11-ديسمبر-2022
لوحة لـ مارك شاغال/ روسيا - فرنسا

لوحة لـ مارك شاغال/ روسيا - فرنسا

في روايتها "بيوغرافيا الجوع" تخترعُ آميلي نوثومب تعريفًا جديدًا للجوع، تتجاوز فيه فكرته المركزية كشعور يتمحور حول الطعام فقط، فهيَ تُمسك بالجوع وتحيط به من كلّ الجهات، تعرضه في صورته الأكثر اتساعًا وشمولية، تقول عنه: "فالجوع يعني في نظري تلك الحاجة الفظيعة التي تمسّ الكائن كلّه، ذاك الفراغ الآسر، وذلك التوق لا إلى الامتلاء الطوباوي بل إلى تلك الحقيقة البسيطة: فحيثُ لا يوجد شيء، أتطلع لأن يكون ثمة شيء".

في تفاصيل استذكاري للشعوريات التي طرأت عليّ بعد قراءتي لرواية آميلي، أذكر بأنني شعرتُ بعد قراءتها بالجوع في جسدي، كان جوعه إليكْ، ظَهَرَ فراغه حينها أمامي واضحًا، جليًا كالشمس، تبدى وانتشر في أعضائه كلّها، كأنّه مرضٌ معدٍ.

وفعلًا ففي أكثر من موضع أخبرت إيميلي في روايتها بأنّ الجوع ينتشر في الجسد كالمرض المعدي، فما أن يُفجّر طاقة التهامية في عضو ما حتى تنتقل تلك الطاقة إلى بقية الأعضاء، هو يُشبه في تفشيه الوباء أو لعله - باستخدام لفظة أكثر وحشية- يتفشى فيه كالجائحة، ينتقلُ بين أعضائه بسرعة البرق، فيُصيبها بطاقته الالتهامية، لتغدو كلّها كالوحوش الضارية، تقفُ على أهبة الاستعداد، فاتحةً فاها لاصطياد فريستها والتهامها.

أعترفُ بأنّ جوع جسدي كان إليكْ، وكأنّك أنتَ فريسته وفريستي، جاء جوعه إليك في شكل رغبة جامحة وإرادة قوية في امتلاكك/ التهامكَ عن آخرك، هل سمعتْ عن "إرادة القوة" عند نيتشه، إنّها مقولة تَنظر إلى القوة على أنّها الدافع الأول المحرّك للإنسان، وهي تُعطيها مكانتها كغاية كُبرى يسعى خلفها البشر راغبين بها ومستميتين من أجلها.

"الجوع هو أن تريد. إنّه رغبة أشمل من الرغبة"، هكذا قالت آميلي، وهكذا قال جسدي أيضًا، كان يُريدكَ بقوة، وكانت إرادة قوته دافعًا له ليأخذني إلى أفعال وتصرفات مجنونة ما كنتُ أظنّ أنني سأفعلها أو أقدم عليها.

تخيّل أنني شعرتُ مرة في الجوع في أنفي إلى رائحتكَ العطرية التي أخبرتني بأنّها تُشبه الحطب المبلول، وأنني ذهبتُ تحت وطأة شعوري هذا أفتّش عنها بين الروائح العطرية، صرتُ أبتاع العطور وأصبّها عليّ لأعثر عليها، صدّقني بأنّ هوسي الكبير هذا برائحتكَ والبحث عنها جعلَك تتمثّل في سلّم رغباتي في شكلٍ غريب، إذ صرتُ أرغبُ في رائحتكَ كأنّها اختصاراتك كلّها، أرغب فيها كأنّها اللمس والذوق والسمع وباقي الحواس، لم أعد أريدُ فقط أن اشتمها، صرتُ أريدُ أن ألمسها وأتذوقها وأسمعها، وأخلقَ بيني وبينها علاقة ممتدة تبدأ من خلال الأنف ولا تكتملُ إلا باستشعار بقية الحواس، وكأنّ رغبتي في رائحتكَ لم تعد رغبة امرأة في رائحة رجل، بل باتت رغبة امرأة في رائحة كلية معجزة تُجسّدك وتُحضركَ أمامي رجلًا كاملًا في صورة رائحة!

لم يتوقف جوعي إليكَ عند حدود الأنف والرائحة، أصابت عدواه أذني أيضًا، فصارت رغباتي السمعية كلّها تريدك، وتفجّرت فيها طاقة التهامية لابتلاع صوتك، كنتُ أستمع مرةّ إلى مقطع من أغنية تقول: "شو بحب صوتك حاف"، فظهرت أمامي رغباتي السمعية في لحظة انكشاف كلي، خلتها امرأة ذات ميول مازوشية، كانت لا تريد صوتك فقط بل تريده في حرارته الأولى، تريده لتتذوقه ساخنًا وطازجًا كما لو كان خارجًا من تنانير الجدات، ترغبُ فيه حارًا كلهيبِ شمسٍ حارقة، لتلتهمه على مهلٍ وتكتشفَ كم يطيبُ لها في لذته اللاسعة! 

أخذَ جوعي إليكَ يتفشى في أعضائي شيئًا فشيئًا، ينتشرُ فيّ بالتدريج وكأنّه يأكلني، وكأنّه يُذكّرني بأنني امرأةٌ يأتيني الحبّ دائمًا في شكلِ جوعٍ لامنتاهِ، ونهمٍ شديد نحو رجلي الذي أحبّه، وأنني كما كتبتُ في إحدى نصوصي: "أنا امرأةٌ يأتيني الحبّ دائمًا في شكلِ نهمِ جديدٍ ورغبة كبيرة بالابتلاع، ما أن أحبّ حتى أستحيل من امرأة لطيفة ومهذبة إلى امرأةٍ خارجةٍ من وثائقيات الافتراس في قنوات "ناشونال جيوغرافيك"، ما أن أحبّ حتى أكفر بكلّ مفاهيم اللطافة والأناقة والأدب والتهذيب، وحتى يظهر كُفري بهذه المفاهيم على جبيني علامة دامغة تُشبه تلكَ العلامة التي تقول السنن النبوية بأنّها ستظهر على جبين المسيح الدجال، إنّني أحبّ ويظهر توحّشي على جبيني في شكلِ عبارة واحدة: "خُلِقَت لتفترس"، أحبّ ويظهر توحّشي كداءٍ يتفشى في أرجائي فيأكلني كلّي، يلُتهم داخلي وظاهري، إنّني لما أحبّ رجلي تتولّد فيّ رغبة لانهائية في إدخاله في جوفي، في ابتلاعه كلّه، في احتكارِ كلّيته لنفسي، وإنني إذ أحبّه أرغبُ في محاصرته، في استملاكه عن آخره، أريده أن يكون لي في جسده وروحه، في قلبه وأعضائه، في حركاته وسكناته، إنّ حبّي لرجلي دائمًا يأتي في شكلِ فاهٍ مفتوح يرغبُ بالتهامه وتقطيع كافة مساحاته الخاصة والعامة، إنّني ما أن أحبّ حتى يبدأ حبّي بالكشف عن أنيابه، حتى يظهر كأوحش المفترسات التي وُجدت على هذه الأرض، وحتى يستحيل معه الرجل الذي أحبّه كطريدة تجري في أرضٍ برية، ويركضُ وراءها حبّي كمفترس متوحّش لا يرغبُ سوى بالعضّ والالتهام!".

دلالات: