17-أبريل-2016

صورة ريجيني، قرب السفارة المصرية في روما (Getty)

"ما الذي يعنيه أن تُحسّ بالعار، ولا يُتاح لكَ أن تغسله بدمك؟ يا أينَ أنت كم يبدو السؤال فاضحًا ومجللًا بالخزيِ والخذلان! هل تعتقدُ أنّ المسألة تتعلّق باغتصاب امرأة مثلًا؟ تقتلني لو فكّرت على هذا النحو، لا اغتصاب امرأة ولا اغتصاب ثروة أو منصب، كلّ هذه الأمور قابلة للتجاوز وردّ الاعتبار، أما اغتصاب الإنسان بإطلاق، اغتصاب الإنسان كمفهوم، اغتصابه كوجود!".

ما الذي يعنيه أن تُحسّ بالعار، ولا يُتاح لكَ أن تغسله بدمك؟ 

يبدو أنّ فرج بيرقدار كان مُحقًا عندما عبّر في مقطعه هذا عن تلكَ العلاقة بين الاستبداد واستلاب الإنسان، فلقد أورَدَ هذا المقطع في روايته عن تجربته في سجن تدمر وقد حملت الرواية عنوان: "خيانات اللغة والصمت". نعم.. لقد أعادتني متابعة قضية جوليو ريجيني وتفاعلاتها على مستوى الرأي العام المحلي الإيطالي أو الدولي العالمي إلى مقطع الرواية هذا، وجعلتني أتساءل عن السرّ الذي جعل لقضية حياة فرد واحد كلّ هذا الصدى في مقابل قضايا أُخرى لحياة آلاف يموتون في صمت مهيمن وطاغٍ دون أن يُسمع لموتهم صوتٌ ولا صدىً؟ في الحالة الأولى وهيَ حالة مجتمع تسود فيه قيم الديمقراطية هناك إدراك للقيمة الإنسانية وتعظيم لقيمة حياة الإنسان. 

اقرأ/ي أيضًا: متى ننتقل إلى لعب التانجو؟

وفي الحالة الثانية وهيَ حالة أغلب المجتمعات العربية التي يسود فيها الاستبداد بعيدًا عن أي قيم ديمقراطية، هناك تغييب للقيمة الإنسانية وتقزيم لقيمة حياة الإنسان، فكيف تعمل المجتمعات التي تسود فيها قيم الديمقراطية على مناهضة حالة الاستهتار والتقزيم للقيمة الإنسانية أو ما اصطلحَ على تسميته بالـ"هدر الإنساني"؟

 بدايةً وبإطلالة سريعة على مُصطلح "الهدر الإنساني"، فيُمكن تعريفه كما ورد في كتاب "سيكولوجية الإنسان المهدور" للدكتور مصطفى حجازي حيثُ عرّفه على أنّه "التنكر لإنسانية الإنسان وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه"، وللهدر الإنساني أشكال متعددة فهو -بحسب حجازي- يتراوح ما بين أشكاله الدنيا المتمثلة بعدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحقّ في تقرير المصير والإرادة الحرّة وحتى الحقّ بالوعي والذات والوجود، وأشكاله القصوى المتمثلة في أفعال التعذيب والقتل والتصفية وهدر الدماء.

اقرأ/ي أيضًا: ما وراء صفقة الجزر المصرية

أما عن علاقة المجتمعات التي يسود فيها الاستبداد بالهدر الإنساني، فيمكن التأكيد على أنّ الاستبداد يعمل على تعميق أشكال هذا الهدر، وذلك من خلال اختزال الكيان الإنساني والانحدار به إلى مستوى "الرعية"، والرعية هنا تأتي -حرفيًا- بمعنى القطيع من الأغنام أو المواشي الذي يمتلكه المستبد ويوفّر له ما يلزمه من الحماية والرعاية ويفترض أنّه يهلك بدون هذه الحماية والرعاية. إننا هنا بصدد الحديث عن مجتمعات يسودها الاستبداد الذي يصل إلى حدّ الطغيان، حيثُ الرقابة والتلصّص والأجهزة المخابراتية التي تُحيط بالإنسان وتُحصي عليه أنفاسه، وحيثُ المستبد هو المالك المُطلق للبلد ومقدراته وله حق التصرّف به وبمصير البشر الذي يعيشون فيه، الأمر الذي يؤدي إلى مصادرة مواطنية الإنسان، ويدفع به إلى الاغتراب وفقدان السيطرة في مجاله الحيوي، فيبتعد عن مساحة التأثير في الشأن العام ويكتفي بدور المتفرّج السلبي، وينحدر إحساسه بقيمته ووجوده إلى مستوى الرضا بمكسب مادي يُغطي الحاجات الأساسية، وقد يدفع هذا الهدر بالإنسان إلى أنواع من الهدر المضاد تتدرج من التنكر للوطن وقضاياه إلى ما قد يصدر عنه اتجاهه من سلوكيات متطرّفة أخرى.

تأتي قضية جوليو ريجيني لتكشف جليًا عن تلك العلاقة العكسية بين الديمقراطية والهدر الإنساني

"فيُمكن النظر إلى "الهدر الإنساني" كحالة مصاحبة لغياب الديمقراطية، ويُمكن النظر إلى المجتمعات الديمقراطية باعتبارها مجتمعات مناهضة للهدر الإنساني سواء من خلال الشعور العالي بالمواطنية عند أفراد هؤلاء المجتمعات واتجاههم نحو المشاركة والمساهمة والتأثير في الشأن العام مدفوعين بعوامل إحساسهم بوجودهم وكيانيتهم كأفراد متأثرين ومؤثرين.

وأخيرًا، تأتي قضية جوليو ريجيني لتكشف جليًا عن تلك العلاقة العكسية بين الديمقراطية والهدر الإنساني وذلك على صعيدين اثنين؛ صعيد المجتمع المصري كنموذج لمجتمع يسود فيه الاستبداد وسيطرة الطغمة العسكرية وتنخفض فيه قيمة الإنسان بما يجعله يتعرض لمختلف صنوف الانتهاكات والتعدي، وهو الأمر الذي يُفرز الهدر الإنساني بمستوياته الدنيا والتي يُمكن التمثيل عليها بمثال يتعلق بعدم احترام حقّ الإنسان في الوعي من خلال وصله بوسيلة إعلامية موضوعية تُقدّم له الحقيقة كما هي عبر خطاب عقلاني يُخاطب فيه عقله أولًا، وهو الأمر الذي يُفرز كذلك الهدر الإنساني بمستوياته القصوى المتمثلة بالتعذيب والقتل والتصفية الجسدية (كما حدث مع ريجيني)، أما الصعيد الثاني فهو الذي يُمكن أخذ المجتمع الإيطالي فيه كنموذج لمجتمع ديمقراطي ترتفع فيه قيمة الإنسان ويعي فيه الفرد بحقوقه وواجباته ويندفع للدفاع عنها ضدّ كلّ انتهاك أو هدر. من هنا كانت هذه العلاقة العكسية بين الديمقراطية والهدر الإنساني؛ حيثُ لا هدر إنساني بوجود الديمقراطية، ولا عبور للديمقراطية بدون القضاء على الهدر الوجودي للإنسان واستعادة قيمته وحرمته وكرامته.

اقرأ/ي أيضًا: 

أوباما يضرب أسس "كامب ديفيد"

مصر.. "تسريبات بنما" تعطّل التصالح مع رجال مبارك