22-سبتمبر-2018

يقدم جيل النجار تشريحًا نظريًا لمفهوم الدمار (تويتر)

في مساهمته عن تفكيك ثنائية "اليهودي، العربي"، وضح جيل أنيدجار ذات مرة، وهو اليهودي القادم من المغرب العربي، أن التحول الذي طرأ على طريقة لفظ اسم عائلته، بين النجار وأنيدجار، كانت نتاجًا للعنف الرمزي الذي فرضته هذه الثنائية الصارمة، التي ترفض أي تداخل أو تقاطع، كما توضح مقابلة معه أجرتها نارمين الشيخ ونشرت بالعربية في مجلة الكرمل، بترجمة عبد الرحيم الشيخ ورنا بركات. وبينما كان المحاضر في جامعة كولومبيا، حيث يقع إرث أحد المؤثرين عليه، إدوارد سعيد، يتنقل بين حقول نظرية واسعة، كان تركيزه على "اللاهوت السياسي" مدخلًا ليطل على تراث واسع من هذا العنف الإنساني بمختلف أشكاله، ولم يكن من المستغرب بطبيعة الحال، أن تستضيفه السلسلة التي تجريها  مجلة "لوس أنجلس ريفيو" المتخصصة في النقاش الفلسفي لمفهوم العنف.

 كما يتجسد العنف  في كل هذا الخراب المحيط بنا، فإنه كذلك ينمو داخل النزعات الأوتوبية التي تسعى لمحاربته، أو التي تطمح لعالم خالٍ منه

تركز هذه المقابلة الغنية نظريًا وفلسفيًا، على مفهوم الدمار، الذي يقترحه أنيدجار/النجار في موازاة مفهوم العنف، معتبرًا أنه الميزة الصارمة، التي يمكن من خلالها تعريف الحياة المعاصرة. ويتنقل صاحب "اليهودي، العربي" (The Jew, the Arab) بين فكر جاك دريدا وميشيل فوكو وحنة أرندت ووالتر بنجامين وغيرهم، موضحًا تاريخ هذه المفهوم، العصي على التعريف الواضح، رغم وجوده في كل مكان في المجتمعات الحديثة.
 
يثبت مفهوم العنف كما يوضح الأكاديمي البارز، الحاجة الماسة للتعامل معه في "العصر النووي" وفي زمن الأسلحة الشاملة والفقر والإبادات العرقية والإثنية، حيث إن العنف وكما يتجسد في كل هذا الخراب المحيط بنا، فإنه كذلك ينمو داخل النزعات الأوتوبية التي تسعى لمحاربته، أو التي تطمح لعالم خالٍ منه. إن العنف كما يعبر عنه النجار/أنيدجار بتكثيف عالٍ، يقع في قلب هذا الدمار، كما أنه يقع في قلب التوق إلى محاربته. وفي نفس الوقت، فإن الحدود ليست واضحة، وربما ليست موجودة، بين مفهومي الدمار والبناء.

اقرأ/ي أيضًا: شبح ميشيل فوكو في 2018.. رباعية ختام لـ"تاريخ الجنسانية"
 
لقد دمرت التكنولوجيات "البناءة" شعوبًا كاملة، كما أن الدمار لم يقبع في أي مكان كما كان داخل النزعة الإنسانية نحو "التقدم". وربما ليس من المصادفة أبدًا أن تترافق "النهضة" المثمرة، مع كثير من الخراب والإبادة والاستثناء والعنف. وفي اللحظة التي وصل هذا "التقدم" فيها إلى مرحلة لا يمكن احتمالها، يشير النجار/ أنيدجار  بشيء من الأسف، أن أولئك الذين دأبوا على المطالبة بهذا التقدم، والذين يحظون بالامتيازات التي ترتبت عليه، يقفون في نفس الصف مع أولئك الذين كانوا وما زالوا ضحايا له، أمام مسؤولية تاريخية لتحمل كل هذا الدمار.

هل تجاوز الدمار مفهوم العنف؟ وهل تغلبت أدوات العنف (الأسلحة، الأفكار، العقائد، إلخ) قدرات العنف نفسه ومداه؟ وهل اكتسبت نوعًا من الفاعلية والقدرة التي تنفصل عن القائمين عليها؟ يصعب تحديد اتجاه واضح لهذه المقابلة الغنية، وهو ما لا ينطوي بالتأكيد على ضعف منهجي، وإنما على شيء من التعقيد البنيوي داخل هذا الحقل النظري، شحيح الدراسات والمساهمات، كما يوضح الأكاديمي المعروف، لكنه لن يكون من الصعب على القارئ، الخروج بخلاصة أنها تعطي إضافة ملموسة على هذا النقاش الفلسفي عن العنف، الذي تقدمه سلسلة "لوس أنجلوس ريفيوز"، والذي ترجم "ألترا صوت" عددًا من حلقاته إلى العربية.


إليكم الحلقة الثانية والعشرين من سلسلة الحوارات مع الفنّانين والكتّاب والمفكّرين النقديّين حول مسألة العنف. نتجاذب أطراف الحديث في هذه الحلقة مع جيل أنيدجار، المحاضِر في جامعة كولومبيا. والذي نشر آخر كتبه عام 2014 باللغة الإنجليزية تحت عنوان "دماء: نقد المسيحية" (Blood: A Critique of Christianity)

براد إيفانز: لا يمكننا التفكير في العنف بمعزل عن بعض الارتباط بالدمار. فسواء كنّا نتحدّث عن هلاك الأجساد أو الأرواح أو المدن أو حتى كوكب الأرض بأكمله، فإنّ إفناء أو قتل شيء ما ينطوي على خراب ونقض من شكل خاص. وعلى الرغم من ذلك، وكما ناقشتَ هذه المسألة، فإنّ مفهوم الدمار نفسه غير مؤطّر نظريًّا. فما هو مفهومك للمصطلح، خاصةً فيما يرتبط بالعنف وتأثيراته؟

جيل أنيدجار: في أعقاب نقاش خضناه لصالح مشروع "Disposable Life"، بدأت بحث ودراسة الأسلحة -وبوجهٍ عام- أدوات الدمار، وهو موضوع قد يبدو مثيرًا لاهتمام المؤرِّخين العسكريِّين وطلبة العلوم والتكنولوجيا في المقام الأول، لا الفلاسفة في نقاشهم حول مسائل السلطة أو العنف. إلا أنه خلافًا لمسألة الأدوات، وعلى الأخص فيما يتعلق بالدمار، وجدت نفسي -كما هو متوقّع- أبحث عن مفردات.  في العصر النوويّ (قد تبدو العبارة غريبةً بقدر ما تظل دقيقة)، والذي هو أيضًا عصر الطائرات بدون طيّار، وعصر الفقر العالمي والدمار البيئيّ، قد يبدو من المبتذل الجزم بأنّ كلمة "عنف" قد فقدت قدرتها على الوصف، وقوّتها في التأثير علينا. فاستنادًا لتصنيفاتنا المتعدّدة لكلمة "العنف" (مثل العنف العرقيّ والدينيّ اللذين احتلّا رأسَ القائمة لفترة طويلة، إلى جانب العنف السياسيّ؛ والعنف الجنسيّ الذي ربّما تنامَى في الوعي الحالي)، يبدو أننا صبَغنا كافّةَ جوانب الحياة بقدرٍ من العنف، في ذات الوقت الذي نواصل فيه أحلامَنا (في اليقظة، حسب ستيفن بينكر) بالعيش في عالم أقل عنفًا، أو حتى خالٍ من العنف. هناك طريقة أكثر إيجابيّة للقول ببساطة إنّ كلمة "عنف" (تمامًا مثل كلمة "حرب" على السرطان أو المخدرات أو الفقر أو الإرهاب) قد وُجِدت لتحمل كثيرًا من الأعباء، وصِيغَت كي تحمل معاني كثيرة جدًّا. بالنسبة لي، لا زلت غيرَ واثقٍ من قيمة ما أبحث عنه، لكنّني أتساءل عمّا إنْ كنّا سنصل إلى قدرٍ مختلف من الفهم إذا ما فرَّقنا بين مفهومَي العنف والدمار.

لقد دمرت التكنولوجيات "البناءة" شعوبًا كاملة، كما أن الدمار لم يقبع في أي مكان كما كان داخل النزعة الإنسانية نحو "التقدم"

أحد عواقب ذلك، حسب ما يظهر لي، هو الإقرار بأنه كما قد تنتهي العوالم وسط أنينها، يمكن أن يقع الدمار دون عُنفٍ يُذكَر. لننظر إلى البلاستيك (والذي كان يبدو قبل ذلك شيئًا تافهًا إذا ما قورن بالحرب) وما يفعله في المحيطات وفي الحياة بشكل عام. أو فكر قليلًا في آثار شراب الذُّرَة على صحّة الإنسان، فكّر في المضادّات الحيويّة، أو النشاط الإشعاعيّ، أو انقراض الحيوانات. أشياء كثيرة تُدمَّر دون أيّ عنف على الإطلاق، وبعيدًا عن أيّ نطاق للصراعات المفتوحة، وبمعزل عن الفتك الفوريّ أيضًا (لكننا نعرف حقَّ المعرفة أنّ الموت ليس دائمًا أسوأ ما قد يحدث، إذ إنّ هناك الكثير مما يمكن أن يقع ويدفع الحياة إلى آفاقٍ لا يمكن تصوُّرها من عدم الاحتمال، من خلال تقنيات التعذيب أو المعسكرات الكاملة على سبيل المثال، أو وفق "نظام صحّيّ" صُمِّم على ما يبدو لجعل الموت بعيدَ المَنال، ولكن يسمح بمرور ما هو أسوأ بكثير). والأمر هكذا، ما زال من الممكن تحديد نوع معيّن من العنف في تلك الأمور، وفي البقاء نفسه، وفي خصخصة المياه أو المدارس، ما يجعل الحصول عليهما أمرًا صعبًا. ويمكن للمرء أيضًا القول إنَّ العنفَ دائمًا يسبِّب الخرابَ والدَّمار. ولكن حتّى مع ذلك، فإن هذا قد يعني التفكيرَ في العنف تحت مسمًّى مختلِف، ربما أكبر أو أكثر تفصيلًا. سيتطلّب ذلك أنْ نضعَ مسألةَ العنف جانبًا -ولو لأغراضِ التحليل فحسب-، ونركّز انتباهَنا على الدمار. وهو ما يعني أننا سوف نغيِّر خريطةَ مخاوَفِنا، ونعاود التفكير في مجموعة مختلفة من الأشياء على وشك التلاشي، سواء بشكل موسّع، أو كامل، أو نهائيّ.

الجانب الآخر من شعوري بفقر المفردات، يرتبط بالمدى الواضح لاتساع معجم إجراءاتنا وإنتاجِنا، وأعمالِنا وصنيعِ أيادينا، والعمل والفاعليّة agency، إي العمل البنّاء والأداء. إنّ السيطرة الحتمية -بلا شكّ- للأنشطة والفاعليّة (والتي بالكاد عارَضها عدد قليل من مفكري الاستسلام، ومتخصصي علم الضحايا) لم تترك لنا إلا عددًا محدودًا جدًا من الموارد للتفكير في التدمير خارج الإطار الجدليّ المعتاد (النسق الذي يُضرَب به المثل)، أو أي شيء آخر خلافًا لهذا النوع من الهدر، أو "الأضرار الجانبيّة". على الرغم من أنّ التدمير واضح في كلّ شيء، وظاهر بشكل متزايد في كلّ ما يحيط بنا، ليس ثمّةَ تحليل ودراسة له، وليس هناك منهج علميّ لتصنيفه، ولا حتى منظور خاص به - بافتراض إمكانيّة ذلك أصلًا. بل إنّ العنف، الذي استفحل داخل وعلى يد المجتمعات، وبطبيعة الحال على يد الدول، يمكن أن يُناقَش في أغلب الأحيان دون أدنى اعتبار للأدوات التي يُمارَس من خلالها (حتى كلاوزفيتز لم يكن لِينزعج من التفكير في الأسلحة بطريقة جدّيّة).

اقرأ/ي أيضًا: إدوارد سعيد والموقف من الماركسية

يبدو كل شيء كما لو أن السياسة (التي أصرت حنّة أرندت على تسميتها بـ"صناعة العالم") هي مدمِّرة وحسب، ومخرِّبة للعالم، كشكل من أشكال الضرورة المؤسفة، أو عن طريق الصدفة، أو بالانحراف، أو حتى بأهداف شريرة. وما قد يكون سوء استغلال للتكنولوجيا، والذي يؤدّي بنا إلى أحد اتجاهين، فدائمًا هناك اتجاهان. أمّا القانون -لنأخذ مثالًا مختلفًا ربّما- فقد تسبَّب في تدمير حياة ما لا يُعدّ ولا يُحصى من الأشخاص (بداية من الملكيّة، مرورًا بالعبوديّة، وانتهاءً بالإبادة الجماعيّة)، لكنه يُنظَر إليه بإصرار على أنه "بنّاء"، فهو حقل من الأعمال والأفعال والقرارات. يعتبر شعار "فقط افعلها!" شعارًا حاكمًا فيما نسعى جاهدين إلى أن نكونه -أو نتخيل أنفسنا، أو نجعل أنفسَنا فيه (عظماء مرة أخرى)- نسخةً من الإنسان الخالق أو الإنسان الكادح. وليس الإنسان الفائض أبدًا. وعلى غرار أرسطو، يبدو أنّنا نعتقد بأنّ التحوّل إلى لا شيء فقط يناقض -إن لم يكن مجرّد عرضٍ جانبيّ- التحوُّل إلى شيءٍ ما. 

التدمير، كما قلت، في كلّ مكان. وقد بلغ حجمًا هائلًا. نحن محاصرون به، وقد عمّ جميع الأخبار، وعلى مرّ التاريخ. فكّر في آلهة الدمار القديمة وغير القديمة، سواء كانو مقدَّسين أو عبارة عن وباء طاعون في القرون الوسطى (حيث يمكن للمرء أن يصبح -حرفيًّا- قبلانيًّا kabbalistic، في بداية العالم ونهايته)، فكّر في "الدمار الخلّاق" (ماركس، وشومبيتر)، أو فكّر مرّة أخرى في الدمار المستمر للبيئة. نحن نعلم أن التدمير يحيط بنا، ويُمكننا إدراكه في كل ما تقع عليه أعيننا ونشاهده ونقرأه (ذلك الدمار الهائل الذي يحدث في الأفلام السينمائيّة والثقافة الشعبيّة يستحقّ نقاشًا خاصًّا به). يمكنك القول إنّنا شهودٌ على ذلك، وإنْ كنّا بالكاد شهودًا سلبيّين. على أيّة حال، قليلون مَن تفكّروا مليًّا في التدمير على نحوٍ مستدام.

وكما تعلّمتُ من أفيتال رونيل، حاولت القولَ إنّ هايدغر من بين قلائل تعمَّقوا في التفكير في التدمير. لم يروِّج هايدغر للتدمير، إذْ لم يكن نيتشه؛ لكنّه قدَّم أساسًا علميًّا لتصنيف التدمير (بالمصادَفة، كانَ مثيرًا جدًا للقلق، تمامًا كالقضايا الأخرى ذات الصلة الوثيقة، والتي جذبت كثيرًا من الاهتمام) يفرق فيه بين التدمير، والإبادة، والتخريب.

مُستبِقًا فوكو -الذي ميَّز بين السلطة القمعيّة oppressive والقهريّة coercive وبين السلطة المثمرة productive والتمكينية enabling- حدَّد والتر بنجامين باكرًا ثلاثةَ أنماطٍ للسلطة: السلطة البنّاءة constructive، والسلطة المحافِظة preserving، والسلطة المدمِّرة destructive. أعتقد أنه كان من المهمّ قيام بنجامين بوضع تلك الأخيرة في انقطاع جذريّ عن سابقتَيها، وأطلق عليها السلطة "المقدَّسة".

لذا تُغضبني سيمونا فورتي عندما تجادل في كتاب "الشياطين الجدد" أنه في ظل "نموذج دوستويفسكي"، غالبًا ما يُنظَر إلى القوة على أنها مدمرة في المقام الأول. أوافق تمامًا من ناحية. لكن من ناحية أخرى، أظل أعاني مع هذا المفهوم وأحتار في مواجهة تكرارات العقيدة الفوكوية "Foucauldian doxa" التي ذكرتها للتو (يمكن للمرء أن يطلق عليها اسم العقيدة الڤيكوية نسبة للفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا ڤيكو ومبدأه" الحقيقة حقيقة في ذاتها verum factum"). وكان يمكن لجورج باتاي أن يصيغها بشكل أكثر تناقضًا مما فعله في مقاله "The Accursed Share"، عندما كتب أنه "يمكننا أن نتجاهل أو ننسى حقيقة أن الأرض التي نعيش عليها ليست سوى مجال للتدمير المتعدد. وليس لجهلنا سوى هذا التأثير الذي لا جدال فيه: فهو يتسبب في تحملنا لما يمكننا تحقيقه بطريقتنا الخاصة، إذا فهمنا. لكن" نحن (أيًا ما كان ما تعنيه نحن هذه) نحققه، والنبرة النبوئية لباتااي مبررة للأسف، إذ إن هذا الجهل "يُسّلم الرجال وعملهم إلى تدميرٍ كارثي".

التدمير في كلّ مكان. وقد بلغ حجمًا هائلًا. نحن محاصرون به، وقد عمّ جميع الأخبار، وعلى مرّ التاريخ

* عندما نواجه شكلًا من أشكال التدمير في عصرنا المشبع بوسائط الإعلام، غالبًا ما يتم التركيز على أحداثٍ استثنائية لها طابع زمني محدد وحساب مكاني. غالبًا ما يركز مثل هذا الدمار على مرويات الثوران المذهل والتدمير. فماذا سيحدث لفهمنا للعنف إذا تباطأت سرعة ومكثفات التدمير الدنيوي وأعيد تركيزها؟

سيكون من المُبالغ فيه القول بأن هناك دائمًا أمرًا واضحًا أو مذهلًا في كل حالة من حالات العنف. يمكن أن يكون العنف مخفيًا أو سريًا، والأهم من ذلك، إمكانية إنكاره. إذا كنت أصر على الحاجة إلى تفكيك العنف والدمار، فذلك لأن زمن التدمير لا يختلف فقط عن زمن البناء (فقد بخّرت القنبلة الذرية الناس والمباني في لحظة، وبسرعة لا يمكن لأي موقع بناء أن يضاهيها ناهيك عن الإصلاح أو الاستبدال). قد يكون التدمير أيضًا متميزًا عن عالم العمل (على الأقل في أي نموذج قانوني للعمل)، أو مرة أخرى، من أي عمل عنيف معروف  (فكما بيّن وثائقي HBO أتوميك هوم فرونت (Atomic Homefront) لا يزال النشاط الإشعاعي موجودًا في سانت لويس، ميزوري، نتيجة آثار اليورانيوم المستورد من مستعمرة الكونغو البلجيكية خلال الحرب العالمية الثانية لصنع القنبلة). يتضح دور الجرافة (وهي كلمة لها جذور في العنف الذي مورس ضد السود في أمريكا) في ما لا نزال نطلق عليه إعادة تشكيل المشهد الأمريكي -رغم خفاء قدرتها التدميرية- لا يزال تأثيرها مستمرًا على الفلسطينيين. في هذا البلد، تم تهجير الأقليات والفقراء من غير البيض مرارًا وتكرارًا، ودُمّرت مساكنهم عن طريق هذه التكنولوجيا " البنّاءة".

اقرأ/ي أيضًا: أكثر من مجرد عد.. كيف يصمم الإحصاء المجتمعات البشرية؟

ولكن كيف يمكننا حتى قياس القوة التدميرية لمبيدات البيسفينول الحشرية BPA، ومعها مجموعة المواد الكيميائية اللانهائية "النشطة" الآن في بيئتنا؟ كيف نحوّل المراقبة لسلاح مدمر؟ يتحدث إيفان إيليتش عن صافرة سيارة الإسعاف بأنها تدمر أبسط أشكال التضامن. في نهج مشابه، ما الذي يمكن أن نعتبره "أسلحة اقتصادية"؟ ما القوانين الوطنية والدولية؟ ما هي السياسات؟ وما هي بالضبط طبيعة نظامنا الحالي للاستهلاك consumption (وهي كلمة لا يزال القاموس الإنجليزي يسردها كمرادف للتدمير)؟ ما هي "الدوافع المدمرة" (حسبما يذكرها المحلل النفسي آندرو جرين André Green) التي حكمتنا وتحكمت بنا؟ وإذا كانت تفعل ذلك، ألا ينبغي لنا أن نفكر في الأنظمة والظروف، وأساليب ووسائل التدمير؟ بالإضافة إلى توثيق حالات التدمير العنيفة، أو مواجهتها بمزيدٍ من التدمير، ألا ينبغي لنا أن نحاول صياغة قيمة للتدمير؟ قيمة لنا ولمسببات التدمير؟

* أعتقد أن عملَك مَدِينٌ للعديد من العلماء في ما يسمى بالفلسفة التقليدية القارية، لا سيما جاك دريدا. لطالما أدهشتني أعماله التي غالبًا ما أنساها حول الأنقاض وكيف يسمح لنا هذا بإعادة التفكير في عنف الزمن. كيف يمكنك فهم الخراب وهل لا نسير الآن بين أطلال الحاضر؟

 نعم، لقد كان دريدا دومًا مصدرًا  للإلهام. لم أدرك مدى تغلغل التدمير في أعماله.  من الكتاب الأول وحتى الأخير، على سبيل المثال، عاد دريدا إلى أفكار هوسرل، ولنذهب للفقرة التي تصوغ النهج الظاهر كنوع من التمرين المأساوي، والذي يعمل فيه الوعي باعتباره بقايا ناتجة من إبادة العالم (Weltvernichtung). لكن التدمير؛ تدمير الكُتب والتدمير الشهير بنيران كروت المراسلة، ودافع موت فرويد والهولوكوست. ونعم، أنت على حق، الآثار والأطلال منثورة في جميع أعماله. أوضح دريدا مبكرًا أن التفكيك وقف في تقارب حرج من تدميرية هيدجر (Heidegger’s Destruktion) وتفكيكية هيرسيل (Husserl’s Abbau) (تم الاستشهاد بهذين المفهومين مرارا وتكرارا في أعمال دريدا المبكرة). والادعاء المُكرر أن أيًا من هذه المصطلحات لا علاقة له بالتدمير (وإرجاع كل كلمة إلى أصل خاطئ) يفتح مجالًا للاستجواب، باستخدام أساسيات التحليل. إن الضرورة الحتمية للوفاة، وهي شرط إمكانية الكتابة بشكل عام، تعني ضمنًا التفكير المستمر في مسألة التدمير، والتفكير في التكنولوجيا بمثابة وسيلة للتدمير، وهي حالة دريدا في كتاباته عن هيدجر وفرويد وبنيامين وسيسان وغيرهم. الحلقات الدراسية حول عقوبة الإعدام شديدة التدقيق لفتت الانتباه إلى وسائل التنفيذ. لكني بالكاد خدشت سطح في ما كتبته عن الدمار في فلسفة دريدا وغيره.

نحن نُدرك عبر ما قاله دريدا وآخرون أن العُنف جزء من المحاولة للقضاء على العُنف

*إذا كان نيتشه صادقًا في ادعائه حول العدمية باعتبارها المُحرّك المُدمّر للتاريخ الحديث، عندها تصبح القُدرة على التدمير جزءًا من نسيج تلك المجتمعات التي تسير نحو القضاء على وجودها. كيف تقود النزعة التدميرية إلى تدمير الذات وصناعة مستقبل يؤول إلى الانقراض؟

لا يمكنني أن أساوي بين العدمية والتدمير (والعكس صحيح)، أو حتى القولُ بتاريخية الدّمار. اعتبر "فيكو" (Vico) أن التاريخ يعبر في نهاية الأمر عن الصناعة والإنتاج، واللذان يمكن النظر إليهما باعتبارهما المؤسس الحقيقي للعدمية. من ناحية أخرى، تدهشني للغاية حقيقة أن جميع الأسلحة الحديثة أصلُها من الغرب (والتي يمكن اعتبارها نوع من "الصناعة المُدمّرة")، لكنني أُحاولُ تجنب الاستنتاجاتٍ المعروفة مسبقًا، مهما بدا ذلك محتومًا. كما أنني لن أضع اعتبارًا يربط بين الدمار وبين الرغبة في استئصاله والقضاء عليه. نحن نُدرك (مما قاله دريدا وآخرون) أن العُنف جزء من المحاولة للقضاء على العُنف. وأتفق معك بشدة في أننا، عندما نُفكر في التدمير ــ مع التحليل النفسي أو بدونه ــ فعلينا أن نتعامل مع التدمير الذاتي. لقد ذكَرتُ أندريه غرين بالفعل، ولكن بعد سابينا سبييلراين، وبعد فرويد وميلاني كلاين، وأيضًا قبلهم بكثبر، دونالد وينيكوت المعروف عنه وضعه للدمار دومًا كشرطٍ ضروري للتأقلم و"الاستفادة" من الواقع، كجزء جوهري في العلاقة بين الوالد والطفل (الخوف والرغبة في التُدَمَّير)، ولكنني أتخيل أن المُحللين النفسيين، كأنصار هايدغر، سيقولون إن الدمار لا يعني الدمار هنا أيضًا. أي إنها سوء استخدام لفظي.

اقرأ/ي أيضًا: الصور النمطية.. بين هدر الواقع ومسخه

إن شروحات داريدا حول المناعة الذاتية، حيث تعمل آلية الحماية كأداة للتدمير بعيدًا عن الإنتاج باعتباره المعنى العكسي للتدمير، تُوفّر مدخلًا آخر. هُناك إرشادات بالغة الأهمية هنا (إغلاق الحدود أمام كل شيء "أجنبي" ليس بالخطة الجيدة، أليس كذلك؟ ولكن مُجددًا، هناك سببٌ يدعونا للتساؤل في هذا السياق حول معنى وعواقب المُطالبة، أو الرغبة، في الحُكم الذاتي والاستقلال). دعني أشير إلى السلاح النووي مُجددًا؛ حبث وصف جوزيف ماسكو ببراعة في كتابه "الحدود النووية" (Nuclear Borderlands) كيف أن الولايات المتحدة قامت بتدمير نفسها ـ وتسميم نفسها ـ إلى حدٍ غير عاديّ؛ وكانت تفعل ذلك دائمًا تحت شعار الدفاع عن النفس والحِفاظ على الذات والحماية والأمن. إن كل "اختبار" نووي (ونعني بذلك أي انفجار فعلي ومُدمر لسلاح نووي فوق أو تحت الأرض) قد رفع من مستوى التلوث الإشعاعي مسببًا أضرارًا لا توصف لكل من البلد والكوكب، والحياة بأكملها. هل يُعدّ هذا حماية أم تدمير؟ هل يهُم، في هذا السياق، أن تكونَ كلمة مبارزة (مثل فن المُبارزة) تحمل معنى الدفاع والهجوم؟ أو أن كليهما مجرد بلاغة لفظية؟ نحن نقول أحيانًا إن أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم. لكن هل نحنُ مدركون حقًا للفرق بينهما؟ إن إقامة جدار ــ عفوًا، سياجًا أمنيًا ــ لا يدل على بادرة صداقة، ولا يُوفر الحماية إلا قليلًا، هذا إن وفّرها حقًا. وما الفارق إذا أطلقنا على السلاح النووي الإسرائيلي (والذي لا وجود له بشكل رسمي، ولكنه موثّق جيدًا) اسم "سلاح شمشون"؟ ألم يُمثل هذا ـ في الخمسينات ـ بداية للتفجيرات الانتحارية في المُخيلة السياسية للمنطقة؟ برنامج جماعي للتفجيرات الانتحارية؟ لكن "الدولة الانتحارية" تتخذ أشكالًا عِدة. وصفت "حنا أرندت" الغاية من إطلاق "سبوتنِك" (Sputnik) بأنها تشبة تمامًا اختراع القنبلة النووية: والتي "جعلت" الكوكب قابِلًا للفناء. ورسمت الطريق نحو دماره.

*أودّ أن أختم بالإشارة إلى مُحاضرات ميشيل فوكو حول "الدفاع عن المُجتمع" والتي يقول فيها "نحنُ دائمًا نكتب تاريخ الحرب، حتى عندما نكتُب تاريخ السلام ومنظومته". نحنُ نعلم أن الحرب تُخاضُ في كثير من الأحيان باسم الإنسان. وباسم الحضارة والأمن العالمي، نستطيع أن نهدد وجودِنا ذاته والبقاء على قيد الحياة. ولكن كيف يُمكننا إعادة التفكير في مفهوم العنف والنزعة التدميرية لدى الإنسان بطرق أكثر عُمقًا؟ هل العودة مرة أخرى لمفهوم الدم (والذي كتبتَ عنه بشكلٍ مُكثف) تسمح لنا بفتح حوار أخلاقي أفضل بشأن مشاكل الأرض؟

أعترفُ بأنني تأثرتُ بشكل كبير بالتاريخانية Historicism، وتحديدًا بما قاله فوكو عن التاريخانية. إن التاريخ ـ أيًا ما كانت تُشير إليه هذه الكلمة في وقتنا هذا ـ هو بالتأكيد شيءٌ يجب علينا أن نتعلم منه. ولكن هناك اهتمامات أخرى، وطُرُقٌ أخرى للمعرفة أعتبرُها بنفس القدر من الأهمية للنظر فيها ونشرها. حتى فوكو نفسه، برغم أنه كان مذبذب الرأي بشأن المواضيع التي درسها والطريقة التي درسها بها، لم يقتنع بمفهومي الحرب والسلام. وفي هذا الوقت المتأخر، يبدو تحديًا صعبًا أن نعلم ما ندرسه حقًا، وما الذي يجب علينا أن نفطن له، وما إذا كنا قادرين حقًا على التعلّم. نحنُ نعلم العديد من الطرق والوسائل التي وصل بها الكوكب إلى مرحلته الحالية. هل نرغب في الاستمرار في تسمية ذلك بالتقدم؟ لقد أشار طلال أسد إلى "نمط" غريب للغرب. يُشير طلال إلى أن فئة مُعينة من "البشرية" هى من طالبت ــ ولا زالت تطالب ــ بهذا التقدم. وقد رأت هذه الفئة نفسها، ولا زالت، أكثرَ تقدّمًا وفطنةً مما وَصَفَتهم هي بـ "الأعراق الدُنيا". والآن، بعد أن تجاوَز الكوكب نقطة اللاعودة، يتحتّمُ علينا جميعًا البشر الذين يتساوون (في المسؤولية إن لم يكن في الامتيازات) أن نتحمّل مسؤولية ما "قُمنا" به. وأنا أجدُ ذلك مُحيّرًا أيضًا.

كان انتشار الدم كعنصر محدد للديانة المسيحية هو محاولةً للتأقلم مع التحولات السياسية التي وَقَعَت وتورّطت فيها الدولة، مثل العِرْق والأُمم والعلوم والاقتصاد السياسي

بالنسبة لي، كان انتشار الدم كعنصر محدد للديانة المسيحية هو محاولةً للتأقلم مع التحولات السياسية التي وَقَعَت وتورّطت فيها الدولة، مثل العِرْق والأُمم والعلوم والاقتصاد السياسي. إنني الآن أشعر بالفضول حول مفهوم التدمير، ومُجددًا أعني مفهوم التدمير كمشكلة جماعية في المقام الأول، وبالطبع، كاتجاهٍ أو بُعدٍ سياسي. لا أريد أن يبدو كلامي مشوشًا، لكنني أقل تفاؤلًا بشأن تحديد أو دراسة مفهوم التدمير من الناحية الذاتية أو التحوّل للذاتية. لا أعتقد أن السؤال يتمحور حول ما إذا كانت البنادق أم الناس هي ما يقتل. لا يُمكن للأخلاق أن تَستبدِل السياسة، لأن الأمر يتطلّب أكثر من مجرد أفراد لإنتاج كميات كبيرة من السلاح وتسويقها، ولخلق ثقافة الإفلات من العِقاب حيث يُمكن للمرء أن يحط من قدرِ النساء والاعتداء عليهنّ ــ أو قتل الرجال السود؛ يتطلبُ الأمرُ أكثر من مجرد قرية لاختراع ونشر مفهوم الاضطهاد العِرْقي كطريقة للحُكم، أو استخراج زيت البترول إلى جانب زيت النخيل، أو تأسيس القانون، أو رفع الضوابط عن البنوك، أو وضع الأطفال في أقفاص على حدود دولة، أو إغراق الآلاف على حدود دولة أخرى؛ يتطلب الأمر أكثر من أفراد لاختراع غاز السارين، أو قنابل النابالم الحارِقة، أو الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، أو أساطيل الطائرات بدون طيّار، وإعلان الحرب على الإرهاب، وتحويل كل مطار في العالم والطريقة التي "نتواصل" بها مع بعضنا البعض إلى عصرٍ غُرَف الصدى (وهو اسم استعاري عن تضخيم حدث أو معلومة أو فكرة أو معتقد وتسليط الضوء عليه وإظهاره للعامة حتى تتوجه نحوه، مثل تأثير الصدى). إذا كان التدمير يأخذنا بعيدًا عن بناء الأشياء وعن البناء الاجتماعي، فما الذي يبقى مع التدمير وما بعده؟ ما فائدة الحرب حينها؟ ما هو السلام؟ وماذا يعني الدمار؟ وما هي التدميرات القادمة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما بعد الحداثة كبروباغندا للأنظمة

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل