26-فبراير-2017

عمل تجهيزي لـ فيصل بغريش/ الجزائر

كتب الولهي بن الجازية صاحب الرّيشة في يومياته: تركتُ نصّي مبتورًا (هكذا تركته أنا، أمّا هو فقد يكون نصًّا مكتملًا)، وانسحبتُ إلى فراشي أفكّر يوميَ كيف كان.

من عادتي أن أراجعه ساعةً بساعةٍ، حتى إذا بلغتُ ساعة النّوم رفعتُ القلمَ، وفي تلك أعفيتُ الصّباحَ والمساءَ، واستحضرتُ الظهيرة فقط. لا شكّ في أنّ الإنسان الذي التقيتَه، فأنساك صباحَك ومساءَك مهمّ يا الولهي؟ تحسّ معه بأنّ الأهمية إنسان؟ أرأيت ضحكَه على نفسه، وهو يقصّ عليك سمر المعمل؟ ما أحكي لك وما لا أحكي يا الولهي؟ من عادتي أن أخلو إلى نفسي إذا كثر جلسائي، فأحدّثها وأسمعهم، حتى إذا سكتوا استمروا يتحدّثون داخلها، فلا أحسّ بالغربة مفردًا ومجموعًا، لكنّ المعمل وحده يا صديقي. إذا كنت تحبّ أن تصمت، فراحتك مع جليس ثرثار، وأنا وجدت راحتي في المعمل.

إذا تعشّينا وغسل كلٌّ مواعينَه، توزّع الخلق على زوايا المرقد اثنين/اثنين، وشرعوا في الحديث ونسياني. 
يا ربي.. كم يتكلمون! وكم أصمت! يكذب عليك يا الولهي من يقول إنّ النفس لا تنعكس في اللغة، ليل المعمل علّمني أنّ النفوس لغات، ولا يترجمها إلا الصّامتون. 

الثنائي الأوّل: فاتحة الحديث بينهما سؤال ثابت يُبادر به أحدُهما، ومن المبادرة تدرك من يملك الجديد، ومن يريد أن يعرفه، (يا الولهي، لا يُبادرنا بالسّؤال من يملك المعلومة):
- هل ظهرت تلك العاهرة؟
وبما أنها لم تظهر، فإن أفعال المضارع تغلب على أفعال الماضي، (من كانت طريدته أمامه، كانت خيبة الماضويين فيه كبيرة).
يقول الأول: إن ظهرتْ سأفعل فيها
وأفعل
وأفعل...
وعادةً ما تُنقّح تلك الأفعال بإضافات الثّاني، حتى يكتمل معنى الحقد والتهديد فيها. (أرأيت يا الولهي؟ لا يسكن الحقدُ إلا في الخشين من اللغة)، حتى أشفقتُ على العاهرة بالغيب، لكن لماذا أسمّيها عاهرة، وهي في رحم الغيوب؟! أرأيت؟ أعظم جريمة يرتكبها الإنسان أن يحشو اللغة بحقده، فيسري على الألسنة، وبالتراكم اكتسبتُ صديقة جديدة لا تعرفني.
 
الثنائي الثاني: فاتحة الحديث بينهما تقرير ثابت يُبادر به الفاعل عن خصمهما المشترك. (يا الولهي لا مبادرة إلا لفاعل): لقد جعلتُه اليوم يكره حياتَه. 
ويحسّ الثاني بعزّة المبادرة في نبرة صاحبه، فيشرع في سرد مبادراته السّابقة، (يا الولهي الماضي هو المجال الحيوي للفاشلين)، يحسّ السّامع بالعقدة في نبرة صاحبه، فيشرع في سرد مبادرة اليوم، (لا يدرك صراعَ الأزمنة في السّرد، إلا أصحابُ النفوس التي تريد أن تتفوّق)، ويضاعف القسوة في الأفعال، (الحقد مطّاط في كل الأزمنة اللغوية)، حتى أشفقتُ على الفتى بالغيب، يريدانه أن يكره حياته، لست أدري لماذا؟! وبالتراكم صار لي صديق جديد لا يعرفني.

الثنائي الثالث: فاتحة الحديث بينهما صامتة، ما يقتضي أن تشغّل البصر، (المنافسة في الأحاديث البصرية أكثر نبلًا). يطرح أحدهما قرصًا مضغوطًا جديدًا، فيتلقّفه الثاني ويتأمّله بلا عقدة، (كأنّ التكنولوجيا تبرّر باتساعها جهل من جهل!)، يضعه ويرفع الكلْفة عن الأسئلة، فتتداعى على صاحبه زخاتٍ... زخاتٍ حتى يُخْصب بالمعرفة، (هنا تصحّح التكنولوجيا خطأها المذكور)، يسبغ على الـ C.D أفعالًا لا تحدث إلا في المستقبل:
يفعل
ويفعل
ويفعل...، (ليس هناك إلخ)، وبهذا يكون الفاعل ضميرًا مستترًا في الفعل حتى يفقد بروزَه.

مرّةً كنتُ دائخًا وأنا أسمعهما، فتخيّلتُ مظاهرةً لحشود من البشر، تصدّها حشود من الآلات، وبعد دقائقَ رأيت آلة تطلق زوجًا من الضوء على الجمع المطالب بالبروز، واحدًا كتم الأصوات، فلم تبق إلا الأيادي ترتفع في الهواء، وواحدًا أخفى الحروف في اللاّفتات، فباتت كأنها أكفان فوق رؤوس أصحابها، (هناك علمت ألاّ صديق لي في الغيب).

أضاف الولهي بن الجازية صاحب الريشة: تركت الفراش وحديث الظهيرة، وهرعت إلى نصّيَ أكمل ما بقي ناقصًا فيه، ضغطت على O.K لأشغّل اللاب توب، فبرز أمامي واضحًا على الشّاشة. لازلت أحتفظ بعادة أن أبصق بين راحتيّ قبل أن أشرع في عمل ما، فبصقت وشرعت في التكملة. عاد حديث الظهيرة إلى ذهني فتركت النص. 

الثنائي الأخير: فاتحة الحديث بينهما لعنة ثابتة، يبادر بها أحدهما على الحياة الكلبة بنت الكلب التي جعلته يكره عمْرَه.
ياه..
كم تهمةً قذفا بها الحياة، حتى لم يبق فيها شيء يصلح، حتى أنا لا أصلح، فوجدتُني أدافع عن نفسي، إذ أدافع عن الحياة. 

ختم الولهي بن الجازية صاحب الرّيشة: صحت بأعلى صوتي/ رفعت صوت الموسيقى/ ركبت الكرسي، ورحت أصفّق في الهواء: وجدتَ نهاية النصّ/ وجدتَ نهاية النصّ: أدافع عن نفسي إذ أدافع عن الحياة.

 

اقرأ/ ي أيضًا:

حين يضحك البحر في بيروت

القمَر والخُبز والوُجوه