10-نوفمبر-2015

كانت قصيدة جهاد هديب تستسقي شعريتها من عوالم غير مألوفة

قبل ما يزيد عن عشر سنوات، كنت واحدًا من شبيبةِ اللجنة الإبداعية في نادي أسرة القلم الثقافي، وفي مساء شتائيّ كئيب، قررت أنا وعدد من هؤلاء الشبيبة أن نبدد الكآبة بأن نشغل أنفسنا بفهرسة مكتبة النادي، وما إن بدأنا العمل حتى غمرتنا نشوة فرح ولذة رغم غيمة الغبار التي تحلقت فوق رؤوسنا وكانت ساكنة لزمن طويل بين الكتب التي تنوعت موضوعاتها بين أدبية وعلمية وتاريخية.

 تميز جهاد هديب بالحميمية والود الكثير في حديثه عن غيره من شعراء جيله والجيل الذي سبقه

لماذا أتذكر ذلك المساء البعيد جدًا؟ بالتأكيد هو لا يعنيكم بشيء، لكنه يعنيني جدًا الآن بعد مضي ما يقارب العشر سنوات، فمن بين تلك الكتب الكثيرة وقع نظري على اسم جهاد هديب على غلاف أحدها لم أعد أتذكر عنوان الكتاب وأظنه كتابه الأول "تعاشيق"، ولم أكن قد عرفته أو سمعت به قبل ذلك، لفتتني القصائد في تصفحي السريع للكتاب بالأسلوبية الشعرية المغايرة والمختلفة عن فهمي البسيط للشعر آنذاك، فوضعت الكتاب جانبًا حيث الكتب التي سأصطحبها إلى البيت.

توقفت قراءتي لقصيدة جهاد هديب عند هذا الكتاب، فلم أتابعه حتى عام 2007 عندما بدأت أتصفح مجلة "الكرمل"، التي كان يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش من خلال موقعها الإلكتروني، عثرت من جديد على قصائد جهاد التي لا يكاد يخلو عدد منها. قرأته بنهم فقد شدتني قصيدته النثرية رؤية وصورة ولغة فهي ليست كتلك التي أسسها الماغوط أو أدونيس أو غيرهم من روادها، بل كانت تستسقي شعريتها من عوالم غير مألوفة استدل عليها بعد طول دراسة للشعرية العربية والعالمية وما خرج عنهما من تنظير، فكان يعي تمامًا الحدود التي تميز بين القصيدة الحرة وقصيدة النثر، تلك الحدود التي يجهلها أغلبية شعراء جيله من كتاب قصيدة النثر.

على هامش إحدى الفعاليات الثقافية، جئت أنا وصديقي المسرحي خليل نصيرات على ذكر جهاد هديب، فأخبرني عن مدى إعجاب جهاد بتجربتي الشعرية المتواضعة وأنه من المتابعين لها، وفاجأني جهاد نفسه لاحقًا حين أخبرني أنه تعرف عليها من خلال الوسط الثقافي في رام الله وليس عمّان، وفي الليلة نفسها صرت أنا وجهاد أصدقاء ضمن ما يسمح به الفضاء الفيسبوكي، تواصلنا مرارًا تحدثنا من خلال نافذة المحادثة الضيقة عن آرائنا بالشعر وتجارب الشعراء الشباب، حيث لفتتني الحميمية والود الكثير في حديثه عن غيره من شعراء جيله والجيل الذي سبقه، وهذا أمر لم نألفه بين الشعراء، وتحديدًا في الأردن، وضربنا أكثر من موعد معولين على قدومه إلى عمّان أو ذهابي إلى دولة الإمارات حيث يقيم ويعمل.

التقينا في معرض الشارقة الدولي للكتاب، كان ودودًا وجميلًا ومحبًا وصاخبًا رغم هدوئه الشديد، كانت لقاءاتي به سريعة لا تتجاوز محيط المعرض للحديث والتدخين. وعند زيارته إلى عمان التقينا في أحد مقاهي العاصمة القديمة وكان برفقة القاص نبيل عبد الكريم. تحدثنا كثيرًا عن الشعر والقصة والصحافة وكنت للتو قد بدأت أراسل القسم الثقافي في جريدة الاتحاد الإماراتية، الصحيفة التي يعمل جهاد محررًا في قسمها الثقافي، وأثناء عودتي إلى البيت كنت أفكر طوال الطريق بهذا الشخص الذي لا يزال يراهن على المحبة والصداقة والمبدأ وقوة الشعر والاهتمام بالآخرين حد الدلال.

ذات مساء اتصل بي وأخبرني أنه في عمّان من جديد لمدة أسبوع، ثم اطمأن على أحوالي بسؤاله عن أدقّ أدق التفاصيل، وأخبرني أنه سيمكث لمدة يومين "في حضن الحجة"، يقصد والدته، ويومين لمراجعة الأطباء بشأن ألم شعر به مؤخرًا في جيوبه الأنفية، وما تبقى هو للسهر مع الأصدقاء. وبعد انقضاء الأربعة أيام اتصلت به حيث كان مقررًا أن يجري عملية جراحية للجيوب فجاءني صوته عبر الهاتف محاطًا بضوضاء الشارع، فاستغربت خروجه إلى الشارع وكان من المفترض أن يكون على سريره الأبيض، فأخبرني: "الموضوع طلع لا جيوب ولا غيره يا صديقي، بل سرطان حنجرة"، وأنه منذ مطلع الأسبوع القادم سيخضع لسلسلة علاجات طويلة. بالبدء صعقني الأمر إلا أنني ضحكت وذكرته كيف أن الكاتب محمد طمليه نكّلَ بهذا المرض الذي يتغطرس على المرضى وأطبائهم، وطلبت منه أن يهشم أنفه منذ الجولة الأولى فلم يعلق سوى بالضحك والوعود.

مات جهاد هديب ولم يتحقق له حلمه بالتفرغ لمشروعه الشعري.. الحلم الذي كان يسعى إليه ويجتهد لتحقيقه

تتالت الاتصالات والإيميلات بيننا، فترة علاجه بعمان، دون أن ألتقيه، فقد كان مشغولًا جدًا في حربه مع عدوه الذي يقف شوكة في حلقه. إلى أن كانت ليلة رأس السنة 1/1/2015 فرصة لألتقيه مع مجموعة من الأصدقاء منهم الشاعر زهير أبو شايب، والقاصة بسمة النسور، كانت ليلة احتفاء بهذا الشاعر دون أن نقصد، وكانت ليلة أمل وضحك وشعر لم يخطر لأحدنا أنه عامه الأخير وأن جهاد لن يكون بيننا ليلة رأس السنة القادمة، وأن هذا اللقاء هو لقائي الأخير به، فبربك يا جهاد من أين لنا أن نعرف ذلك أو نستشعره وأنت رغم مرضك الخبيث لازلت تتحدث عن مشاريع شعرية وحياتية قادمة.

والآن مات جهاد هديب، هكذا يقولون، ولم يتحقق له حلمه بالتفرغ لمشروعه الشعري.. الحلم الذي كان يسعى إليه ويجتهد لتحقيقه، مات جهاد وها أنذا أقرأ نعي الأصدقاء والأعداء والغرباء له، وها هي جنازته تمر من مسافة قريبة جدًا من بيتي، لكنني لم أخرج ولم أشيّعه لأن ذلك المسجى على أكتافهم لا بد وأن يكون شخصًا ما يتقمصك هو ليس أنت فلا زالت بيننا مواعيد كثيرة على قيد الحياة، كأن نلتقي، بترتيب منك، بمعرض أبوظبي للكتاب في دورته المقبلة، وكذلك سعيك إلى أن نلتقي أيضًا في مهرجان سيت الشعري القادم. أنا أنتظرك يا صديقي وأتصبر بمنادمتي كل ليلة لتمثالك المخمور.

رحلت تاركًا لي تمثالك المخمور
يسخرُ من جسدي المستيقظ 
يتوعدني ضاحكًا بالضرب حتى الصباح 
إن لم أتقن صنع تمثالٍ مخمور
يلبس كنزة دافئة في الشتاء
ويحملُ مروحة في الظهيرة القائظة.

اقرأ/ي أيضًا:

كلنا نصدقك يا يانكوفيتش

فؤاد حداد.. كلمة مصر والفقراء