01-مارس-2019

طالب ماكرون باعتبار مناهضة الصهيونية جزء من العداء للسامية (Getty)

يصعد المنصة، بسحنة بيضاء تميل إلى الصفار، ووجه يتصبب عرقًا، ليصدح بصوت جهوري مسموع: "معاداة السامية ليست مشكلة اليهود، بل مشكلة الجمهورية الفرنسية". تتضح الصورة أكثر؛ المتحدث هو الرئيس الفرنسي، والحضور هم أعضاء المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية بفرنسا، أو المعروف اختصارًا بالـ "كريف".

 مفهوم السامية أصلًا مفهوم أيديولوجي نازي، مهما ارتكز على استقرار اصطلاحي، صوابي سياسي،  ليدل على اليهود حصرًا وعلى تجريم العداء لهم، دون الشعوب "السامية" الأخرى

إلى هنا، لا شيء يعاتب على خطاب الرئيس، الذي يتلو كلماته وسط تصفيق الحشد الجنوني. وصولًا إلى قوله: "معاداة الصهيونية شكلٌ معاصر من معاداة السامية". تنفجر القاعة تصفيقًا، بينما يشده المتتبع من لؤم القولة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف بررت بولندا دعوات اليمين المتطرف لـ"هولوكوست المسلمين"؟

لم يكن تفتّق كل هذه النباهة الصوابية الفرنسية من عبث، مصادرة حق التعبير والانتقاد السياسي، مجسدة لب التصور الليبرالي  لممارسة الديموقراطية. يمكن لك أن تمس كل شيء إلا من يدفع لنا. في مقابل أن الحضور ككل كان من خيرة رجال الأعمال اليهود الفرنسيين، والذين يمثلون جانبًا أكبر من رأس المال الفرنسي، أي وبتعبير آخر، من تسقط تحت أقدامهم شعارات ثالوث الجمهورية الرنانة، لتتعرى بعدها سوءة المستعمر سافرة؛ الحرية نعم لكن في حدود مصلحتنا.

وفي سياق لا زالت فيه القضية اليهودية تحشر في نطاق "الحق الذي أريد به باطل"، باطل الاحتلال أقصد، استغلال الشعوب، وأوراق الضغط السياسي.

من محاكمة إيخمان في القدس، كما أوضحت ذلك المفكرة الأمريكية اليهودية حنة أرندت، إلى خطاب ماكرون الأخير، تتبين هذه المتاجرة البائسة بمأساة الشعوب. في مقابل عواقبها التي تعري نفاقا سياسيًا واستغلالًا مجحفًا، فرنسيًا إسرائيليًا، تجاه الشعب اليهودي، قبل أن يكون تجاه أي شعب آخر.

أسبوع ضد السامية

"ارحل! يا صهيوني! يا عنصري!"؛ بهذه الكلمات استقبل أفراد السترات الصفراء المفكر الفرنسي الصهيوني آلان فنكيلكروت، كان ذلك إبان التحرك الاحتجاجي الرابع عشر لذات الحركة، في باريس يوم السبت 16 شباط/فبراير. راشقة إياه بأقذع الأوصاف، كما يظهر في الفيديو الذي نشرته شبكة ياهو، والذي يبرز تجمهر مجموعة محتجين حول الشخصية البارزة، مصاحبًا ذلك هتاف: "اطردوا هذا العنصري اللعين! لقد أتى كي يستفزنا!".

فيما فتحت محكمة باريس تحقيقًا في النازلة، تحت تهم الإيذاء على أساس عرقي، إثني وديني، معتبرة أن ما تعرض له المفكر الفرنسي مظهر من مظاهر معاداة السامية، المجرمة حسب قانون البلاد. فيما صرح الضحية المفترض: "لقد أحسست بالحقد يحيطني، وأصابني الخوف في تلك اللحظة". فيما علق الرئيس الفرنسي ماكرون على الحادثة، في منشور على صفحة تويتر، أن الهجومات المعادية للسامية، حسب وصفه، تخالف القيم الجمهورية للمجتمع الفرنسي.

وفي وهدة الزخم الذي أثارته حادثة فنكيلكروت، تواردت الإدانات من قبل الوجوه الفرنسية البارزة. من عالم السياسة، والثقافة والفن، كلهم عبرو عن رفض قاطع لما اعتبر مسبقًا ما اعتبر. حيث عبر وزير الداخلية، كريستوف كاستانير، أن كل تلك الهجمات لا تمثل روح فرنسا، مطمئنًا الرأي العام أن تحقيقًا قد فتح في القضية، وأنه تم تعيين مشتبه فيه مسؤول عن الأحداث، حسب المتحدث، وبطبيعة الحال هذا المشتبه به قريب من أوساط عربية.

وفي مسيرة جنائزية بائسة نظمت بقلب باريس، تجمهر بعض المئات من المجتمع المدني، يتخللهم رجال سياسة وثقافة فرنسيون بارزون، يتوسطهم الضحية فنكيلكروت، لتشييع آخر مساحة لحرية التعبير داخل الجمهورية المتنورة.

ذات الضحية فنكيلكروت، التي صرحت في حوار لها مع الإذاعة الفرنسية RCJ: "أن أطفال غزة لا مكان لهم في هذا العالم". والتي دعت إلى وقف توالد العرب على أرض فلسطين، ووقف الدعم لللاجئين الفلسطينيين، وإنهاء وجودهم على أرضهم الأم.

من معاداة السامية إلى معاداة الصهيونية

لم تقف مسرحية الإدانة العامة للهجوم على فنكيلكروت عند حد منشورات تويتر، والتصريحات، أو حتى المظاهرات التي نظمت دفاعًا عنه. بل تعدت ذلك إلى قاعات البرلمان الفرنسي، والمطالبة بإقرار قانون تجريم "معاداة الصهيونية". والتي يقصد بها المطالبون: معارضة وجود، وتوسع دولة إسرائيل. حسب سيلفيان ميارد، النائبة عن حركة فرنسا إلى الأمام، والتي أثارت موضوع هذه المطالبات، فإن كره إسرائيل هو شكل جديد من كره اليهود، وأن معاداة السامية تتخفى حاليًا تحت غطاء المعارضة السياسية لإسرائيل.

في حين وافقت الدعوة البرلمانية إرادة رأس هرم الدولة الفرنسية، وفي وقت سابق، اعتلى ماكرون منصة الكريف منبهًا لما أسماه ضرورة توسيع مفهوم معاداة السامية ليشمل معاداة الصهيونية. وبالتالي، رغم تعطيل الرئيس مطلب النائبة، فنواياهما تسبح على نفس طول الموجة، موجة رأس المال الإسرائيلي الذي يتغلغل في صلب الاقتصاد الفرنسي.

بالمقابل لا يمكن قراءة ردة الفعل هذه سوى داخل سياقها الفرنسي الحالي، من جهة لتكسير صمود حركة السترات الصفراء، والتي دأب نعتها من طرف ماكرون باليمينية المتطرفة، وأنها ذنب من أذناب مارين لوبان ومن لف لفيفها. وها هي حادثة فنكيلكروت تأتي كدليل إثبات، لكل ما حيك من ترويع وترهيب إزاء هذه الحركة الاحتجاجية الجماهيرية والعفوية. ومن جهة أخرى، كون اللوبي الصهيوني يشكل جانبًا مهمًا من اقتصاد البلاد، والذي تقوم عليه سياسة ماكرون، متحكمًا بكل مجالاته ومن أهمها الإعلام، وبالتالي فإنها فرصة سانحة، تستغلها هذه القوة الضاغطة لتصفية حسابها مع الحركة، وبسط هيمنتها أكثر بشكل مقنن.

ردة الفعل العكسية

تنبني مفاهيم هذه الانتفاضة الأخلاقية الفرنسية، أو على الأقل كما يتم تصويرها إعلاميًا، على أرضية تحمل مغالطات لا تحتاج لإيضاح. وإن دعت الضرورة فعل ذلك، فإن مفهوم السامية أصلًا مفهوم أيديولوجي نازي، مهما ارتكز على استقرار اصطلاحي، صوابي سياسي،  ليدل على اليهود. ففي جذوره اللسانية كدلالة افتراضية على مجموعة لغوية ليست العبرية إلا لغة منها، وفي أصوله الثيولوجية فاليهود يشتركون والعرب في نفس الجد المفترض. وبين هذا وذاك ينتهي تخصيص اليهود بهذه الصفة، وبالتالي بتجريم معاداتهم، هم وفقط، إلى عنصرية تصفوية.

ومن ناحية أخرى، لا يتسق تجريم معاداة الصهيونية مع تجريم معاداة السامية، بحيث إنه لم يزل اليهود منبوذين من طرف الحكومات الأوروبية، فلماذا يتم رميهم خارج بلدانهم الأم؟ وتلميع صورة الكيان السياسي الآخر لتحفيزهم للهجرة إليه؟ يجد هذا التساؤل جوابه عند سلافوي جيجك، المفكر السلوفيني، إذ يقول: "إن الأوروبيين قبلوا اليهود بشرط أن يعيشوا بعيدا، خارج أوروبا"، وبالتالي فيمكن فهم وجود إسرائيل على كونه أحد تمثلات النازية الأوروبية، وأجلى أشكال معاداة السامية.

بالمقابل تولد هذه الصوابية السياسية الفرنسية تجاه اليهود ردة فعل عكسية، تحشد أفواه اليمين الشعبوي لتجد تبريرًا لخطابها العنصري، ضد ساميين من نوع آخر (إذا صحت التسمية)؛ جماهير العرب المهاجرين. هكذا طلعت علينا تحليلات إيريك زيمور، وهو ليس بالكاتب الذي يؤخذ عادة على محمل الجد المعرفي، محملة ما حدث لفنكيلكروت لجحافل المغاربة الإسلاميين الذين يسعون لتقويض التحضر الأوروبي، حسب ما صرح به لقناة LCI.

اقرأ/ي أيضًا: المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل: انتصارات وتناقضات

وحسب ذات المتحدث، فإن هناك تحالفًا بين اليسار الراديكالي وجماعة الإخوان المسلمين، على أساسه يدعم الثاني الأول بقاعدة انتخابية من المهاجرين المسلمين وسكان الضواحي، وفي المقابل تستحوذ الجماعة الإسلامية على فرنسا بمحاربة المسيحيين واليهود. مزاعم زيمور هذه، والتي تبلغ في شكلها أعلى مراتب السوريالية، لا يمكن التعامل معها بجدية، غير أنها تمثل بصراحة الصوت الذي تفتح له فرنسا المجال لكي يطغى، بل وتحشد فيه إذ توفر له الترسانة القانونية التي تستجيب لخطابه ذاك.

 تولد الصوابية السياسية الفرنسية تجاه اليهود ردة فعل عكسية، تحشد أفواه اليمين الشعبوي لتجد تبريرًا لخطابها العنصري، ضد ساميين من نوع آخر؛ جماهير العرب المهاجرين

هكذا، وبذات الشكل، تكون قرارت كتلك التي دعى لها ماكرون خلال عشاء الكريف، عنصرًا أساسيًا في رفع خطاب الكراهية ضد اليهود، تقول ميشيل سيبوني رئيسة الاتحاد اليهودي الفرنسي للسلام، أي الحديث عن إسرائيل كدولة لها وضع خاص، منزهة عن الخطأ وبالتالي منزهة عن الانتقاد. مضيفة في حوارها مع قناة روسيا اليوم، أنه يمكنها تفهم شعور البحث عن الوطنية الذي ساد الوعي اليهودي إبان تأسيس الكيان الصهيوني، منطلقة من تجربة والدها الذي عاش ويلات الاستعمار الفرنسي للمغرب، لكن في نظرها أن هذا ليس مبررًا لبناء هذا الحلم على أنقاض مآسي الشعب الفلسطيني، بل وفرض الصمت حيال هذه المأساة اليومية بتجريم انتقادها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حرب لوبي إسرائيل ضد جيرمي كوربين.. تهمة معاداة السامية ثمن الانتصار لفلسطين!

الرايخ الرابع في تل أبيب.. حرب إسرائيل "النازية" على جيرمي كوربن