05-يوليو-2018

الشاعر جوان تتر

كأن القصيدة عند الشاعر جوان تتر تشتغل في صمتها كي تتآلف مع الموت، كأنها بانشغالها اليومي باستدعاء الأشياء من غفليتها وصمتها تحاول أن تجعل من هذا الجوار والحوار ملاذها ومقامها في مواجهة ما يتهددها، تحاول أن تتغلب على خوفها بأن تجلس وتقرب الموت منها تتأمل ضرباته وعصفه ومخلفاته، تقرّب أشياء الزوال تحاورها تجاورها، تبحث عن معنى طواه عدم فتّاك، كأنها الكتابة آخر ملاذه، في مواجهة اللايقين وتهديد الهاويات المتضاعفة، حيث محكوم على الشاعر بالتفاوض الدائم مع العدم، مع الموت، مع أشياء الزوال.

في هذا الحوار نلتقي بالشاعر جوان تتر، للاقتراب من أسئلة ديوانه الجديد، "كتاب الأشياء"، الصادر حديثًا لدى "دار التكوين"، ضمن الكتب التي تدعمها مؤسسة "المورد الثقافي".


  • نهرب من الموت بمجاورة الأشياء والكلمات، كيف يمكنك التعبير عن هذا الجوار، عن هذه المسافة المترنحة بين البياض والكلمات والأشياء؟

سعيت ولم أتمكّن الهرب من الموت، لا سيّما وأنا في سوريا الرّاهنة التي تعايش الموت يوميًا منذ أكثر من سبع سنوات دونما خلاص، على الرغم من عيشي الهادئ نسبيًّا في منطقة آمنة في الشمال السوري، غير أنّ الموت لا يفارقها بشكلٍ يوميّ، دعينا نختر اسمًا غير الموت، نختار النقيض، ربما هو انبعاثٌ جديد شاءت الأقدار أن تُرسَم لسوريا بعد سنواتٍ من الموت السريريّ، ما ذكرتِه حول البياض والكلمات والأشياء، ثقي أنني لم أعرف حتّى الآن سرّ المسافة بينها، أو ربمّا الأمر لم يعد يعنيني في الوقت الرَّاهن. حاولت قدر الإمكان، سواء من خلال الكتابة أو العمل اليوميّ أن أجاورَ الموت، أن أراه وأسخر منه بدندناتٍ في القلب ثمّ أمضي في شأني لأرتّب يومي وأقذف الأشياء –كلّ الأشياء- خلفي وعلى مسافةٍ تسمح لي أن ألتفت في أي وقتٍ كي أبصرها متى شئت.

جوان تتر: معايشة الفرد لأجواء الحرب تجعل منه منطويًا على ذاته، ويقينه ألّا غرفة تنام فيها غير ذاتك

  • أمام الموت واكتساح الخراب وهيمنة الغياب، تعود الذات إلى ظلماتها الدفينة تستنطق فراغاتها وتستعير لسانا لقول الغياب والتلاشي وتهاوي اليقينيات، كيف تحتمل وجود هذا الهش والعابر يتلاشى، كيف بالكلمات تؤسس وجودًا لأشياء بالكاد توجد لتختفي؟

ربمّا الحرب ومعايشة الفرد لأجواء الحرب، تجعل منه إنسانًا منطويًا على ذاته، ثمّة يقين ينمو، وهو يقين أن لا غرفة تنام فيها غير ذاتك! الأسباب التي تدفع إلى ذلك كثيرة، ربمّا غيابُ الأشياء التي اعتدتُ أن أراها بشكلٍ يومي وعلى مدار سنوات طويلة، ومن ثمّ فجأة اختفت كلُّ تلك الأشياء وكأنّها لم تكن يوماً، أعني بــ"الأشياء": الأصدقاء، الشوارع، الأبنية، الأصدقاءُ الشهداء أيضًا، وأرى نفسي في عالمٍ جديد فيه شيء من القديم ولكن بنسبةٍ ضئيلة، النسبة التي تربُت على كتفي كلّ صباح لتُطَمئنَني، حاولتُ من خلال الكتابة (متنفّسي الوحيد) أن أستعير من الغيب –ولو لبرهةٍ- كلّ تلك الأشياء التي افتقدتها، أن أستحضرها كما يفعلُ السَّحرة، أعود للعيش معها ولو للحظاتٍ تمنحني السَّكينة كما كانت في الماضي، حتّى ولو كان الأمرُ مجرَّد وهم، فالوهمُ جزءٌ من الحقيقة، إن سُمح لي بالعبارة! قديمًا كنتُ أشعر أنَّ الفراغ يقتل، فراغُ أي شيء، لكن مع مرور سنوات العمر بتّ أعي تمامًا أنَّ الفراغ هو ما يؤسَّسُ عليه كلُّ شيء، عرفتُ ولو متأخِّرًا أنّ الفراغ هو سيد القلق -الأخير الذي يفتح الأبواب المُرتجة بإحكام- وسيد كلّ شيء.

اقرأ/ي أيضًا: جوان تتر.. قدمٌ في الذكرى وأخرى في الأرض

  • ليس فقط تهاوي العالم الخارجي، ليس فقط هيمنة الرماد في الخارج وهشاشة ما كان يقينا لكنها الذات أيضا تتهاوى وتحيا مع ما يتهاوى بداخلها وفي الخارج حيث تتشوش تجن وهي تحاول أن تجد معنى لجناح ملاك يتلاشى في ضوء ما يتلاشى، هل من هذا التشوش من هشاشة ضوء يزيغ له البصر والرؤيا تستدعي قصيدتك الكلمات والأشياء، هل يصبح الهش والمتداعي هو هذا الذي تقوم عليه كتابتك؟

كل كتابة مبنيَّة على أساس التداعي والهشاشة الداخليَّة للمرء، بالمعنى الإيجابي للمفردتين بالطبع، وفي المرحلة التالية يأتي تهاوي العالم الخارجي الذي يدفع بالمرء إلى أن يتّخذ موقفًا، إمَّا أن يدافع عن ذاته لأن تستمرّ في العيش أو أن يستسلمَ لما يجري رغمًا عنه ويتقوقع. أنا اخترت الأمرين معًا، أو لنقل جزءًا عظيمًا من كلِّ أمر، أن أدافع عن وجودي أوّلًا ككردي عانى ما عاناه، وثانيًا كإنسان يعيش داخلَ حربٍ وجوديَّة هي من حقِّه ولا بدّ أن يشارك في الدفاع حسب قدرته ومَلَكَاتِه، وعلى الجانب الآخر اخترتُ أحيانًا أن أحتضنَ ذاتي وأركُن إليها كي أشعر بشيءٍ من الاطمئنان، الرمادُ الذي في الخارج هو في نظري رمادُ إخوتي الذين دافعوا عنّي ولا يزالون، أقدّس هذا الرماد لأنّه جزءٌ ضروري جدًا في الوصفة الأساسيَّة لترتيب الغد القادم، الغد الذي ربمّا لن أستطيع عيشه ولكن على الأقلّ هناك جيلٌ كامل سوف يعيشه دونَ رعبٍ كما حصل معنا منذ ولادتنا وحتّى الآن، الرماد الذي حاولتُ الكتابةَ عنه بطريقة الذكرى ولا أعلم هل حالفني الفشلُ أم النجاح، لكن هذا غير مهمّ، المهم الكتابة.   

  • الموت هو الحقيقة التي تقترب منها القصيدة وتبتعد وفي هذا الابتعاد محاولة مرتجفة ومشوشة ومجنونة لمحاولة فهم عبث ما يحدث، لمحاولة فهم عبث الوجود، وفائض أن توجد، كيف يكون هذا الاشتغال الصامت لتوليف هذه المتناقضات ، لقول هذا الترنح والبلبلة والتشوش في الكتابة والوجود المهدد؟

لا تستطيع الكتابة فعل شيء، وليس بمقدورها أن تردَّ الخراب، نحنُ كبرنا في هذه الحرب، أو لنقل في هذا الموت، وليس غريبًا الربط فيما بين الموت والحرب، ولكن الغريب هو ربط الموت بحياة جديدة تنبعث من قلب الخراب، لا يمكن تجميل الحرب، ولا يمكن كذلك بطبيعة الحال تجميل الموت، لكن من الممكن جدًّا التعامل مع الموت كصديق وليس كعدوّ، صديق مؤقّت يأتي في أوقات معيَّنة ومباغتة، لا أملكُ رؤىً فلسفيَّة لهذا المعضل (عبث ما يحدث أعني)، ولا حتّى رؤى شعريَّة، فقد سبقني الكثيرُ في فكِّ المعضل هذا، سواء كتابةً أو رقصًا او رسمًا، أو حتّى موتًا! هذا يحيلنا إلى سؤالٍ قديم: ما العمل إذًا؟ أقولُ في سرّي على الدوام: "لن نفعلَ شيئًا سوف نبقى صامتين ونتفرَّج معًا"، فقط هكذا.

جوان تتر: نحنُ كبرنا في هذه الحرب، أو لنقل في هذا الموت، وليس غريبًا الربط فيما بين الموت والحرب

  • عنوان ديوانك "كتاب الأشياء" يغري بالقراءة وتصفحه وفهم هذه العلاقة الجديدة والقديمة أيضًا بين الكلمات والأشياء، بين ما قيل وبين ما اكتشف من جديد في هذه العلاقة الغامضة والصامتة بين الشيء وبين الكلمة التي تمنحه الوجود وتخرجه من الصمت والغفلة، كأن هذا العنوان يأتي من ذاكرة قارئ ابتعدت لتقترب بشكل جديد مما سبق لها وقرأته ثم طواه النسيان ليعود للحضور مسكونًا بأشياء الذات والوجود والغياب وليبني علاقة جديدة موسومة بإيقاع الذات وهي تشهد أمامها سقوط كل اليقينيات وخراب الوجود والمداهمة بالغياب؟ لا يمكننا الشعور بالذنب ونحن نكتشف في لحظة وصدفة تشابه عنوان اخترناه ملتصقًا بجلدنا مع عنوان ديوان شاعر آخر، كيف يمكنك الكلام عن هذه الصدفة المحرجة شيئا ما؟

الصدفة محرجة حقيقةً أن يكون في ذاكرتي اسم كتاب لم أقرأه أبدًا، كانَ عليَّ الاعتذار وفعلت! ولكن الأشياء الخاصَّة بي سوف تختلف بالطبع عن أشياءِ أحدٍ آخر، وحتّى لو كانت تلك الأشياء متشابهة فثمّة طرح مغاير وزاوية رؤية مغايرة كذلك الأمر. ثمة كتب كثيرة، فلسفيَّة وأدبيَّة تحدّثت عن الأشياء، لا مجال لذكرها هنا، تبقى الحقيقة في الاختلاف، حتّى وإن كانت العناوين متطابقة، شعراء كبار حصل معهم ذلك، وأنا لا زلتُ أحبو، أو لنقل أكتب فقط كي أحاول أن أُزيح عن كاهلي الأشياء التي أحببتها، كي أبتعد عنها مسافة ومن ثمّ أتأمّلها كأشياء خرجت من روحي وبدأت تمضي إلى حياتها الخاصَّة. 

اقرأ/ي أيضًا: ياسر خنجر: تنازع مكانين في هويتي يزيدها اكتمالًا

أذكر أنّني احترت في اختيار عنوانٍ لنصٍ لي في كتابي النثري الثاني "الموتى يتكلّمونَ هباءً"، الصادر لدى دار أبابيل في 2017، فاخترت "لا أريدُ لهذي القصيدة أن تنتهي" وهي للفلسطيني محمود درويش، أعتقد أنّ الشعور بالذنب يأتي لأنّ للحرب وجهين، وجهٌ يجعل من بعض الناس هشّين ورقيقين، وآخرُ يجعلُ من الإنسان وحشًا مفترسًا، نحنُ لا ندورُ حول دائرة الحرب، بل نحيا الحرب في كلّ دقائقِ يومنا.

  • مثل شعراء معاصرين، تترنح بين كتابة النثر والقصيدة، يبدو جليًا أن النثر يغويك بالحرية التي يمنحها لك، قدرته على الذهاب والإياب، قدرته على معانقة واحتواء تشوش الذات والعالم بشكل رحيب، بينما القصدية تترجم التمزق تبرز كسلسلة من الصور الثابتة أو رسومات لما يضيع ويختنق أو يموت، كيف يمكنك الحديث عن هذا الانجذاب المزدوج؟

لم أختر شيئًا، الشيء هو من يختارني، دائمًا أجدُ نفسي مشلولًا حين أُجبَرُ على الاختيار، أكتب دونما تصنيف، في النهاية التصنيف يقيِّد من حريَّة أي شيء، النثر يغويني نعم، يجعل من الأمر، أمر الكتابة، شيئًا ممتعًا وباعثًا على الارتياح، مذ بدأت أكتب وأنا أبتعد، أو أحاول أن أبتعد، عن التصنيف، ربمّا لأنّ التصنيف يشوّه، تصنيف أي شيء يشوّهه ويحدّ من حريِّته.

  •  هل الشعر موجود في نظرك لينقذ الوجود وليكون أيضًا ما يدمره، هل القصيدة هي الهاوية وهي أيضًا ما ينفي الهاوية في الحين نفسه؟

الشعر أنظر إليه كشيء يومي، أعني لا بدّ أن يكون متواجدًا في يوم الإنسان، اليوم أعني بالمفردة "كلّ الأيَّام"، الأمر ربمّا نسبي ولكن من المفترض أن يكون متواجدًا وبقوَّة، التعبير عن الشيء أو الحديث عن شيءٍ ما بعينه لا بدّ أن يكون متوفِّرًا، الشعر لا ينقذ الوجود ولكن ربمّا يساعده بعض الأوقات كي لا ينجرَّ أكثر نحو ظلمه أو ربمّا يمنعه من التمادي أكثر في تعسِّفه، العديد من الصور حولنا، الصور اليوميَّة تدفع بي وبأي إنسان عاقل نحو الهاوية، صور القتل، النهب، الخراب، الدم، لذا فالشعر يحاول أن يكونَ مرآةً لتلك الصور، نقرأُ لأي شاعر لنعرف ما الذي كان يحدث في زمنه، من ناحية الشعور، لأنّه الأصدق حتمًا، هو شيء من التوثيق الشعوري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عبد الرحيم يوسف: أهرب من الواقع لأفهمه أكثر

منصورة عز الدين: ليست الرواية فقط أن تحكي حكاية