26-يوليو-2019

غرافيتي لـ ساراماغو وزوجته بيلار

من حسن حظّنا أنّ نجد روائيًا بحجم جوزيه ساراماغو (1922 - 2010) مضى إلى الكهف ليحكي منه، وفيه أيضًا، قصةً مزدوجة المعنى عن هذا المكان، بين ما كانَهُ وما صار إليه.

ترسم رواية "الكهف"، بين ما ترسمه، الصراع النفسيّ الذي يخوضه الفاخوريّ العجوز وابنته مارتا، لحظة انتهاء عمل ورشتهما وإحالة فرنهما وصلصاله إلى التقاعد

تنشغل صفحات روايته التي سمّاها "الكهف" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة صالح علماني، 2009) بقصّة صانع الخزف، أو الفاخوريّ سيبريانو ألغور، فنقضي القسط الأوسع منها نعاين محنة العمل اليدويّ الآيل إلى الانقراض، يأتي ذلك حين يخبره المركز - مكان تجاري غامض وذو جبروت - أنّه سيتوقّف عن شراء مصنوعات ورشته، لأنّ أحدًا لم يعد راغبًا باقتنائها، فالأواني البلاستيكية الأرخص والسهلة الصنع هي ما يريده الزبائن الآن.

اقرأ/ي أيضًا: السماء ليست مجبرة على الطيران

ترسم الرواية، بين ما ترسمه، الصراع النفسيّ الذي يخوضه الفاخوريّ العجوز وابنته مارتا، لحظة انتهاء عمل ورشتهما وإحالة فرنهما وصلصاله إلى التقاعد.

الساخر في الأقدار، كما هي دومًا، أنّ فرصة النجاة الوحيدة المتبقية أمام العائلة هي الإقامة في المركز نفسه، بعد حصول زوج مارتا على وظيفة حارس مقيم. هكذا سنرى في المركز، المشكلة والحلّ، قدرةً على أن يعطي بمقدار قدرته على أن يأخذ، لكنه لن يعطي إلا ليأخذ مرّةً أخرى.

تنتقل العائلة لكي تسكن شقّةً بنوافذ لا يُمكن فتحها، فوق عالم مصطنع مليء بقاعات لمن يريد عيش لذة الشواطئ الدافئة، وأخرى لمن يرغب بتجريب مذاق الأعاصير، إلى جانب المحلات غير المتناهية المخصصة لمختلف أنواع اللهو والاستهلاك.

في الرواية كهفان يظهران بشكل قصير قياسًا إلى مجمل الأحداث، بل إنّ أحدهما يكاد يمرّ مرور الكرام، بالنظر إلى الكهف الآخر الذي أُخِذ منه عنوان الرواية. يظهر الكهف الأول خلال خيبة أمل الخزّاف من رفض المركز لمصنوعات ورشته، فيدفنها في جوفه حينما لا يعلم أين يمضي أو ماذا يفعل بها. يخطر ذلك الكهف الذي عرفه سيبريانو ملعبًا في طفولته بوحيٍّ من قلب الإنسان وحدس الصانع، اللذين يحركانه حتى اللحظة الأخيرة، ولهذا يأخذ منتجاته من أطباق وفناجين إلى حيث ينبغي أن تكون، إلى الكهف الذي خرج منه البشر ليتعلّموا ألا حياة لهم دون مهنٍ أو حِرف.

أما الكهف الثاني فليس سوى كهف أفلاطون. الكهف الذي أورده الفيلسوف الإغريقي في كتاب "الجمهورية" ليشرح مفهوم سقراط عن الواقع والمثال، من خلال فرضية وجود أشخاص مقيّدين، داخل كهف، مجبرين على مشاهدة ظلال ما يحدث في الحياة أمامهم على الجدار، معتبرين أنهم الحقيقة الخالصة، وحتى حين تتسنّى الحرية لأحدهم ويكون له أن يعرف أنّ كل ما في متناول أصحابه مجرد وهم، أخيلة، نماذج.. سيعود ليخبرهم بما رأى ولن يصدّقوه.

ألمح ساراماغو، بالاقتباس من "الجمهورية" الذي استهل به الرواية، إلى الاستثمار في نظرية الكهف الأفلاطونيّ استثمارًا متعدّد المستويات، أكبرها جعل المركز العملاق رابضًا فوق كهف الأمثولة، ليبدو الثاني بالنسبة للأول مجرّد قبوٍ، فيما الأشخاص الذين تحدّث عنهم أفلاطون موتى ثابتون في قيودهم، تحت الأرض، كما عُثِر عليهم خلال أعمال الحفر.

كهف أفلاطون بسيط، كلّ ما يظهر عليه ليلًا ونهارًا، حيوانات وبشر، بينما المركز مُركّبات معقّدة تعادل ألف كهف. تماديه الأكبر يتجلى في إرساله ظلالًا إلى الكهف الأصليّ الذي يتلقى ظلًّا عن ظلٍّ، في غياب فادح لبصمة حقيقة.

وكما أرادت أمثولة أفلاطون أن توحي بأن سقراط، أو الحكيم، تمثيل لذلك الشخص الخارج من الكهف، مكتشف العالم ومعناه، الذي يعود إلى أترابه ليخبرهم بما رأى فلا يصدقونه؛ سيؤدي سيبريانو ألغور الدور نفسه، وبعد وصوله إلى أعماق الكهف، ومعاينة الجثث المقيّدة منذ الأزل، سيكتشف بكلماته خلاصة الحكمة الأفلاطونية: "هؤلاء الأشخاص هم نحن".

سيغادر سيبريانو المركز، الكهف العملاق مزيّف الحياة، عائدًا إلى بيته في الريف، هاربًا من أسر الكهف الجديد، والصراع التاريخي بين الافتراضيّ والواقعيّ، محدّدًا انتماءه للثاني.

بعد قليل تنتقل العدوى إلى ابنته وزوجها، فيلتحقان به مدرِكَين أنّ ذلك الورم السرطاني الإسمنتي سوف يلتهم المدينة والحياة، وبالسلطة المطلقة التي فوّضها لنفسه سيظل يراكم الثروة ويقضي على فكرة العمل من أساسها.

في استثمارٍ آخر، تشير لغة الحوارات في الأمثولة الساراماغوية، الظلِّ الجديدِ على جدار كهف أفلاطون، إلى أنّ اللغة كهفٌ، والكلمات ظلالٌ على جدران الوعي. يقول سيبريانو: "هكذا هي الحياة، إنها مليئة بكلمات لا تستحق النطق بها، أو أنها استحقت ذلك في وقتٍ ما ولم تعد تستحقه، فكل كلمة نقولها تنتزع مكان كلمة أخرى أكثر جدارة منها، وتكون كذلك ليس لذاتها، وإنما للعواقب المترتبة على قولها".

السخرية ستأتي لاحقًا من كلمات الصّهر الذي يخبر حماه، بعد التحاقه وزوجته به في القرية، أنّ المركز أطلق إعلانًا جديدًا: "قريبًا جدًّا يُفتتح للجمهور كهف أفلاطون، وسيلة جذب حصرية، وحيدة في العالم، اشتر تذكرتك".

شاشات الموبايل والكمبيوتر وغيرها تمثيل للكهف الذي وصفه ساراماغو، بفارق أنّ هذا الكهف تطوّر نفسه إلى درجة أننا صرنا نحمله معنا

بين كهفي الأمثولة، الكهف الذي شكّل بوتقة لمجمل الفلسفة الأفلاطونية في العدالة والحقّ والجمال، والكهف الآخر الذي لم يكتف بأن يكون ممثّلًا للاستبداد والقوة وسحق القيم، بل سحق فكرة الحياة؛ نرى أن حياتنا لم تُطوّر شيئًا بمقدار تطوير سجنها.

اقرأ/ي أيضًا: اغتيال المحرر الأدبي.. أين اختفى المخبر السري الذي يكرهه الكتاب؟

وبين الكهفين أيضًا، تجري حياتنا الواقعية الآن، ذلك أن شاشات الموبايل والكمبيوتر وغيرها تمثيل للكهف الذي وصفه ساراماغو، بفارق أنّ هذا الكهف تطوّر نفسه إلى درجة أننا صرنا نحمله معنا، فيما بات كهف البشر القديم ومدرستهم الأولى نسيًّا منسيًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "أورشليم".. تاريخ الرعب الإنساني