي ارتبطت غالبًا بأطر نقابية أو حزبية، جاءت هذه الموجة الاحتجاجية بصيغة مختلفة تمامًا، حيث تميزت بغياب القيادة المركزية واعتمادها على دينامية رقمية مفتوحة تقودها مجموعات شبابية تنشط على منصات التواصل الاجتماعي.
فقد برزت حملات افتراضية مثل "Gen Z 212" و "Morocco Youth Voices" لتتحول إلى فضاءات تعبئة وتنسيق، مستخدمة أدوات عصرية كالمقاطع القصيرة على منصات "تيك توك" و"إنستغرام"، والرسوم الغرافيكية، والشعارات المبسطة القابلة للتداول بسرعة.
جاءت هذه الموجة الاحتجاجية مختلفة عن سابقاتها، بغياب القيادة المركزية واعتمادها على مجموعات شبابية تنشط عبر منصات التواصل الاجتماعي
ويؤكد النشطاء أنهم لا ينتمون إلى أي تيار سياسي تقليدي ولا يمثلون أي إطار حزبي، بل يعبّرون عن هموم يومية تخص فئة واسعة من الشباب المغربي: صعوبات البطالة، غلاء المعيشة، وتردي الخدمات العمومية. هذه الطبيعة اللامركزية والرقمية تمنح الحراك مرونة وانتشارًا يصعُب على السلطات التقليدية احتواؤه أو اختراقه، وتجعله أقرب إلى موجة احتجاجات عابرة للحدود تشبه ما حدث في الجزائر ولبنان وتونس، حيث لعبت الأجيال الشابة ووسائل التواصل دورًا محوريًا في صياغة خطاب احتجاجي جديد يقوم على المطالب الاجتماعية المباشرة أكثر من الأيديولوجيات.
المطالب: بين الحاجات اليومية والخيارات الاستراتيجية
لا تبدو المطالب التي رفعها جيل "زد" في المغرب معزولة عن واقع يعيشه المواطن المغربي منذ سنوات، بل هي انعكاس مباشر لأزمات اجتماعية واقتصادية متراكمة في قطاعات حيوية. فالصحة والتعليم، اللذان يشكلان ركيزة أساسية للاستقرار الاجتماعي، تحوّلا إلى قضية وجودية للأسر، في ظل النقص الحاد في الأطباء والتجهيزات، وتزايد الفوارق بين التعليم العمومي والخاص، ما جعل الشباب يعتبرون تدهور هذين القطاعين مساسًا بالعدالة الاجتماعية وبحقهم في مستقبل أفضل.
كما رفع المحتجون شعار "المحاسبة" في مواجهة ما يرونه إفلاتًا ممنهجًا للمسؤولين من المساءلة، مؤكدين أن مكافحة الفساد وسوء التدبير لم تعد مجرد مطلب ثانوي، بل شرطًا جوهريًا لإعادة بناء الثقة المفقودة بين المجتمع والدولة.
وإلى جانب ذلك، ركّزت الحركة الشبابية على انتقاد أولويات الإنفاق العام، معتبرة أن الاستثمارات الضخمة في الملاعب والبنى التحتية استعدادًا لاستضافة بطولات رياضية كبرى، مثل كأس العالم 2030، تتم على حساب القطاعات الاجتماعية الأساسية التي تمس حياة المواطنين اليومية. ومن منظور جيل "زد"، فإن الدولة تراهن على تحسين صورتها الخارجية وجذب الاستثمارات والسياحة عبر مشاريع كبرى، لكنها في المقابل تهمل معالجة جذور الأزمات الداخلية التي تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على المدى الطويل.
رد الدولة: احتواء أمني ورسائل سياسية
تعاملت السلطات الأمنية مع المظاهرات بمزيج من التفريق والاعتقالات، في محاولة لاحتواء الحراك ومنع تمدده إلى مدن أخرى. وفي المقابل، شددت الحكومة على أن مشاريعها الاستثمارية، بما فيها الرياضية الكبرى المرتبطة باستضافة أحداث عالمية مثل كأس العالم 2030، ليست ترفًا سياسيًا بل جزء من خطة استراتيجية تهدف إلى تعزيز مكانة المغرب دوليًا، وجذب الاستثمارات، وخلق فرص عمل على المدى البعيد.
كما تعهدت بمواصلة الإصلاحات في مجالي الصحة والتعليم باعتبارهما ركيزتين للتنمية الاجتماعية. غير أن هذه التطمينات الرسمية لم تفلح في تبديد شكوك المحتجين، الذين يرون في الخطاب الحكومي إعادة إنتاج لوعود سابقة لم تُترجم عمليًا، بل على العكس رافقتها أزمات اجتماعية متفاقمة.
ويشير مراقبون إلى أن الهوة بين خطاب الدولة وتطلعات الشباب تكشف عن أزمة ثقة عميقة، حيث ينظر المحتجون إلى الإجراءات الأمنية بوصفها تأكيدًا لغياب الإرادة السياسية الحقيقية في الإصلاح، فيما تعتبر السلطات أن الاستقرار شرط مسبق لإنجاح أي إصلاح أو استثمار. وهكذا، يتواصل الشد والجذب بين الشارع والدولة في معادلة لا تبدو سهلة الحل، خصوصاً في ظل ارتفاع سقف التوقعات لدى جيل جديد يطالب بنتائج ملموسة وسريعة.
لماذا جيل "زد"؟
يرى محللون أن الجيل الجديد في المغرب لا يكتفي بالتعبير عن غضبه من الواقع الاجتماعي، بل يصوغ خطابًا متمايزًا يعكس وعيًا حقوقيًا واجتماعيًا متأثرًا بالثقافة الرقمية الكونية. هذا الجيل، الذي نشأ في فضاء مفتوح على التجارب العالمية عبر شبكات التواصل، يضع الكرامة والعدالة والمساواة في قلب مطالبه، مع إحساس عميق بالهوة المتنامية بين الوعود الرسمية وواقع الخدمات الأساسية. وتمنحه قدرته على التحرك السريع والتنظيم الأفقي عبر المنصات الرقمية مرونة وزخمًا يصعب على السلطات تجاهله، لكنه في الوقت ذاته يفتقد إلى الأطر التقليدية للتفاوض مع المؤسسات، سواء عبر الأحزاب أو النقابات. هذا النقص قد يجعله عرضة لتبديد جهوده أو لمحاولات الاحتواء والاستغلال السياسي من أطراف مختلفة، في وقت يصر فيه المحتجون على استقلاليتهم ورفضهم الانخراط في قنوات فقدت، بالنسبة لهم، الشرعية والثقة.
السيناريوهات المحتملة
يطرح مراقبون جملة من السيناريوهات الممكنة لمستقبل هذا الحراك. أولها أن يؤدي الضغط المتواصل إلى تنازلات تدريجية من الدولة، مثل إطلاق برامج عاجلة في الصحة والتعليم أو تعزيز آليات الرقابة على المال العام، في محاولة لامتصاص الغضب دون المساس بجوهر السياسات المالية الكبرى.
السيناريو الثاني يتمثل في احتواء الحراك عبر القنوات التقليدية، أي محاولة إدماج الشباب في مبادرات رسمية أو عبر وسطاء حزبيين ونقابيين، وهو خيار يواجه تحديات لكون هؤلاء الشباب يرفضون مسبقًا تلك الوساطات.
أما السيناريو الثالث فهو التصعيد والمواجهة المفتوحة، إذا واصلت السلطات الاعتماد على المقاربة الأمنية وحدها، ما قد يدفع إلى توسيع رقعة الاحتجاجات وتعميق أزمة الثقة بين الجيل الجديد والمؤسسات. وهناك أيضًا سيناريو رابع محتمل، يقوم على تفتت الحراك أو تحوله إلى موجات متقطعة مرتبطة بأحداث أو أزمات ظرفية، خاصة في ظل غياب قيادة واضحة وآليات تفاوض منظمة.
وبين هذه المسارات، يبقى العامل الحاسم هو قدرة الدولة على الانتقال من وعود متكررة إلى إصلاحات ملموسة، وإلا فإن الفجوة مع جيل رقمي سريع الحركة قد تتحول إلى أزمة بنيوية طويلة الأمد.
جيل "زد".. اختبار جديد لمعادلة الشارع والدولة في المغرب
تكشف احتجاجات جيل "زد" في المغرب عن دخول فاعل غير تقليدي إلى الساحة الاجتماعية والسياسية: شباب يتنفسون العالم الرقمي، يتحركون خارج الأطر الحزبية والنقابية الكلاسيكية، ويطرحون أسئلة صريحة حول أولويات الدولة في توزيع الثروة والموارد. ما يميز هذه الحركة أنها لا ترفع شعارات أيديولوجية بل مطالب يومية ترتبط بالحق في الصحة والتعليم والكرامة، وهو ما يجعلها أكثر قربًا من هموم الشارع وأوسع قدرة على التعبئة.
لكن هذا الزخم، الذي يزاوج بين الحملات الرقمية والنزول الميداني، يضع السلطة أمام تحدٍّ مزدوج: الاستجابة لمطالب تبدو مشروعة من جهة، والحيلولة دون انزلاق الاحتجاجات إلى أشكال من الفوضى أو الاستقطاب السياسي من جهة أخرى. وبين حماس الشارع وحذر الدولة، يبقى مستقبل الحركة الاحتجاجية مفتوحًا على احتمالات متعددة: قد تتحول إلى قوة ضغط إصلاحية تعيد تشكيل العلاقة بين المجتمع والمؤسسات، أو تتعرض للتفكيك عبر القمع والتضييق، أو تتبدد بفعل غياب قيادة واضحة تضمن الاستمرارية.